تقریب المحقّق النائینی للجمع

تقریب المحقّق النائینی للجمع

‏ ‏

‏قد ذکر بعض أعاظم العصر جواباً لتخلّف الطرق والأمارات ، وجواباً آخر‏‎ ‎‏للاُصول المحرزة ، وثالثاً لغیر المحرزة منها .‏

فأفاد ‏قدس سره‏‏ فی الجمع عند تخلّف الطرق ما هذا حاصله : إنّ المجعول فیها لیس‏‎ ‎‏حکماً تکلیفیاً حتّی یتوهّم التضادّ بینها وبین الواقعیات ، بل الحقّ أنّ المجعول فیها‏‎ ‎‏هو الحجّیة والطریقیة ، وهما من الأحکام الوضعیة المتأصّلة فی الجعل ؛ خلافاً‏‎ ‎‏للشیخ ‏‏قدس سره‏‏ ؛ حیث ذهب إلی أنّ الأحکام الوضعیة کلّها منتزعة من الأحکام‏‎ ‎‏التکلیفیة‏‎[1]‎‏ .‏

‏والإنصاف : عدم تصوّر انتزاع بعض الأحکام الوضعیة من الأحکام‏‎ ‎‏التکلیفیة ، مثل الزوجیة فإنّها وضعیـة ویتبعها جملة مـن الأحکام ، کوجـوب‏‎ ‎‏الإنفاق علی الزوجة وحرمة تزویج الغیر لها ، وحرمة ترک وطیها أکثر من أربعة‏‎ ‎‏أشهر إلی غیر ذلک .‏

‏وقد یتخلّف بعضها مع بقاء الزوجیة ، فأیّ حکم تکلیفی یمکن انتزاع‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 381
‏الزوجیة منه ؟ وأیّ جامع بین هذه الأحکام التکلیفیة لیکون منشأً لانتزاع الزوجیة ؟‏‎ ‎‏فلا محیص فی أمثالها عن القول بتأصّل الجعل .‏

‏ومنها الطریقیة والوسطیة فی الإثبات ؛ فإنّها متأصّلة بالجعل ـ ولو إمضاءًـ لما‏‎ ‎‏تقدّمت الإشارة إلیه من کون الطرق التی بأیدینا یعتمدون علیها العقلاء فی‏‎ ‎‏مقاصدهم ، بل هی عندهم کالعلم لا یعتنون باحتمال مخالفتها للواقع ، فنفس‏‎ ‎‏الحجّیة والوسطیة فی الإثبات أمر عقلائی قابل بنفسه للاعتبار ، من دون أن یکون‏‎ ‎‏هناک حکم تکلیفی منشأ لانتزاعه .‏

‏إذا عرفت حقیقة المجعول فیها ظهر لک : أنّه لیس فیها حکم حتّی ینافی‏‎ ‎‏الواقع ، فلا تضادّ ولا تصویب . ولیس حال الأمارات المخالفة إلاّ کحال العلم‏‎ ‎‏المخالف ، فلا یکون فی البین إلاّ الحکم الواقعی فقط مطلقاً ، فعند الإصابة یکون‏‎ ‎‏المؤدّی هو الحکم الواقعی ـ کالعلم الموافق ـ ویوجب تنجیزه ، وعند الخطأ یوجب‏‎ ‎‏المعذوریة وعدم صحّة المؤاخذة علیه ـ کالعلم المخالف ـ من دون أن یکون هناک‏‎ ‎‏حکم آخر مجعول ‏‎[2]‎‏، انتهی .‏

وفیما أفاده مواقع للنظر :

‏أمّا أوّلاً :‏‏ فقد أشرنا إلیه‏‎[3]‎‏ وسیوافیک تفصیله عند البحث عن حجّیة‏‎ ‎‏الأمارات العقلائیة‏‎[4]‎‏ ، ومحصّله : أنّه لیس فی باب الطرق والأمارات حکم وضعی‏‎ ‎‏ولا تکلیفی ، وإنّما عمل بها الشارع کما یعمل بها العقلاء فی مجاری اُمورهم من‏‎ ‎‏معاملاتهم وسیاساتهم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 382
‏ولیس إمضاء الشارع العمل بالأمارات مستتبعاً لإنشاء حکم ، بل مآله إلی‏‎ ‎‏عدم الردع وعدم التصرّف فی بناء العقلاء . وما ورد من الروایات‏‎[5]‎‏ کلّها إرشاد إلی‏‎ ‎‏ما علیه العقلاء ، وقد اعترف به ‏‏قدس سره‏‏ فیما سبق‏‎[6]‎‏ ، ولکنّه أفاد هنا ما ینافیه .‏

