المحذور الأوّل‏: تفویت المصلحة و الإلقاء فی المفسدة

المحذور الأوّل : تفویت المصلحة والإلقاء فی المفسدة

‏ ‏

‏أمّا هذا المحذور الذی هو رابع المحاذیر ؛ فلأنّ المفروض : أنّ الظنّ لیس‏‎ ‎‏دائم المطابقة ، فالأمر بالعمل علی طبقه تفویت للمصالح من الشارع علی المکلّف‏‎ ‎‏وإلقاء للمفاسد ؛ إذ لولا أمره لکان علیه السؤال وتحصیل العلم عند الانفتاح ، والعمل‏‎ ‎‏بالاحتیاط عند انسداده .‏

وبذلک یظهر :‏ أنّ هذا المحذور لا یختصّ بصورة الانفتاح ، کما ادّعاه بعض‏‎ ‎‏أعاظم العصر ‏‏قدس سره‏‏ ؛ قائلاً بأنّ العمل علی طبق الأمارة لو صادف خیر جاء من‏‎ ‎‏قبلها‏‎[1]‎‏ ، بل یجری فی صورة الانسداد أیضاً ؛ إذ لولا أمره وترخیصه ترکَ الاحتیاط‏‎ ‎‏کان علیه العمل بما هو مبرئ للذمّة قطعاً .‏

‏وما استدلّ به مسلّم لو کان الأمر دائراً بین العمل به وبین ترک العمل به وبغیره‏‎ ‎‏مطلقاً ، لکنّه دائر بین العمل به وبین العمل بالاحتیاط أو التجزّی فیه ، فلا یختصّ‏‎ ‎‏الإشکال بصورة الانفتاح ، بل یعمّ .‏

وقد یذبّ عن الإشکال :‏ بأنّ الأمارات غیر العلمیة ربّما یمکن أن تکون أکثر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 368
‏إصابة عن العلم والاعتقاد الجازم أو مساویة لها ، فالشارع الواقف علی السرائر‏‎ ‎‏لأجل وقوفه علی هذه الجهة أمر بالعمل علی طبق الأمارات ، وترک تحصیل العلوم‏‎ ‎‏المساویة للأمارات من حیث الصدق أو أدون ، فلا یکون إلقاء فی المفسدة أو تفویتاً‏‎ ‎‏للمصلحة کان باب العلم مفتوحاً أو منسدّاً‏‎[2]‎‏ .‏

الظاهر :‏ عدم صحّة الجواب ؛ فإنّه إن أراد من الانفتاح حال حضور الإمام مع‏‎ ‎‏إمکان نیل حضوره والسؤال عنه فلا إشکال أنّ المسموع عنه ‏‏علیه السلام‏‏ أقلّ خطاءً من‏‎ ‎‏هذه الروایات المنقولة بوسائط ؛ فإنّ احتمال مخالفة الواقع فیما سمعه عن الإمام‏‎ ‎‏لیس إلاّ لأجل التقیة أو أمر أندر منه . وهذا بخلاف الروایات المعنعنة المنقولة عن‏‎ ‎‏رجال یختلفون فی الحفظ والوثاقة وحسن التعبیر وجودة الفهم .‏

‏وإن أراد منه حضوره ‏‏علیه السلام‏‏ مع تعسّر السؤال عنه ـ لبعد بلد المکلّف أو کونه‏‎ ‎‏محبوساً أو محصوراً من ناحیة الأشرار ـ ففیه : أنّ تحصیل العلم التفصیلی غیر‏‎ ‎‏ممکن عادة ؛ حتّی یقال بأنّ الأمارات أکثر مطابقة منه ، وما هو الممکن هو العلم‏‎ ‎‏بالموافقة الإجمالیة ، ولکنّه دائم المطابقة للواقع ؛ إذ لو أتی المکلّف بمؤدّی الأمارة‏‎ ‎‏وسائر المحتملات فلا یعقل أصوبیة مؤدّی الأمارة عن العلم ، ولو صدق ذلک لکان‏‎ ‎‏الاحتیاط فی موارد تحقّق الأمارة خلاف الاحتیاط ، مع الضرورة بخلافه ، ویظهر‏‎ ‎‏منه حال الانسداد .‏

‏فإن قلت : إنّ أمـر الشارع بالتعبّد بأخبار الآحاد علّـة لانتشار الأحادیث‏‎ ‎‏فـی الأقطـار والأمصار ، فلو لم یقع مـن الشارع إیجاب التعبّد بها لم یتحقّق‏‎ ‎‏الـدواعی إلی نقلها أصلاً ، ولو ترک نقلها صارت الأحکام منسیة غیر معلومة ؛‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 369
‏لا إجمـالاً ولا تفصیلاً ، ومعـه لا یتمکّن الإنسان مـن الإطاعـة الإجمالیـة‏‎ ‎‏والاحتیاط فی العمل ؛ لأنّ طریقه صار مغفولاً عنه ؛ لعدم انقداح الاحتمال فی‏‎ ‎‏الأذهان إلاّ ببرکة ما وصل إلینا منهم ‏‏علیهم السلام‏‏ .‏

