المقام الثانی : فی سقوط التکلیف بالامتثال الإجمالی
وهذا المقام راجع إلی سقوط التکلیف بالامتثال الإجمالی ، فنقول : هل یجزی الامتثال الإجمالی إذا أتی المأمور به بجمیع شرائطه وقیوده مع التمکّن من الامتثال التفصیلی أو لا ؟
ومحلّ النزاع إنّما إذا کان الاختلاف بین الامتثالین من جهة الإجمال والتفصیل لا غیر ؛ فالمسألة عقلیة محضة .
وبذلک یظهر النظر فی ما عن بعض محقّقی العصر قدس سره ؛ حیث إنّه بنی جواز الاکتفاء وعدمه علی اعتبار قصد الوجه والتمییز فی المأمور به شرعاً ، وعدم حصولهما إلاّ بالعلم التفصیلی أو عدم اعتبارهما ، وأنّ أصالة الإطلاق أو أصالة البراءة هل یرجع إلیهما عند الشکّ فی اعتبار هذه الاُمور أو لا ؟
وجه النظر : أنّ هذا خروج عن محطّ البحث ومصبّ النزاع ؛ فإنّه ممحّض فی المسألة العقلیة البحتة ؛ وهی أنّ الامتثال الإجمالی هل هو کالامتثال التفصیلی مع اشتراکهما فی الإتیان بالمأمور به علی ما هو علیه بشراشر شرائطه وأجزائه ، أو لا ؟
وأمّـا القول بأنّ الامتثال الإجمالی مستلزم لعـدم الإتیان بالمأمـور بـه علی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 358
ما هو علیه فخروج عن البحث ، کما أنّ البحث عن لزوم قصد الوجه والتمییز وعدمهما وابتناء المقام علیه کلّها بحث فقهی لا یرتبط بالمقام ؛ لأنّه لو احتمل دخالة ما ذکرنا لا یکون الموافقة علمیة إجمالیة ، بل احتمالیة خارجة عن مصبّ البحث .
وإن شئت قلت : إنّ البحث فی أنّ العقل فی مقام الامتثال هل یحکم بلزوم العلم التفصیلی عند الإتیان بالمأمور به حال الإتیان به ، وأنّ الموافقة الإجمالیة القطعیة لا تفید مع الإتیان بالمأمور به بجمیع قیوده أو لا ؟ فالقول باحتمال دخالة قید شرعاً فی المأمور به ، وأنّه لا یحصل إلاّ بالعلم التفصیلی أجنبی عن المقام .
إذا عرفت ذلک : أنّ القائلین بعدم الاکتفاء یرجع محصّل مقالهم إلی أمرین :
الأوّل : أنّ التکرار لعب بأمر المولی ، وأنّ العقل یحکم بأنّ اللاعب بأمره لا یمکن أن یتقرّب به ؛ ولو أتی بجمیع ما اُمر به .
الثانی : أنّ الامتثال التفصیلی مقدّم علی الامتثال الإجمالی ، ومع التمکّن منه لا تصل النوبة إلیه .
فنقول أمّا الأوّل ففیه : أنّه ربّما یترتّب الغرض العقلائی علی التکرار ، فلا نسلّم أنّ الاحتیاط لعب بأمر المولی وتلاعب به ، بل یمکن القول بالصحّة إذا کان مطیعـاً فی أصل الإتیان ؛ وإن کان لاعباً فی کیفیـة الامتثال ، فالصلاة علی سطح المنارة أو علی أمکنة غیر معروفة تجزی عن الواجب ؛ وإن کان لاعباً فی ضمائمه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 359
وأمّا الثانی : فقد قرّره بعض أعاظم العصر ، وملخّص ما أفاده : أنّ حقیقة الإطاعة عند العقل هو الانبعاث عن بعث المولی ؛ بحیث یکون المحرّک له نحو العمل هو تعلّق الأمر به . وهذا المعنی لا یتحقّق فی الامتثال الإجمالی ؛ فإنّ الداعی فی کلّ واحد من الطرفین هو احتمال الأمر ، فالانبعاث إنّما یکون عن احتمال البعث ، وهذا وإن کان قسماً من الإطاعة إلاّ أنّه متأخّر رتبة عن الامتثال التفصیلی . فالإنصاف : أنّ مدّعی القطع بتقدّم رتبة الامتثال التفصیلی علی الإجمالی مع التمکّن عن التفصیلی فی الشبهات الموضوعیة والحکمیة لا یکون مجازفاً ، ومع الشکّ یکون مقتضی القاعدة هو الاشتغال .
