ما أفاده الأعلام فی تقریر الأصل
الحقّ فی تقریر الأصل ما أفاده فی «الکفایة» فإنّه الأنسب بالبحث الاُصولی ؛ حیث قال : إنّ الأصل فیما لا یعلم اعتباره بالخصوص شرعاً ولا یحرز التعبّد به واقعاً عدم حجّیته جزماً ؛ بمعنی عدم ترتّب الآثار المرغوبة من الحجّة علیه قطعاً .
وما أفاده شیخنا العلاّمـة ـ أعلی الله مقامه ـ فکأنّه خارج عن محطّ الکلام ، فراجع ، هذا .
ثمّ إنّ ما أفاد الشیخ الأعظم قدس سره فی تأسیس الأصل من حرمة التعبّد بالظنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 404
الذی لم یدلّ دلیل علی وقوع التعبّد به إذا تعبّدنا علی أنّه من الشارع والالتزام به کذلک ، لا إذا أتی به رجاء إدراک الواقع ؛ فإنّه لیس بمحرّم إلاّ إذا استلزم طرح ما یقابله من الاُصول والأدلّة . ثمّ استدلّ علی مختاره بالأدلّة الأربعة .
فیه مواقع للنظر :
منها : أنّ البحث عن الحرمة التکلیفیة للتعبّد بالظنّ لا یناسب مع تقریر الأصل فی المسألة الاُصولیة . اللهمّ إلاّ أن یرجع إلی نفی الحجّیة بإثبات الحرمة ؛ استدلالاً علی الملزوم ـ عدم الحجّیة ـ بوجود اللازم ، بناءً علی الملازمة بینهما . والذی دعاه إلی ذلک بناؤه علی عدم کون الحجّیة مجعولة .
وفیه : منع الملازمة بینهما ، ولم یقم برهان علیه بل قام علی خلافه .
واُورد علیه قدس سره نقوض :
منها : ما عن المحقّق الخراسانی قدس سره ؛ قائلاً بنفی الملازمة بین الحجّیة وصحّة الاستناد ؛ مستشهداً بأنّ حجّیة الظنّ عقلاً علی الحکومة فی حال الانسداد لا توجب صحّة الاستناد .
ومنها : ما عن بعض محقّقی العصر قدس سره من أنّ الشکّ حجّة فی الشبهات البدویة قبل الفحص ، مع أنّه لا یجوز الانتساب إلیه تعالی .
ومنها : ما عنه قدس سره من أنّ جعل الاحتیاط فی الشبهات البدویة کلّها أو بعضها حجّة علی الواقع ، مع أنّه لا یصحّ معه الانتساب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 405
ویمکن أن یجاب : عن الأوّل : بأنّ الحجّة فی حال الانسداد هو العلم الإجمالی ؛ فیکون الحجّة هو العلم لا الظنّ ، وسیوافیک ـ لو ساعدنا الحال لبیان ما هو الحقّ فی الانسداد ـ أنّ ما یدّعی من عدم کون العلم مقدّمة ضعیف ؛ فإنّ العلم الإجمالی بالأحکام مع عدم جواز الاحتیاط والإهمال یوجب حکومة العقل بأنّ أقرب الطرق إلی الواقع هو الظنّ ، فالظنّ لیس حجّة بما هو ظنّ ، بل الحجّة هو العلم الإجمالی .
وأمّا الجواب عن ثانی النقوض : أنّ الحجّة لیس نفس الشکّ ؛ لأنّ قاعدة قبح العقاب بلا بیان غیر محکّمة مع وجود البیان فی الکتب المعدّة للبیان ، فالحجّة الواصلة الواردة فی الکتب حجّة علی الواقع دون الشکّ ، نعم یمکن أن یجعل ذلک نقضاً علیه إن کان محطّ البحث أعمّ من قبل الفحص .
وقس علیه ثالث النقوض ؛ فإنّ إیجاب الاحتیاط رافع لموضوع حکم العقل ، فلیس الشکّ حجّة بل الحجّة هو الحکم الواقعی أو إیجاب الاحتیاط ، وهذا أیضاً نقض علیه ولا الشکّ البدوی .
