استدلال النافین لحجّیة الخبر الواحد بالکتاب
فاستدلّ المنکرون بوجوه :
فمن الآیات : قوله تعالی : «أَنَّ الظَّنَّ لا یُغْنِی مِنَ الْحَقِّ شَیْئَاً» .
ولکن المتدبّر فی سیاق الآیات یقف علی أنّها راجعة إلی الاُصول الاعتقادیة .
ومنها : قوله تعالی : «وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِـهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ کُـلُّ اُولَئِکَ کَانَ عَنـْهُ مَسْئُولاً» وذیل الآیـة یوجب تعمیمها للفروع ؛ لو لم نقل باختصاصها بها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 429
ولکن صحّة الاستدلال بها مستلزمة لعدم جواز الاستدلال بها ؛ وذلک لأنّه یدلّ علی نحو القضیة الحقیقیة علی الزجر عن کلّ اتّباع بغیر علم یوجد فی الخارج ، مع أنّ الأخذ بظاهر الآیة أیضاً اتّباع لغیر علم ومصداق له ؛ لأنّ دلالتها علی الردع عن غیر العلم ظنّیة لا قطعیة ، فیلزم من الأخذ بمدلولها عدم جواز اتّباعها ؛ لکون دلالتها بالفرض ظنّیة ، والآیة شاملة لنفسها ؛ لکونها قضیة حقیقیة .
وربّما یقال : إنّ الآیة غیر شاملة لنفسها لأجل المحذور الذی ذکر . وبعبارة اُخری : أنّ الآیة مخصّصة عقلاً ؛ للزوم المحال لولا التخصیص .
أقول : إنّ الاستحالة مندفعة بأحد أمرین : الأوّل ما ذکره القائل من عمومها لکلّ غیر علم إلاّ نفسه ، والثانی بتخصیصها بما قام الدلیل علی حجّیته .
ولا ترجیح ، بل الترجیح للثانی ؛ لأنّ الآیة وردت للزجر عن اتّباع غیر العلم ، ولا یتمّ الزجر إلاّ إذا کان ظاهرها حجّة عند المخاطبین ؛ حتّی یحصل لهم التزجّر عند الزجر ، ولا وجه لخروج ظاهر الآیة عن هذا العموم إلاّ کون الظواهر حجّة عند العقلاء ، کسائر الظنون الخاصّة .
وحینئذٍ : فخروج ظاهر الآیة أو مطلق الظواهر دون سائر الظنون تحکّم محض ؛ لوجود البناء من العقلاء فی الموردین .
هذا ، مع أنّ هذه الآیة قابلة للتخصیص ، وما لا تقبل له راجعة إلی الاُصول الاعتقادیة .
ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر قدس سره قد أجاب عن هذا الإشکال بما هذا حاصله : إنّ نسبة الأدلّة الدالّة علی حجّیة الخبر الواحد إلی الآیات نسبة الحکومة لا التخصیص ؛ لکی یقال إنّها آبیة عنه ؛ فإنّ تلک الأدلّة تقتضی إلقاء احتمال الخلاف
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 430
وجعل الخبر محرزاً للواقع ؛ لکون حاله حال العلم فی عالم التشریع . هذا فی غیر السیرة العقلائیة القائمة علی العمل بالخبر الواحد .
وأمّا السیرة فیمکن أن یقال : إنّ نسبتها إلیها هی الورود ، بل التخصّص ؛ لأنّ عمل العقلاء بخبر الثقة لیس من العمل بالظنّ ؛ لعدم التفاتهم إلی احتمال المخالفة للواقع . فالعمل به خارج بالتخصّص عن العمل بالظنّ .
فلا تصلح الآیات الناهیة عن العمل به لأن تکون رادعة عنها ؛ فإنّه ـ مضافاً إلی خروج العمل به عن موضوع الآیات ـ یلزم منه الدور المحال ؛ لأنّ الردع عن السیرة بها یتوقّف علی أن لا تکون السیرة مخصّصة لعمومها ، وعدم التخصیص یتوقّف علی الرادعیة .
وإن منعت عن ذلک فلا أقلّ من کون السیرة حاکمة علی الآیات ، والمحکوم لا یصلح أن یکون رادعاً للحاکم ، انتهی .
وفیه : أنّ ما هو آبٍ من التخصیص إنّما هی الآیات الناهیة عن اتّباع الظنّ ، وأمّا قوله سبحانه : «وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» فقد عرفت أنّه عامّ للاُصول والفروع وقابل للتخصیص .
وأمّا حکومة الأدلّة الدالّة علی حجّیة الخبر الواحد علی الآیات فلا أصل لها ؛ لأنّ الحکومة تتقوّم باللفظ ، ولیس لسان تلک الأدلّة ـ من آیاتها وأخبارها ـ لسان الحکومة ، کما لا یخفی .
وأمّا قوله علیه السلام : «العمری ثقة فما أدّی إلیک عنّی فعنّی یؤدّی ، وما قال لک
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 431
عنّی فعنّی یقول ، فاسمع له وأطع ؛ فإنّـه الثقـة المأمون» فلا یصلح لإثبـات ما رامه قدس سره ؛ فإنّ مفاده هو وجوب اتّباع قوله لوثاقته ، وأمّا تنزیل ما یقوله منزلة العلم حتّی یکون حاکماً علی ما دلّ علی الزجر عن اتّباع غیر العلم فلا یستفاد منه .
