الأمر الرابع فی الموافقة الالتزامیة

الأمر الرابع فی الموافقة الالتزامیة

‏ ‏

‏وتوضیحها یتوقّف علی بیان مطالب :‏

الأوّل :‏ أنّ الاُصول الاعتقادیة علی أقسام :‏

‏منها : ما ثبتت بالبرهان العقلی القطعی ، ویستقلّ العقل فی إثباتها ونفی‏‎ ‎‏غیرها ، من دون أن یستمدّ من الکتاب والسنّة ، کوجود المبدأ وتوحیده وصفاته‏‎ ‎‏الکمالیـة وتنزیهـه مـن النقائص والحشر والنشر وکونـه جسمانیاً ـ علی ما هـو‏‎ ‎‏مبرهـن فی محلّـه وعند أهلـه‏‎[1]‎‏ ـ والنبوّة العامّـة وما ضاهاهـا مـن العقلیات‏‎ ‎‏المستقلّـة التی لا یستأهل لنقضه وإبرامه وإثباته ونفیه غیر العقل ؛ حتّی لو وجدنا‏‎ ‎‏فی الکتاب والسنّة ما یخالفه ظاهراً فلا محیص عن تأویله أو ردّ علمه إلی أهله ،‏‎ ‎‏کما اُمرنا بذلک‏‎[2]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 343
‏ومنها : ما ثبت بضرورة الأدیان أو دین الإسلام ، کالمباحث الراجعة إلی‏‎ ‎‏بعض خصوصیات المعاد والجنّة والنار والخلود فیهما وما ضاهاها .‏

‏ومنها : ما ثبت بالقرآن والروایات المتواترة .‏

‏ومنها : ما لا نجد فیها إلاّ روایات آحاد قد توجب العلم والاطمئنان أحیاناً ،‏‎ ‎‏واُخری لا توجبه .‏

‏هذا کلّه فی الاُصول الاعتقادیة .‏

وأمّا الأحکام الفرعیة أیضاً :‏ تارة ثابتة بضرورة الدین أو المذهب ، واُخری‏‎ ‎‏بظواهر الکتاب والسنّة ؛ آحادها أو متواترها ، وربّما تثبت بالعقل أیضاً .‏

الثانی :‏ أنّ العوارض النفسانیة ـ کالحبّ والبغض والخضوع والخشوع ـ‏‎ ‎‏لیست اُموراً اختیاریة حاصلة فی النفس بإرادة منها واختیار ، بل وجودها فی‏‎ ‎‏النفس إنّما تتبع لوجود مبادئها ؛ فإنّ لکلّ من هذه العوارض مبادٍ وعللٍ تستدعی‏‎ ‎‏وجود تلک العوارض .‏

‏مثلاً العلم بوجود البارئ وعظمته وقهّاریته یوجب الخضوع والخشوع لدی‏‎ ‎‏حضرته ـ جلّت کبریاؤه ـ والخوف من مقامه والعلم برحمته الواسعة وجوده‏‎ ‎‏الشامل ، وقدرته النافذة یوجب الرجاء والوثوق والتطلّب والتذلّل ، وکلّما کملت‏‎ ‎‏المبادئ کملت النتائج بلا ریب .‏

‏فظهر : أنّ تلک العوارض نتائج قهریة لا تستتبعه إرادة ولا اختیار ، وإنّما یدور‏‎ ‎‏مدار وجود مبادئها المقرّرة فی محلّه وعند أهله .‏

الثالث‏ ـ وهو أهمّ المطالب ـ أنّ التسلیم القلبی والانقیاد الجنانی والاعتقاد‏‎ ‎‏الجزمی لأمر من الاُمور لا تحصل بالإرادة والاختیار ، من دون حصول مقدّماتها‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 344
‏ومبادئها . ولو فرضنا حصول عللها وأسبابها یمتنع تخلّف الالتزام والانقیاد القلبی‏‎ ‎‏عند حصول مبادئها ، ویمتنع الاعتقاد بأضدادها . فتخلّفها عن المبادئ ممتنع ، کما‏‎ ‎‏أنّ حصولها بدونها أیضاً ممتنع .‏

