کلام المحقّق النائینی فی غیر المحرزة من الاُصول
ثمّ إنّه قدس سره قد أفاد فی هذا الباب ما هذا ملخّصه : إنّ للشکّ فی الحکم الواقعی اعتبارین :
أحدهما : کونه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحکم الواقعی أو موضوعه ، کحالة العلم والظنّ . وهو بهذا الاعتبار لا یمکن أخذه موضوعاً لحکم یضادّ الحکم الواقعی ؛ لانحفاظ الحکم الواقعی عنده .
ثانیهما : اعتبار کونه موجباً للحیرة فی الواقع ، وعدم کونه موصلاً إلیه ومنجّزاً له . وهو بهذا الاعتبار یمکن أخذه موضوعاً لما یکون متمّماً للجعل ومنجّزاً للواقع وموصلاً إلیه . کما أنّه یمکن أخذه موضوعاً لما یکون مؤمّناً عن الواقع حسب اختلاف مراتب الملاکات النفس الأمریة .
فلو کانت مصلحة الواقع مهمّة فی نظر الشارع کان علیه جعل المتمّم ، کمصلحة احترام المؤمن وحفظ نفسه ؛ فإنّه أهمّ من مفسدة حفظ نفس الکافر ، فیقتضی جعل حکم طریقی لوجوب الاحتیاط فی موارد الشکّ .
وهذا الحکم الاحتیاطی إنّما هو فی طول الواقع لحفظ مصلحته ؛ ولذا کان خطابـه نفسیاً لا مقدّمیاً ؛ لأنّ الخطاب المقدّمی ما لا مصلحـة فیه أصلاً ، والاحتیاط لیس کذلک ؛ لأنّ أهمّیة الواقع دعت إلی وجوبه ، فهو واجب نفسی للغیر لا واجب بالغیر ؛ ولذا کان العقاب علی مخالفته ـ لا علی مخالفة الواقع ـ لقبح العقاب علیه مع الجهل .
فإن قلت : فعلیه یصحّ العقوبة علی مخالفة الاحتیاط ـ صادف الواقع أو لا ـ لکونه واجباً نفسیاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 388
قلت : فرق بین علل التشریع وعلل الأحکام ، والذی لا یدور الحکم مداره هو الأوّل دون الثانی ، ولا إشکال فی أنّ الحکم بوجوب حفظ نفس المؤمن علّة للحکم بالاحتیاط . ولا یمکن أن یبقی فی مورد الشکّ مع عدم کون المشکوک ممّا یجب حفظه ، ولکن لمکان جهل المکلّف کان اللازم علیه الاحتیاط ؛ تحرّزاً عن مخالفة الواقع .
ومن ذلک یظهر : أنّه لا مضادّة بین إیجاب الاحتیاط وبین الحکم الواقعی ؛ فإنّ المشتبه إن کان ممّا یجب حفظ نفسه واقعاً فوجوب الاحتیاط یتّحد مع الوجوب الواقعی ویکون هو هو ، وإلاّ فلا ؛ لانتفاء علّته ، والمکلّف یتخیّل وجوبه لجهله بالحال . فوجوب الاحتیاط من هذه الجهة یشبه الوجوب المقدّمی ؛ وإن کان من جهة اُخری یغایره .
والحاصل : أنّه لمّا کان إیجاب الاحتیاط من متمّمات الجعل الأوّلی فوجوبه یدور مداره ، ولا یعقل بقاء المتمّم ـ بالکسر ـ مع عدم المتمّم . فإذا کان وجوب الاحتیاط یدور مدار الوجوب الواقعی فلا یعقل التضادّ بینهما ؛ لاتّحادهما فی مورد المصادفة وعدم وجوب الاحتیاط فی مورد المخالفة ، فأین التضادّ ؟ !