وأمّا السیرة : فالقول بأنّ نسبتها نسبة الورود أو التخصّص فلا یخلو عن ضعف ؛ لأنّ ذلک فرع کون العمل بالخبر الواحد عند العقلاء عملاً بالعلم ، وهو ممنوع جدّاً ؛ لعدم حصول العلم من أخبار الآحاد ؛ حتّی لو فرضنا غفلتهم عن احتمال الخلاف فلا یصحّ أیضاً ؛ لأنّ الورود والتخصّص یدور مدار الخروج الواقعی ، لا علی الخروج عند المخاطب ؛ فإنّ الورود لیس إلاّ خـروج موضوع أحـد الدلیلین عن موضوع الدلیل الآخـر حقیقـةً بعنایـة التشریع ، کما أنّ التخصّص هو الخروج حقیقةً وتکویناً ، ومع ذلک کلّه فهما یدور علی الخروج الواقعی لا عند المخاطب .
والعجب عمّا أفاده أخیراً من حدیث حکومة السیرة ؛ فإنّ السیرة عمل خارجی والحکومة من أوصاف دلالة الدلیل اللفظی ، فکیف یصحّ حکومة العمل الخارجی علی دلیل آخر ، مع أنّها قائمة بین لسانی الدلیلین اللفظیین ؟
نعم ، یمکن أن یقال بعدم صلاحیة تلک الآیات للردع عن السیرة الدائرة بین العقلاء ؛ لعدم انتقالهم من التدبّر فی هذه الآیات إلی کون الخبر الواحد مصداقاً له ؛ وإن کان مصداقاً واقعیاً له .
نعم ، یمکن تقریب ورود السیرة علی الآیات بوجهین :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 432
الأوّل : أنّ المراد من قوله تعالی : «وَلا تَقْفُ مَا لَیْسَ لَکَ بِهِ عِلْمٌ» أی لا تقف ما لیس لک به حجّة ؛ إذ لو اُرید منه العلم الوجدانی ، واُرید منه الزجر عن التمسّک بغیر العلم الوجدانی لزم تعطیل أکثر الأحکام أو ورود التخصیص الأکثر المستهجن ، وهذا نظیر حرمة القول بغیر علم أو الإفتاء بغیر علم ، وعلیه کلّ ما یدلّ علی حجّیة الخبر الواحد یکون وارداً علیه .
الثانی : أنّ نفس الطریق وإن کان ظنّیاً إلاّ أنّ ما یدلّ علی حجّیته أمر قطعی ؛ لأنّ ما یدلّ من ظواهر الآیات علی حجّیة الخبر الواحد حجّة قطعیة عند الخصم ، کسائر الظواهر ، فینسلک اتّباع الخبر الواحد فی عداد اتّباع العلم ، فیتمّ میزان الورود ، فتدبّر .
وأمّا مشکل الدور فی رادعیة الآیات عن السیرة ففیه ـ مضافاً إلی أنّه لیس دوراً اصطلاحیاً ؛ فإنّ الدور المصطلح ما یقتضی تقدّم الموقوف علی الموقوف علیه ؛ ضرورة عدم تقدّم الرادعیة علی عدم المخصّصیة ـ أنّ حجّیة السیرة یتوقّف علی عدم الرادعیة ، وعدم الرادعیة یتوقّف علی عدم مخصّص واصل ، وهو ـ أی العدم ـ حاصل ؛ إذ لا مخصّص فی البین .
وبالجملة : فإنّ الآیات بعمومها تدلّ علی الزجر عن اتّباع کلّ ظنّ وما لیس بعلم ، ورادعیة هذه الآیات تتوقّف علی عدم مخصّص من الشارع ، والمفروض أنّه لم یصل إلینا مخصّص .
وأمّا السیرة بما هی هی فلا تصلح أن یکون مخصّصة ؛ إذ لا حجّیة للسیرة بلا إمضاء من الشارع ، فالرادع رادع فعلاً ، والسیرة حجّة لو ثبت الإمضاء ، وهو غیر ثابت ؛ لاسیّما مع ورود تلک النواهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 433
فإن قلت : إنّ العمل بالخبر الواحد کان سیرة جاریة قبل نزول تلک الآیات ، وسکوت الشارع عنه إمضاء لها . وأمّا بعد نزول الآیات فالمقام من صغریات الخاصّ المتقدّم ـ السیرة ـ والعامّ المتأخّر ، فیدور الأمر بین تخصیصها بالسیرة المتقدّمة أو ردعها إیّاها .
وإن شئت قلت : الأمر یدور بین التخصیص والنسخ ، ومع عدم الترجیح یستصحب حجّیة السیرة .
قلت : إنّ التمسّک بالاستصحاب من الغرائب ؛ إذ لم یثبت حجّیته إلاّ بأخبار الآحاد .
أضف إلی ذلک : أنّ السکوت فی أوائل البعثة لا یکشف عن رضاه ؛ فإنّ أوائل البعثة والهجرة لم یکن المفزع والمرجع فی أخذ الأحکام إلاّ نفس النبی صلی الله علیه و آله وسلم ، فلم یکن أکثر الأحکام منقولة بآحاد الرواة حتّی تقع مورد الرضاء والردع .
وأمّا العمل بها فی الاُمور العادیة والعرفیة فلا یجب للشارع تحدید العمل والتصرّف فیها ، بل من الممکن أنّ الآیات نزّلت فی أوائل الأمر للردع عن العمل بها فی العادیات ؛ لئلاّ یسری إلی الشرعیات .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 434