‏قلت ـ مع أنّ الدواعی إلی نقل الأخبار کثیرة ـ إنّ الشارع یمکن أن یتوصّل‏‎ ‎‏إلی غرضه ـ الاحتیاط عند عدم العلم ـ بإیجاب نشر الروایات ونقلها وبثّها حتّی‏‎ ‎‏یحصل بذلک موضوع للعمل بالاحتیاط .‏

ویمکن أن یذبّ عن الإشکال :‏ بأنّ فی إیجاب تحصیل العلم التفصیلی فی‏‎ ‎‏زمان الحضور وفی إیجاب الاحتیاط فی زمن الغیبة أو الحضور مع عدم إمکان‏‎ ‎‏الوصول إلیه ‏‏علیه السلام‏‏ مفسدة غالبة .‏

توضیحه :‏ أمّا فی زمان الانفتاح : فلأنّ السؤال عن الأئمّة ‏‏علیهم السلام‏‏ وإن کان أمراً‏‎ ‎‏ممکناً غیر معسور إلاّ أنّ إلزام الناس فی ذلک الزمان علی العمل بالعلم کان یوجب‏‎ ‎‏ازدحام الشیعة علی بابهم وتجمّعهم حول دارهم ، وکان التجمّع حول الإمام أبغض‏‎ ‎‏شیء عند الخلفاء ، وکان موجباً للقتل والهدم وغیرهما .‏

‏فلو فرض وجوب العلم التفصیلی فی زمن الصادقین ‏‏علیهماالسلام‏‏ کان ذلک موجباً‏‎ ‎‏لتجمّع الناس حول دارهما ودیارهما ، بین سائل وکاتب وقارئ ومستفسر ، وکان‏‎ ‎‏نتیجة ذلک تسلّط الخلفاء علی الشیعة وردعهم وقطع اُصولهم عن أدیم الأرض ،‏‎ ‎‏وعدم وصول شیء من الأحکام الشرعیة موجودة بأیدینا .‏

‏فدار الأمـر بین العمل بالأخبار الواردة عنهم ‏‏علیهم السلام‏‏ بطریق الثقات الموصلـة‏‎ ‎‏إلی الواقـع غالباً ـ وإن خالفت أحیاناً ـ وبین إیجاب العلم حتّی یصل بعض الشیعـة‏‎ ‎‏إلی الواقع ، ویحـرم آلاف مـن الناس عـن الأحکام والفروع العملیـة ؛ لما عرفت‏‎ ‎‏أنّ الإلـزام علی تحصیل العلم کـان مستلزماً للتجمّع علی باب الأئمّـة ، وکان‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 370
‏نتیجـة ذلک صدور الحکم مـن الخلفاء بأخـذهم وشـدّهم وضربهم وقتلهم‏‎ ‎‏واضطهادهم تحت کلّ حجر ومدر .‏

وأمّا‏ الاحتیاط فی هذه الأزمان أو زمن الحضور لمن لم یمکن له الوصول‏‎ ‎‏إلیهم ‏‏علیهم السلام‏‏ ففساده أظهر من أن یخفی ؛ فإنّه مستلزم للحرج الشدید واختلال النظام‏‎ ‎‏ورغبة الناس عن الدین الحنیف ، بل موجب للخروج من الدین ؛ فإنّ الحکیم‏‎ ‎‏الشارع لابدّ له ملاحظة طاقة الناس واستعدادهم فی تحمّل الأحکام والعمل بها .‏

‏ومثله التبعیض فی الاحتیاط ؛ فإنّه لو لم یوجب حرجاً شدیداً لکنّه موجب‏‎ ‎‏رغبة جمهرة الناس عن الدین .‏

وبالجملة :‏ البناء علی الاحتیاط المطلق أو بمقدار میسور فی جمیع‏‎ ‎‏التکالیف ؛ من العبادات والمعاملات والمناکحات وغیرها یستلزم الحرج الشدید فی‏‎ ‎‏بعض الأحوال ، ورغبة الناس عن الدین وقلّة العاملین من العباد للأحکام فی بعض‏‎ ‎‏آخر . فلأجل هـذا کلّه أمضی عمل العقلاء وبنائهم فی العمل بالظنون وأخبار‏‎ ‎‏الآحاد بمقدار یؤسّس لهم نظاماً صحیحاً ، وهذا وإن استلزم فساداً وتفویتاً غیر أنّـه‏‎ ‎‏فی مقابل إعراض الناس عنه وخروجهم منه وقلّة المتدیّنین بـه لا یعدّ إلاّ شیئاً‏‎ ‎‏طفیفاً یستهان به .‏