هذا إذا کانت المصلحة مقتضیة لجعل المتمّم ، وأمّا مع عدم الأهمّیة فللشارع جعل المؤمّن بلسان الرفع ، کما فی قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «رفع عن اُمّتی ما لا یعلمون» ، وبلسان الوضع ، مثل قوله علیه السلام : «کلّ شیء حلال» ؛ فإنّ رفع التکلیف لیس من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 389
موطنه لیلزم التناقض ، بل رفع التکلیف عمّا یستتبعه من التبعات وإیجاب الاحتیاط .
فالرخصة المستفادة من دلیل الرفع نظیر الرخصة المستفادة من حکم العقل بقبح العقاب بلا بیان فی عدم المنافاة للواقع .
والسرّ فیه : أنّها تکون فی طول الواقع ؛ لتأخّر رتبته عنه ؛ لأنّ الموضوع فیها هو الشکّ فی الحکم من حیث کونه موجباً للحیرة فی الواقع وغیر موصل إلیه ، ولا منجّز له ، فقد لوحظ فی الرخصة وجود الحکم الواقعی ، ومعه کیف یعقل أن تضادّه ؟ !
وبالجملة : الرخصة والحلّیة المستفادة من حدیث الرفع وأصالة الحلّ تکون فی عرض المنع والحرمة المستفادة من إیجاب الاحتیاط ، وقد عرفت أنّ إیجاب الاحتیاط یکون فی طول الواقع ، فما یکون فی عرضه یکون فی طول الواقع أیضاً ، وإلاّ یلزم أن یکون ما فی طول الشیء فی عرضه ، انتهی کلامه رفع مقامه .
ولا یخفی : أنّ فی کلامه قدس سره مواقع للنظر ، نشیر إلی مهمّاتها :
1 ـ إنّ أخذ الشکّ تارة بما أنّه من الحالات والطوارئ اللاحقة للحکم الواقعی ، واُخری بما أنّه موجب للحیرة فیه لا یرجع إلی محصّل ؛ لأنّه تفنّن فی التعبیر وتغییر فی اللفظ .
ولو سلّمنا ذلک حکماً یرتفع غائلة التضادّ بالاعتبار الثانی ـ أعنی جعله موضوعاً بما أنّه موجب للتحیّر ـ لکون المجعول والموضوع فی طول الواقع .
کذلک یرتفع الغائلة بجعل الحکم علی الشکّ بالاعتبار الأوّل ؛ لکون الشکّ فی الشیء متأخّراً عن الشیء ، فجعل أحدهما رافعاً دون الآخر لا محصّل له .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 390
والحقّ : عدم ارتفاعها بکلا الاعتبارین ؛ لکون الحکم الواقعی محفوظاً مع الشکّ والحیرة .
2 ـ إنّ الحکم الواقعی إن بقی علی فعلیته وباعثیته فجعل المؤمّن ـ کأصالة البراءة ـ مستلزم لترخیص ترک الواقع الذی هو فعلی ومطلوب للمولی ، ومع هذا فکیف یرتفع غائلة التضادّ ؟ وإن لم یبق علی فعلیتـه وباعثیتـه ـ کما اعترف فی المقام بأنّ الأحکام الواقعیـة بوجوداتها النفس الأمریة لا تصلح للداعویة ـ فالجمع بین الواقعی والظاهری حاصل بهذا الوجـه ، بلا احتیاج إلی ما أتعب به نفسه الزکیة .
3 ـ إنّ ما أورده علی نفسه من أنّ لازم کون الاحتیاط واجباً نفسیاً هو صحّة العقوبة علی مخالفة الاحتیاط ـ صادف الواقع أو لا ـ بعد باقٍ علی حاله .
وما تفصّی به عنه من عدم وجوب الاحتیاط واقعاً فی مورد الشکّ مع عدم کون المشکوک ممّا یجب حفظه ؛ لکون وجوب حفظ المؤمن علّة للحکم بالاحتیاط لا علّة للتشریع لا یدفع الإشکال ؛ فإنّ خلاصة کلامه قدس سره یرجع إلی أنّ وجوب الاحتیاط دائر مدار وجود الحکم الواقعی .