ومنها : أنّ مـا استدلّ به مـن الأدلّـة غیر حکم العقل مخـدوش جـدّاً ، بعد الغضّ عمّا تقدّم منّا مـن أنّ الالتزام الجـزمی بما شکّ کونه مـن المولی ، أمر ممتنع لا حرام .
وأمّا ضعف الأدلّة اللفظیة : فلأنّ الافتراء فی قوله تعالی : «آلله ُ أَذِنَ لَکُمْ أَمْ عَلَی الله ِ تَفْتَرُونَ» عبارة عن الانتساب إلی الله تعالی عمداً وکذباً ؛ إذ الافتراء لغةً هو الکذب لا انتساب المشکوک فیه إلیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 406
وما ربّما یقال : من أنّ الافتراء وإن کان لغة هو الکذب إلاّ أنّه لوقوعه فی مقابل قولـه : «أَذِنَ لَکُمْ» یعمّ المقام أیضاً ضعیف ؛ فإنّ المراد من الإذن هو الإذن الواقعی لا الإذن الواصل ؛ حتّی یقال بأنّ عدم وصول الإذن یلازم کونه افتراءً ، کما لا یخفی .
والأولی : الاستدلال علی حرمة الانتساب بقوله تعالی : «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّیَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ . . .» إلی أن قال عزّ اسمه : «وَأَنْ تَقُولُوا عَلی الله ِ مَا لا تَعْلَمُونَ» .
وبالأخبار الـواردة فی القول بغیر علم ، لـو لم نقل بکونها إرشاداً إلی حکـم العقل .
وأمّا الآیـة السابقة : «آلله ُ أَذِنَ لَکُمْ . . .» إلی آخـره فظاهـرها یأبی عـن الإرشاد .
وأمّـا الإجماع فموهـون بالعلم بمستنده . نعم حکم العقل بقبح الانتساب بغیر علم لا سترة فیه ؛ خصوصاً إلی الله تعالی .
ومنها : أنّ ما أفاده من حرمة العمل بالظنّ إذا استلزم طرح ما یقابله من الاُصول والأمارات لا یصحّ علی مختاره ؛ لأنّ المحرّم هو مخالفة الواقع لا الأمارات والاُصول ، والأمر دائر بین التجرّی والمعصیة .
وربّما یقرّر الأصل الأوّلی بالتمسّک بالاستصحـاب ؛ أعنی أصالـة عـدم حجّیـة الظنّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 407
وأورد علیه الشیخ : بعدم ترتّب الأثر العملی علی مقتضی الاستصحاب ؛ لأنّ نفس الشکّ فی الحجّیة موضوع لحرمة التعبّد ، ولا یحتاج إلی إحراز عدم ورود التعبّد بالأمارة .
واستشکل علیه المحقّق الخراسانی قدس سره بوجهین :
أحدهما : أنّ الحجّیة من الأحکام الوضعیة ، وجریان الاستصحاب وجوداً وعدماً لا یحتاج فیها إلی أثر آخر ورائها ، کاستصحاب عدم الوجوب والحرمة .
ثانیهما : لو سلّم الاحتیاج إلی الأثر فحرمة التعبّد کما تکون أثراً للشکّ فی الحجّیة کذلک تکون أثراً لعدم الحجّیة واقعاً ، فیکون الشکّ فی الحجّیة مورداً لکلّ من الاستصحاب والقاعدة المضروبة لحال الشکّ ، ویقدّم الاستصحاب علی القاعدة ؛ لحکومتها علیها کحکومة استصحاب الطهارة علی قاعدتها .
وأورد علی الوجهین بعض أعاظم العصر ، بعدما لخّص کلامه کما ذکرنا بما ملخّصه :
أمّا الأوّل : فلأنّ الاستصحاب من الاُصول العملیة ، ولا یجری إلاّ إذا کان فی البین عمل ، وما اشتهر : أنّ الاُصول الحکمیة لا تتوقّف علی الأثر إنّما هو فیما إذا کان المؤدّی بنفسه من الآثار العملیة لا مطلقاً ، والحجّیة وإن کانت من الأحکام الوضعیة المجعولة إلاّ أنّها بوجودها الواقعی لا یترتّب علیها أثر عملی .