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم ‏قدس سره‏‏ التزم بقبح التعبّد بالظنون فی حال الانفتاح ، وأمّا‏‎ ‎‏حال الانسداد فقد ذهب إلی أنّ التفویت متدارک بالمصلحة السلوکیة‏‎[3]‎‏ .‏

وأوضحه بعض أعاظم العصر بما حاصله :‏ أنّ قیام الأمارة یمکن أن یکون‏‎ ‎‏سبباً لحدوث مصلحة فی السلوک مع بقاء الواقع والمؤدّی علی ما هما علیه من‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 371
‏المصلحة والمفسدة ، من دون أن یحدث فی المؤدّی مصلحة بسبب قیام الأمارة غیر‏‎ ‎‏ما کان علیه من المصلحة ، بل المصلحة فی تطرّق الطریق وسلوک الأمارة وتطبیق‏‎ ‎‏العمل علی مؤدّاها والبناء علی أنّه هو الواقع ، بترتیب الآثار المترتّبة علی الواقع‏‎ ‎‏علی المؤدّی ، وبهذه المصلحة السلوکیة یتدارک ما فات من المکلّف‏‎[4]‎‏ ، انتهی .‏

أقول :‏ وفیه مواقع للنظر :‏

منها :‏ أنّ حجّیـة الأمـارة فی الشرع لیس إلاّ إمضاء مـا کان فی یـد العقلاء‏‎ ‎‏فی معاشهم ومعادهم ، مـن غیر أن یزیـد علیه شیئاً أو ینقص منه شیئاً . ومـن‏‎ ‎‏المعلوم أنّ اعتبار الأمارات لأجل کونها طریقاً للواقع فقط ، مـن دون أن یترتّب‏‎ ‎‏علی العمل بها مصلحة وراء إیصالها إلی الواقع ، فلیس قیام الأمارة عند العقلاء‏‎ ‎‏محدثاً للمصلحة ؛ لا فی المؤدّی ولا فی العمل بها وسلوکها . وعلیه فالمصلحة‏‎ ‎‏السلوکیة لا أساس لها .‏

ومنها :‏ أنّه لا یتصوّر لسلوک الأمارة وتطرّق الطریق معنی وراء العمل علی‏‎ ‎‏طبق مؤدّاها ، فإذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة فلیس سلوکها إلاّ العمل علی‏‎ ‎‏مؤدّاها والإتیان به . فلا یتصوّر للسلوک وتطرّق الطریق مصلحة وراء المصلحة‏‎ ‎‏الموجودة فی الإتیان بالمؤدّی .‏

‏وإن شئت قلت : الإتیان بالمؤدّی مع المؤدّی المحقّق فی الخارج غیر‏‎ ‎‏متغایرین إلاّ فی عالم الاعتبار ، کتغایر الإیجاد والوجود . فهذه المفاهیم المصدریة‏‎ ‎‏النسبیة لا یعقل أن تصیر متّصفة بالمصلحة والمفسدة ، بل المفسدة والمصلحة قائمة‏‎ ‎‏بنفس الخمر والصلاة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 372
‏وبعبارة أوضح : کون شرب الخمر وإتیان الصلاة متعلّقاً للحرمة والوجوب‏‎ ‎‏وموصوفاً بالمصلحة والمفسدة لا ینافی کون تطرّق الطریق محلاًّ للحکم وموضوعاً‏‎ ‎‏له ؛ فإنّ تطرّق الطریق عین ترک شرب الخمر وعین الإتیان بالصلاة .‏

ومنها :‏ أنّ ظاهر عبارة الشیخ وشارح مراده أنّ المصلحة قائمة بالتطرّق‏‎ ‎‏والسلوک ، بلا دخالة للواقع فی حدوث تلک المصلحة . وعلیه فلو أخبر العادل عن‏‎ ‎‏الاُمور العادیة لزم العمل علی قوله فی هذه الموارد أیضاً ؛ لأنّه ذا مصلحة سلوکیة ،‏‎ ‎‏وهو کما تری .‏

ومنها :‏ أنّ لازم تدارک المصلحة الواقعیة بالمصلحة السلوکیة هو الإجزاء‏‎ ‎‏وعدم لزوم الإعادة والقضاء ؛ إذ لو لم یتدارک مصلحة الواقع لزم قبح الأمر بالتطرّق ،‏‎ ‎‏ولو تدارک سقط الأمر ، والمفروض أنّ المصلحة القائمة بتطرّق الطریق لیست مقیّدة‏‎ ‎‏بعدم کشف الخلاف . فما یظهر من التفصیل من الشیخ الأعظم وبعض أعاظم العصر‏‎ ‎‏لیس فی محلّه .‏

‏ثمّ إنّ البحث عن الإجزاء قد فرغنا عنه فی الأوامر فراجع ، وسیوافیک لُباب‏‎ ‎‏القول فیه فی مبحث الاجتهاد والتقلید .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 373

  • )) نفس المصدر : 90 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 90 ـ 91 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 24 : 109 و 112 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 95 ـ 96 .