وعلیه فالعلم بوجود الحکم الواقعی یلازم العلم بلزوم الاحتیاط ، کما أنّ العلم بعدمه یلازم العلم بعدم وجوب الاحتیاط .
ویترتّب علیه : أنّ الشکّ فی الحکم الواقعی یستلزم الشکّ فی وجوب الاحتیاط ، فکما أنّ الحکم الواقعی لا داعویة له فی صورة الشکّ فی وجوده فهکذا وجوب الاحتیاط ، فلا یصلح للباعثیة فی صورة الشکّ .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 391
ولو تعلّق وجوب الاحتیاط بمورد الشکّ الذی ینطبق علی الواجب الواقعی دون غیره لاحتاج إلی متمّم آخر ، ویصیر إیجاب الاحتیاط حینئذٍ لغواً ؛ فإنّ موارد الاحتیاط ـ کافّة ـ ممّا یکون وجود الحکم الواقعی مشکوکاً ، کما فی الاحتیاط فی الدماء والأعراض والأموال .
وبذلک یظهر : أنّ ما ذکره من أنّ المکلّف لمّا لم یعلم کون المشکوک ممّا یجب حفظ نفسه أو لا یجب کان اللازم هو الاحتیاط ؛ تحرّزاً عن مخالفة الواقع غیر واضح ؛ فإنّ وجوب الاحتیاط علی النحو الذی قرّره لا یقصر عن الأحکام الواقعیة . فکما لا داعویة له فی ظرف الشکّ فی وجوده فهکذا ما هو مثلها ؛ أعنی وجوب الاحتیاط علی ما التزم به .
وعلیه یصیر الاحتیاط فی عامّة الموارد اللازمة فی الشبهات البدویة لغواً باطلاً ؛ فإنّ الاحتیاط فی کافّة الموارد إنّما هو فی صورة الشکّ فی الحکم الواقعی ، لا غیر .
والتحقیق : ما هو المشهور من أنّ الاحتیاط لیس محبوباً وواجباً نفسیاً ومتعلّقاً لغرض المولی ، والغرض من إیجابه هو حفظ الواقع لا غیر ، ولأجله لا یستلزم ترک الاحتیاط عقوبة وراء ترک الواقع .
4 ـ إنّ ما ذکره فی بعض کلامه من أنّ متمّم الجعل ـ أصالة الاحتیاط ـ فیما نحن فیه یتکفّل بیان وجود الحکم فی زمان الشکّ فیه لا یخلو من ضعف ؛ لأنّه ـ مضافاً إلی مخالفته لما قال سابقاً من أنّ الاحتیاط أصل غیر محرز ـ یستلزم کون الاحتیاط أو إیجابه أمارة لوجود الحکم فی زمان الشکّ ، وهو خلاف الواقع ؛ فإنّ إیجاب الاحتیاط مع الشکّ لغرض الوصول إلی الواقع غیر کونه کاشفاً عن الواقع .
5 ـ ما ذکره من أنّ أصالة البراءة والحلّیة فی طول الواقع ؛ لأنّهما فی عرض
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 392
الاحتیاط الذی هو فی طول الواقع غیر واضح ؛ فإنّ التقدّم الرتبی غیر التقدّم الزمانی والمکانی ؛ فإنّ ما ذکره صحیح فیهما ، وأمّا الرتبی فالتقدّم والتأخّر تابع لوجود الملاک فی الموصوف ؛ فإنّ مجرّد کون الشیء فی عرض المتأخّر رتبة عن الشیء لا یستلزم تأخّره عنه أیضاً ؛ فإنّ المعلول متأخّر رتبة عن علّته . وأمّا ما هو فی رتبة المعلول من المقارنات الخارجیة فلیس محکوماً بالتأخّر الرتبی عن تلک العلّة ، کما هو واضح فی محلّه وعند أهله .
وأمّا حدیث قیاس المساواة فقد ذکر المحقّقون : أنّ مجراها إنّما هو المسائل الهندسیة ، فراجع إلی مظانّها وأهلها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 393