وثانیاً :‏ لو کان المستند للقول بجعل الوسطیة والطریقیة من جانب الشارع‏‎ ‎‏هـو الأخبار الواردة فی شأن الآحاد من الأخبار أو شأن مخبریها ، کقولـه ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎«إذا أردت حدیثاً فعلیک بهذا الجالس»‏ وأشار إلی زرارة‏‎[7]‎‏ ، ومثل قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎«وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فیها إلی رواة حدیثنا»‎[8]‎‏ ، ومثل قولـه ‏‏علیه السلام‏‏ :‏‎ ‎«علیک بالأسـدی»‏ ؛ یعنی أبا بصیر‏‎[9]‎‏ ، وقولـه ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«العمری ثقتی ، فاسمع له‎ ‎وأطع فإنّه الثقة المأمـون»‎[10]‎‏ ، إلی غیر ذلک مـن الروایات الکثیرة التی سیجیء‏‎ ‎‏کثیر منها فی بابه .‏

‏فلا شکّ أنّه لو کان المستند هذه الأخبار فالمجعول فیها ـ مع قطع النظر عمّا‏‎ ‎‏قلنا من أنّها إرشاد إلی ما علیه العقلاء ـ هو وجوب العمل علی طبقها تعبّداً علی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 383
‏أنّها هو الواقع ، وترتیب آثار الواقع علی مؤدّاها ، ولیس فیها أیّ أثر من حدیث‏‎ ‎‏جعل الوسطیة والطریقیة .‏

‏نعم ، لو کان المدرک مفهوم آیة النبأ‏‎[11]‎‏ یمکن أن یقال : إنّها بصدد جعل‏‎ ‎‏الکاشفیة لخبر العادل ولکنّه ـ مع قطع النظر عن الإشکالات المقرّرة فی محلّه‏‎[12]‎‏ ،‏‎ ‎‏وعمّا احتملناه فی الأخبار ؛ من کونها إرشاداً إلی عمل العقلاء ـ مدفوع بأنّها بصدد‏‎ ‎‏جعل وجوب العمل علی طبق قول العادل ، لا جعل المبیّنیة والکاشفیة ، وإنّما‏‎ ‎‏المبیّنیة جهة تعلیلیة لجعل وجوب العمل ، ولیست موردة للجعل .‏

وثالثاً :‏ أنّ ما هو القابل للجعل فی المقام إنّما هو وجوب العمل علی طبق‏‎ ‎‏الأخبار ووجوب ترتیب الأثر علی مؤدّاها ، وأمّا الطریقیة والکاشفیة فلیس ممّا‏‎ ‎‏تنالها ید الجعل ؛ فلأنّ الشیء لو کان واجداً لهذه الصفة تکویناً فلا معنی لإعطائها‏‎ ‎‏لها ، وإن کان فاقداً له ـ کالشکّ ـ فلا یعقل أن یصیر ما لیس بکاشف کاشفاً ، وما‏‎ ‎‏لیس طریقاً طریقاً ؛ فإنّ الطریقیة والکاشفیة لیست أمراً اعتباریاً کالملکیة حتّی‏‎ ‎‏یصحّ جعلها بالاعتبار .‏

‏وقس علیه تتمیم الکشف وإکمال الطریقیـة ، فکما أنّ اللاکاشفیة ذاتیـة‏‎ ‎‏للشکّ لا یصحّ سلبه ، فکذلک النقصان فی مقام الکشف ذاتی للأمارات لا یمکن‏‎ ‎‏سلبها . فما ینالـه الجعل لیس إلاّ إیجـاب العمل بمفادهـا والعمل علی طبقها‏‎ ‎‏وترتیب آثـار الواقـع علیها ، ولمّا کـان ذاک التعبّد بلسان تحقّق الواقـع وإلغاء‏‎ ‎‏احتمال الخلاف تعبّداً صحّ انتزاع الوسطیة والکاشفیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 384
‏وقس علیه الحجّیة ؛ فلأنّ معناها کون الشیء قاطعاً للعذر فی ترک ما اُمر‏‎ ‎‏بفعله وفعل ما اُمر بترکه ، ومعلوم أنّه متأخّر عن أیّ جعل ـ تکلیفاً أو وضعاً ـ فلو لم‏‎ ‎‏یأمر الشارع بوجوب العمل بالشیء ـ تأسیساً أو إمضاءً ـ فلا یتحقّق الحجّیة ولا‏‎ ‎‏یقطع به العذر .‏

ورابعاً :‏ أنّ عدم إمکان انتزاع الزوجیة عمّا ذکره مـن الأحکام لا لعدم‏‎ ‎‏الجامـع بینها ، بل لأجـل کونها آثـاراً متأخّرة عـن الزوجیـة ، وهی بعد یعـدّ‏‎ ‎‏موضوعاً لهذه الأحکام المتأخّرة ، فلا معنی لانتزاع ما هو المتقدّم طبعاً عمّا هـو‏‎ ‎‏متأخّر کـذلک .‏