والآثار المترتّبة علیها : منها ما یترتّب علیها بوجودها العلمی ، ککونها منجّزة للواقع عند الإصابة وعذراً عند المخالفة ، ومنها ما یترتّب علی نفس الشکّ فی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 408
حجّیتها ، کحرمة التعبّد بها وعدم جواز إسنادها إلی الشارع .
فلیس لإثبات عدم الحجّیة أثر إلاّ حرمة التعبّد بها ، وهو حاصل بنفس الشکّ فی الحجّیة وجداناً . فجریان الأصل لإثبات هذا الأثر أسوأ حالاً من تحصیل الحاصل ؛ للزوم إحراز ما هو محرز وجداناً بالتعبّد .
وأمّا الوجه الثانی : فلأنّ ما أفاده ـ یعنی المحقّق الخراسانی ـ من أنّ حرمة التعبّد بالأمارة تکون أثراً للشکّ فی الحجّیة ولعدم الحجّیة واقعاً ، وفی ظرف الشکّ یکون الاستصحاب حاکماً علی القاعدة المضروبة له .
ففیه : أنّه لا یعقل أن یکون الشکّ فی الواقع موضوعاً للأثر الشرعی فی عرض الواقع . مع عدم جریان الاستصحاب علی هذا الفرض أیضاً ؛ لأنّ الأثر یترتّب بمجرّد الشکّ لتحقّق موضوعه ، فلا یبقی مجال لجریان الاستصحاب ، ولا تصل النوبـة إلی إثبات الواقع لیجری الاستصحاب ؛ فإنّـه فی الرتبـة السابقة علی هذا الإثبات ، تحقّق موضوع الأثـر وترتّب علیـه الأثـر ، فأیّ فائدة فی جریان الاستصحاب ؟
وحکومته علی القاعدة إنّما تکون فیما إذا کان ما یثبته الاستصحاب غیر ما یثبته القاعدة ، کقاعدتی الطهارة والحلّ واستصحابهما ؛ فإنّ القاعدة لا تثبت الطهارة والحلّیة الواقعیة ، بل مفادهما حکم ظاهری ، بخلاف الاستصحاب .
وقد یترتّب علی بقاء الطهارة والحلّیة الواقعیة غیر جواز الاستعمال وحلّیة الأکل . وعلی ذلک یبتنی جواز الصلاة فی أجزاء الحیوان الذی شکّ فی حلّیته إذا کان استصحاب الحلّیة جاریاً ، کما إذا کان الحیوان غنماً ، فشکّ فی مسخه إلی الأرنب وعدم جواز الصلاة فی أجزائه إذا لم یجر الاستصحاب ؛ وإن جرت فیه أصالة الحلّ ، فإنّها لا تثبت الحلّیة الواقعیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 409
وکذا الکلام فی قاعدة الاشتغال مع الاستصحاب ؛ فإنّه فی مورد جریان القاعدة لا یجری الاستصحاب وبالعکس .
فالقاعدة تجری فی مورد العلم الإجمالی عند خروج بعض الأطراف عن محلّ الابتلاء بالامتثال ونحوه ، والاستصحاب یجری عند الشکّ فی فعل المأمور به ، وأین هذا ممّا نحن فیه ممّا کان الأثر المترتّب علی الاستصحاب عین الأثر المترتّب علی الشکّ ؟ !
فالإنصاف : أنّـه لا مجال لتوهّم جریان استصحاب عـدم الحجّیـة عند الشکّ فیها ، انتهی .
أقول : قد عرفت سابقاً أنّ التشریع وإدخال شیء فی الشریعة وتبدیل الأحکام عنوان برأسه ومبغوض شرعاً ومحرّم واقعی ـ علم المکلّف أو لا ـ کما أنّ القول بغیر العلم وانتساب شیء إلی الشارع بلا حجّة قبیح عقلاً ومحرّم شرعی غیر التشریع ، وبمناط مستقلّ خاصّ به . فالشکّ فی الحجّیة کما أنّه موضوع لحرمة التعبّد وحرمة الانتساب إلی الشارع موضوع لاستصحاب عدم الحجّیة وحرمة التشریع وإدخال ما لیس فی الدین فیه .