ثمّ نقل الفاضل المقرّر رحمه الله وجهاً آخر ، وهو : أنّ اعتبار الامتثال التفصیلی من القیود الشرعیة ؛ ولو بنتیجة التقیید .
وفیه : منع انحصار الإطاعة فی الانبعاث عن البعث ، بل یشمل للانبعاث عن احتمال الأمر أیضاً ، بل الآتی بالمأمور به بداعی احتمال الأمر أطوع ممّن أتی به لأجل البعث القطعی ؛ فإنّ البعث عن احتمال الأمر کاشف عن قوّة المبادئ الباعثة إلی الإطاعة فی نفس المطیع ؛ من الإقرار بعظمته والخضوع لدیه .
علی أنّ الباعث لیس هو الأمر الواقعی ، وإلاّ لزم الإلجاء وعدم صدور العصیان من أحد ، بل الباعث هو تصوّر أمر الآمر وما یترتّب علیه من العواقب والآثار ، فینبعث عن تلک المقدّمات رجاءً للثواب أو خوفاً من العقاب ، وهذا المعنی موجود عند الانبعاث عن الاحتمال .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 360
والحاصل : أنّ الباعث هو المبادئ الموجودة فی نفس المطیع ؛ من الخوف والخضوع ، وهو موجود فی کلا الامتثالین ؛ أعنی عند القطع بالأمر أو احتماله .
علی أنّ الباعث للإتیان بالأطراف إنّما هو العلم بالبعث المردّد بین الأطراف ، فالانبعاث إنّما هو عن البعث فی الموافقة الإجمالیة أیضاً ، والإجمال إنّما هو فی المتعلّق .
أضف إلی ذلک : أنّ ما ادّعاه من کون الامتثال التفصیلی من القیود الشرعیة علی فرض إمکان اعتباره شرعاً بنتیجة التقیید فهو ممّا لا دلیل علیه ، والإجماع فی المقام ممّا لا اعتبار لمحصّله ـ فضلاً عن منقوله ـ لأنّ المسألة عقلیة یمکن أن یکون المستند هو الحکم العقلی دون غیره .
فتلخّص : أنّ دعوی تقدّم الامتثال التفصیلی علی الإجمالی ممنوع بعد کون الحاکم فی باب الإطاعات هو العقل ، وهو لا یشکّ فی أنّ الآتی بالمأمور به علی ما هو علیه بقصد إطاعة أمره ـ ولو احتمالاً ـ محکوم عمله بالصحّة ؛ ولو لم یعلم حین الإتیان أنّ ما أتی به هو المأمور به ؛ لأنّ العلم طریق إلی حصول المطلوب ، لا أنّه دخیل فیه .
وعلیه : فدعوی دخالة العلم التفصیلی فی حصول المطلوب دعوی بلا شاهد ، فلا تصل النوبة إلی الشکّ حتّی نتمسّک بالقواعد المقرّرة للشاکّ .
هذا کلّه فیما إذا کان مستلزماً للتکرار .
وأمّا إذا لم یستلزم : فقد قال رحمه الله بعدم وجوب إزالة الشبهة ـ وإن تمکّن منها ـ لإمکان قصـد الامتثال التفصیلی بالنسبـة إلی جملـة العمل ؛ للعلم بتعلّق الأمـر به
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 361
ـ وإن لم یعلم بوجوب الجزء المشکوک ـ إلاّ إذا قلنا باعتبار قصد الوجه فی الأجزاء ، انتهی .
وأنت خبیر : أنّه لو قلنا بلزوم کون الانبعاث عن البعث فی صدق الإطاعة لابدّ من القول بعدم کفایة الامتثال الإجمالی فی الأجزاء أیضاً ؛ فإنّ الأجزاء وإن لم یکن متعلّقة للأمر مستقلّة لکن الانبعاث نحوها یکون بواسطة بعث المولی إلی الطبیعة ، فما لم یعلم أنّ السورة جزء من الواجب لا یمکن أن یصیر الأمر المتعلّق بالطبیعة باعثاً إلی الجزء .
فالإتیان بالجزء المشکوک فیه لیس انبعاثاً عن البعث القطعی . وهذا لا ینافی ما ذکرناه فی مقدّمة الواجب ؛ من أنّ البعث إلی الأجزاء لابدّ وأن یکون بعین البعث نحو الطبیعة ، ولکن هذا البعث لا یتحقّق إلاّ مع العلم بالجزئیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 362