‏نعم ، هاهنا أحکام تکلیفیة یمکن أن یتوهّم إمکان انتزاع الزوجیة منها ،‏‎ ‎‏کالأوامر الواردة بالنکاح فی الآیات‏‎[13]‎‏ ، أو قوله تعالی : ‏‏«‏وَاُحِلَّ لَکُمْ مَا وَراءَ‎ ‎ذَ ٰلِکُمْ‏»‏‎[14]‎‏ .‏

‏ومع ذلک کلّه فالتحقیق : أنّ الزوجیة لیست من المخترعات الشرعیة ، بل‏‎ ‎‏مـن الاعتبارات العقلائیة التی یدور علیها فلک الحیاة الإنسانیة ، فبما أنّ الزوجیة‏‎ ‎‏ممّا یتوقّف علیه نظام الاجتماع ویترتّب علیه آثار ومنافع لا تحصی قام العقلاء‏‎ ‎‏علی اعتبارها ، نعم الشرائع السماویة قد تصرّف فیها ؛ تصرّفاً یرجع إلی إصلاحها‏‎ ‎‏وبیان حدودها .‏

وخامساً :‏ فبعد هذا الإطناب فالإشکال باقٍ بعد بحاله ؛ فإنّ جعل الوسطیة‏‎ ‎‏والطریقیة والحجّیة للطرق والأمارات مع العلم بأنّها ینجرّ أحیاناً إلی المخالفة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 385
‏والمناقضة للواقع لا یجتمع مع بقاء الأحکام الواقعیة علی ما علیها من الفعلیة التامّة .‏

وبالجملة :‏ أنّ الإرادة الجدّیة الحتمیة بالأحکام الواقعیة لا تجتمع مع تعلّق‏‎ ‎‏مثل تلک الإرادة علی جعل الوسطیة للطرق التی ربّما یوجب تفویت الواقع ؛ فإنّ‏‎ ‎‏ذلک الجعل یلازم الترخیص الفعلی فی مخالفة الأحکام الواقعیة .‏

‏وقیاس جعل الوسطیة فی الإثبات بالعلم المخالف للواقع أحیاناً قیاس مع‏‎ ‎‏الفارق ؛ فإنّ العمل بالعلم المخالف لیس ترخیصاً من الشارع فی مخالفة الأحکام‏‎ ‎‏الواقعیة ، وإنّما هو ضرورة ابتلی به المکلّف لا من جانب الشارع بل لقصور منه ،‏‎ ‎‏وهذا بخلاف جعل الحجّیة علی الأمارة المؤدّیة إلی خلاف الواقع .‏

هذا کلّه‏ إذا قلنا ببقاء الواقع علی ما علیه من الفعلیة ـ أی باعثاً وزاجراً ـ وأمّا‏‎ ‎‏إذا قلنا بأنّه یصیر إنشائیاً أو فعلیاً بمرتبة دون مرتبة ، وأنّ الشارع قد رفع الید لأجل‏‎ ‎‏مصالح اجتماعیة عن تلک الواقعیات فلا مضادّة ولا منافاة بین الواقعی والظاهری ،‏‎ ‎‏ولا یحتاج إلی إتعاب النفس وعقد هذه المباحث .‏

وبذلک یظهر‏ ما فی کلام المحقّق الخراسانی ؛ حیث تخلّص عن کافّة‏‎ ‎‏الإشکالات بأنّ الحجّیة غیر مستتبعة لإنشاء أحکام تکلیفیة‏‎[15]‎‏ ؛ فإنّ هذا التقریب‏‎ ‎‏لا یحسم مادّة الإشکال ، کالقول بأنّ أحدهما طریقی والآخر واقعی‏‎[16]‎‏ ؛ فإنّ جعل‏‎ ‎‏الحجّیة والطریقیة لمّا کان ینتهی أحیاناً إلی مخالفة الواقع ومناقضته لا تجتمع مع‏‎ ‎‏فعلیة الأحکام الواقعیة .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 386

  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 26 : 125 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 105 ـ 108 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 332 .
  • )) یأتی فی الصفحة 472 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 136 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 30 و 90 .
  • )) اختیار معرفة الرجال : 136 / 216 ، وسائل الشیعة 27 : 143 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 19 .
  • )) کمال الدین : 484 / 4 ، وسائل الشیعة 27 : 140 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 9 .
  • )) اختیار معرفة الرجال : 171 / 291 ، وسائل الشیعة 27 : 142 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 15 .
  • )) الکافی 1 : 329 / 1 ، وسائل الشیعة 27 : 138 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 4 .
  • )) الحجرات (49) : 6 .
  • )) یأتی فی الصفحة 437 .
  • )) راجع النساء (4) : 3 ، النور (24) : 32 .
  • )) النساء (4) : 24 .
  • )) کفایة الاُصول : 319 .
  • )) نفس المصدر : 319 ـ 320 .