‏والفرق بین هذا المطلب وما تقدّمه أوضح من أن یخفی ؛ إذ البحث فی‏‎ ‎‏المتقدّم عن الکبری الکلّیة من أنّ العوارض القلبیة لا تحصل بالإرادة والاختیار ،‏‎ ‎‏وهنا عن الصغری الجزئیة لهذه القاعدة ؛ وهی أنّ التسلیم والانقیاد من العوارض‏‎ ‎‏القلبیة ، یمتنع حصولها بلا مبادئها ، کما یمتنع حصول أضدادها عند حصولها .‏

‏فمن قام عنده البرهان الواضح بوجود المبدأ المتعال ووحدته لا یمکن له‏‎ ‎‏عقد القلب عن صمیمه ؛ بعدم وجوده وعدم وحدته .‏

‏ومن قام عنده البرهان الریاضی علی أنّ زوایا المثلّث مساویة لقائمتیه یمتنع‏‎ ‎‏مع وجود هذه المبادئ عقد القلب علی عدم التساوی . فکما لا یمکن الالتزام علی‏‎ ‎‏ضدّ أمر تکوینی مقطوع به فکذلک لا یمکن عقد القلب علی ضدّ أمر تشریعی ثبت‏‎ ‎‏بالدلیل القطعی .‏

‏نعم ، لا مانع من إنکاره ظاهراً وجحده لساناً لا جناناً واعتقاداً ، وإلیه یشیر‏‎ ‎‏قوله عزّوجلّ ‏‏«‏وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَیْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمَاً وَعُلُوّاً‏»‏‎[3]‎‏ .‏

‏وما یقال : من أنّ الکفر الجحودی یرجع إلی الالتزام القلبی علی خلاف‏‎ ‎‏الیقین الحاصل فی نفسه‏‎[4]‎‏ ، فاسد جدّاً .‏

‏هذا هو الحقّ القراح فی هذا المطلب ، من غیر فرق بین الاُصول الاعتقادیة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 345
‏والفروع العلمیة ، من غیر فرق أیضاً بین أن یقوم علیها برهان عقلی أو ثبت بضرورة‏‎ ‎‏الکتاب والسنّة أو قام علیه الأدلّة الثابتة حجّیتها بأدلّة قطعیة ؛ من الأدلّة الاجتهادیة‏‎ ‎‏والفقاهیة .‏

‏فلو قام الحجّة عند المکلّف علی نجاسة الغسالة وحرمة استعمالها یمتنع‏‎ ‎‏علیه أن یعقّد القلب علی خلافها أو یلتزم جدّاً علی طهارته ، إلاّ أن یرجع إلی‏‎ ‎‏تخطئة الشارع ـ والعیاذ بالله ـ وهو خارج عن المقام .‏

وبذلک یظهر :‏ أنّ وجوب الموافقة الالتزامیة وحرمة التشریع لا یرجع إلی‏‎ ‎‏محصّل إن کان المراد من التشریع هو البناء والالتزام القلبی علی کون حکم من‏‎ ‎‏الشارع ، مع العلم بأنّه لم یکن من الشرع ، أو لم یعلم کونه منه . ومثله وجوب‏‎ ‎‏الموافقة ؛ وهو عقد القلب اختیاراً علی الاُصول والعقائد والفروع الثابتة بأدلّتها‏‎ ‎‏القطعیة الواقعیة .‏

والحاصل :‏ أنّ التشریع بهذا المعنی أمر غیر معقول ، بل لا یتحقّق من القاطع‏‎ ‎‏حتّی یتعلّق به النهی ، کما أنّ الاعتقاد بکلّ ما ثبت بالأدلّة أمر قهری تتبع مبادئها ،‏‎ ‎‏ویوجد غِبّ عللها بلا إرادة واختیار ، ولا یمکن التخلّف عنها ولا للحاصل له‏‎ ‎‏مخالفتها ، فلا یصحّ تعلّق التکلیف لأمر یستحیل وجوده ، أو یجب وجوده بلا إرادة‏‎ ‎‏واختیار .‏

‏نعم ، التظاهر والتدیّن ظاهراً وعملاً بشیء لیس من الدین ـ افتراءً علیه وکذباً‏‎ ‎‏علی الله ورسوله وعترته الطاهرین ـ أمر ممکن محرّم لا کلام فیه .‏