وعلیه : یکون الاستصحاب حاکماً علی القاعدة المضروبة للشکّ ؛ بمعنی أنّه مع استصحاب عدم جعل الحجّیة وعدم کون شیء من الدین یخرج الموضوع عن القول بغیر علم ؛ لأنّ المراد من القول بغیر علم هو القول بغیر حجّة ؛ ضرورة أنّ الإفتاء بمقتضی الأمارات والاُصول والانتساب إلی الشارع مقتضاهما غیر محرّم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 410
وغیر داخل فی القول بغیر علم . فعلیه : لا یکون الانتساب مع استصحاب العدم انتساباً بغیر حجّة ، بل انتساب مع الحجّة علی العدم ، وهو کذب وافتراء وبدعة ، وتکون حرمته لأجل انطباق تلک العناوین علیه ، لا عنوان القول بغیر علم . وتوهّم مثبتیة الأصل فی غیر محلّه ، کما لا یخفی علی المتأمّل .
ثمّ إنّه یرد علی ما أفاده بعض أعاظم العصر اُمور :
الأوّل : أنّ قولـه جریان الاستصحاب تحصیل للحاصل بل أسوأ منه ، لا یخلو من خلط ؛ لما عرفت أنّ التشریع غیر التقوّل بغیر علم ، وما یحصل حکمـه ـ أعنی الحرمة بمجرّد الشکّ ـ إنّما هو الثانی ، وأمّا الأوّل فهو یحتاج إلی عنایة اُخری ، کما تقدّم .
الثانی : أنّ ما ادّعاه من امتناع کون الشکّ موضوعاً للأثر فی عرض الواقع لم یقم علیه برهان إذا فرضنا وجود جعلین مستقلّین .
الثالث : أنّ ما أفاده من أنّ الشکّ فی الرتبة السابقـة علی الاستصحاب یترتّب علیه الأثر ، فلا یبقی مجال لجریانه ، غیر وجیه ؛ فإنّ الشکّ فی الواقع فی رتبة واحدة موضوع للقاعدة والاستصحاب ، فکیف یمکن أن یتقدّم علی موضوع الاستصحاب بعدما کان الأثر مترتّباً علی الواقع کما هو المفروض لا علی العلم بعدم الواقع حتّی یقال : تحقّق هذا العنوان تعبّداً فی الرتبة المتأخّرة عن الاستصحاب ، فتأمّل .
وتقدّمه علی الحکم الاستصحابی لیس إلاّ کتقدّمه علی الحکم الثابت بالقاعدة ؛ ضرورة تقدّم کلّ موضوع علی حکمه .
فإن قلت : لعلّ نظره ـ کما یستفاد مـن کلمات الشیخ الأعظم أیضاً ـ أنّ صرف الشکّ یترتّب علیه الأثر فی القاعدة ، وأمّا الاستصحاب فهو یحتاج إلی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 411
عنایـة اُخـری ؛ مـن لحاظ الحالة السابقة وجـرّ الثابت سابقاً إلی الزمان اللاحق .
قلت : ترتّب الأثر علی الشکّ عبارة اُخری عن جعل الحکم علیه ، کما أنّ العنایة فی الاستصحاب کذلک ، فالشکّ فیهما موضوع للحکم فی عرض واحد ، وحکمهما متأخّر عنه ؛ تأخّر الحکم عن موضوعه .
الرابع : أنّ ما أفاده من الفرق بین قاعدة الحلّیة والطهارة واستصحابهما من جواز الصلاة فی المحکوم بالطهارة والحلّیة بالاستصحاب ، دون المحکوم بهما بمعونة القاعدتین ، قد فرغنا عن ضعف هذا التفصیل فی محلّه ، وأوضحنا حکومة القاعدتین علی أدلّة الشرائط والأجزاء ، وحکمنا بصحّة الصلاة ، فراجع .
الخامس : أنّ ما أفاده من عدم جریان الاستصحاب فی مورد قاعدة الاشتغال ضعیف إذا ادّعی الکلّیة ، وإن ادّعی فی بعض الموارد ـ کما إذا اختلّ أرکان الاستصحاب ـ فلا یفید بحاله .
ولعلّ ما ذکره من المثال من هذا القبیل ، کما أنّ ما ذکره من عدم جریان القاعدة عند الشکّ فی المأمور به غیر صحیح ، فتدبّر .
اعلم أنّه قد خرج عن الأصل المذکور اُمور :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 412