فظهر :‏ أنّ وجوب الموافقة الالتزامیة عین وجوب العقد والتصمیم اختیاراً‏‎ ‎‏علی الأحکام ، والفروع الثابتة من الشرع بعد قیام الحجّة أمر غیر معقول لا تقع‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 346
‏مصبّ التکلیف . وحمل کلامهم علی وجوب تحصیل مقدّمات الموافقة الالتزامیة‏‎ ‎‏وحرمة تحصیل مقدّمات خلافها کما تری .‏

‏وأمّا إن کان المراد منه هو البناء القلبی علی الالتزام العملی وإطاعة أمر‏‎ ‎‏مولاه ، ویقابله البناء علی المخالفة العملیة فهما ـ بهذا المعنی ـ أمران معقولان‏‎ ‎‏یعدّان من شعب الانقیاد والتجرّی .‏

وبذلک یتّضح :‏ أنّ ما ذهب إلیه سیّد الأساتذة ، المحقّق الفشارکی ‏‏رحمه الله‏‏ من‏‎ ‎‏وجود التجزّم فی القضایا الکاذبة علی طبقها ؛ حتّی جعله ‏‏قدس سره‏‏ مناطاً لصیرورة‏‎ ‎‏القضایا ممّا یصحّ السکوت علیها ، وأنّ العقد القلبی علیها یکون جعلیاً اختیاریاً‏‎[5]‎‏ ‏‎ ‎‏لا یخلو من ضعف .‏

وقد أوضحه شیخنا العلاّمة ‏قدس سره‏‏ ، وقال : إنّ حاصل کلامه أنّه کما أنّ العلم‏‎ ‎‏قد یتحقّق فی النفس بوجود أسبابه کذلک قد یخلق النفس حالة وصفة علی نحو‏‎ ‎‏العلم حاکیة عن الخارج ، فإذا تحقّق هذا المعنی فی الکلام یصیر جملة یصحّ‏‎ ‎‏السکوت علیها ؛ لأنّ تلک الصفة الموجودة یحکی جزماً عن تحقّق فی الخارج‏‎[6]‎‏ .‏

لکن فیه :‏ أنّ العلم والجزم من الاُمور التکوینیة التی لا توجد فی النفس إلاّ‏‎ ‎‏بعللها وأسبابها التکوینیة ، ولیس من الاُمور الجعلیة الاعتباریة ، وإلاّ لزم جواز‏‎ ‎‏الجزم فی النفس بأنّ الاثنین نصف الثلاثة ، أو أنّ الکلّ أصغر من الجزء ، وما أشبهه‏‎ ‎‏من القضایا البدیهیة . وبالجملـة : لیس الجـزم والعلم مـن الأفعال الاختیاریـة ؛‏‎ ‎‏حتّی نوجـده بالإرادة والاختیار .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 347
وأمّا ما ذکره :‏ من کون الجزم هو المناط فی القضایا الصادقة والکاذبة فهو‏‎ ‎‏وإن کان حقّاً إلاّ أنّ الجزم فی القضایا الصادقة حقیقی واقعی ، وفی الکاذبة لیست إلاّ‏‎ ‎‏صورة الجزم وإظهاره . وما هو المناط فی الصدق والکذب هو الإخبار الجزمی‏‎ ‎‏والإخبار عن شیء بصورة الجزم والبتّ ، وأمّا التجزّم القلبی فلا ربط له لصحّة‏‎ ‎‏السکوت وعدمها ، ولا للصدق والکذب .‏

‏والشاهد علیه : أنّه لو أظهر المتکلّم ما هو مقطوع بصورة التردّد فلا یتّصف‏‎ ‎‏بالصدق والکذب ولا یصحّ السکوت علیه .‏

‏وتوهّم أنّ المتکلّم ینشأ حقیقة التردّد فی الذهن ، ویصیر مردّداً بلا جعل‏‎ ‎‏واختراع کما تری .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 348

  • )) راجع الحکمة المتعالیة 9 : 185 ـ 207 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 339 .
  • )) راجـع النسـاء (4) : 59 ، الکافی 1 : 68 ، بحـار الأنوار 2 : 234 / 15 و 236 / 21 و 245 / 55 .
  • )) النمل (27) : 14 .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 271 ـ 272 .
  • )) اُنظر درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 70 .
  • )) نفس المصدر .