مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز
أمّا الاستصحاب : فیتوقّف کونه أمارة شرعیة علی إثبات اُمور ثلاثة :
الأوّل : أن یکون له جهة کشف وطریقیة ، فإنّ ما لا یکون له جهة کشف أصلاً لا یصلح للأماریة والکاشفیة .
الثانی : أن لا یکون بنفسه أمارة عقلیة أو عقلائیة ، فإنّ الواجد للأماریة لا معنی لجعله أمارة ؛ فإنّه من قبیل تحصیل الحاصل .
الثالث : أن یکون العنایة فی جعله إلی الکاشفیة والطریقیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 336
ولا شکّ أنّ الاستصحاب فیه جهة کشف عن الواقع ، فإنّ الیقین بالحالة السابقة له جهة کشف عن البقاء . وإلی ذلک یرجع ما یقال : ما ثبت یدوم ، وهو فی الآن اللاحق لیس کالشکّ المحض غیر القابل للأماریة .
کما أنّ الجهة الثانیة أیضاً موجودة ، فإنّ بناء العقلاء لیس علی کون الاستصحاب کاشفاً عن متعلّقه ؛ وإن ادّعی أنّه لأجل کون شیء له حالة مقطوعة فی السابق إلاّ أنّه مجرّد ادّعاء . بل من القریب جدّاً أن یکون ذلک بواسطة احتفافه باُمور اُخر ممّا توجب الاطمئنان والوثوق ، لا لمجرّد القطع بالحالة السابقة .
وبالجملة : لم یعلم أنّ عمل العقلاء بالاستصحاب فی معاملاتهم وسیاساتهم لأجـل کونـه ذات کشف عـن الواقـع ؛ کشفاً ضعیفاً بلا ملاحظـة قرائن محفوفـة توجب الوثوق حتّی یکون أمارة عقلائیـة کخبر الثقـة ، ویکون ذاک مانعاً عـن تعلّق الجعل الشرعی .
وأمّا الجهة الثالثة : فلو ثبت تلک الجهة لانسلک الاستصحاب فی عداد الأمارات الشرعیة مقابل الأمارات العقلائیة ، ویمکن استظهاره من الکبریات الموجودة فی الاستصحاب . فتری أنّ العنایة فیها بإبقاء الیقین وأنّه فی عالم التشریع والتعبّد موجود ، وأنّه لا ینبغی أن ینقض بالشکّ .
والحاصل : أنّ الروایات تعطی بظاهرها أنّ الغرض إطالة عمر الیقین السابق ، وإعطاء صفـة الیقین علی کلّ مـن کان علی یقین ، کما ینادی به قوله علیه السلام فی مضمرة زرارة : «وإلاّ فإنّه علی یقین من وضوئه ، ولا ینقض الیقین بالشکّ أبداً»
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 337
لا إعطاء صفة الیقین علی الشاکّ بعنوان أنّه شاکّ ، ولا جعل الشکّ یقیناً حتّی یقال : لا معنی لإعطاء صفة الکاشفیة والطریقیة علی الشکّ ، ولا إعطاء الیقین علی الشاکّ ؛ لأنّ الشکّ لیس له جهة الکشف .
وبالجملة : الاستصحاب إطالة عمر الیقین تعبّداً فی عالم التشریع ، وقد عرفت أماریة الیقین السابق بالنسبة إلی اللاحق .
ثمّ إنّا قد أطلنا الکلام سابقاً فی النقض والإبرام بذکر إشکالات وتفصّیات فی المقام ، لکن التحقیق أنّه لیس أمارة شرعیة ، بل هو أصل تعبّدی کما علیه المشائخ ؛ لأنّ الجهة الاُولی من الجهات اللازمة فی أماریة الشیء مفقودة فی الاستصحاب ؛ لأنّ کون الیقین السابق کاشفاً عن الواقع ـ کشفاً ناقصاً ـ لا یرجع إلی شیء ؛ لأنّ الیقین لا یعقل أن یکون کاشفاً عن شیء فی زمان زواله ، والمفروض کون المکلّف حین الاستصحاب شاکّاً لیس إلاّ .
نعم ، یمکن أن یکون وجود المستصحب فیما له اقتضاء بقاء کاشفاً ناقصاً عـن بقائـه ؛ بمعنی حصول الظنّ منه بالنسبة إلی بقائه ، لکنّه أجنبی عن أماریة الیقین السابق .
والجهة الثالثة أیضاً منتفیة : فلأنّ العنایة فی الروایات لیست إلی جهة الکشف والطریقیة ؛ أی إلی أنّ الکون السابق کاشف عن البقاء حتّی یصحّ جعله أمارة ؛ لما عرفت أنّ الکون السابق یحصل منه مرتبة من الظنّ ، بل العنایة إلی أنّ الیقین لکونه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 338
أمراً مبرماً لا ینبغی أن ینقض بالشکّ الذی لیس له إبرام ، وقد عرفت أنّ الیقین السابق لیس له أدنی أماریة بالنسبة إلی حالة الشکّ .
فما تعرّض له الأخبار وکان مورد العنایة فیها لیس له جهة کشف مطلقاً ، وما له جهة کشف موجب للظنّ یکون أجنبیاً عن مفادها ، فلا محیص عن الذهاب إلی ما علیه الأساتذة من أنّه أصل تعبّدی .
وأمّا الاستصحاب العقلائی الذی ینظر إلیه کلام الأقدمین فهو غیر مفاد الروایات ، بل هو عبارة عن الکون السابق الکاشف عن البقاء فی زمن اللاحق ، وقد عرفت أنّ بناء العقلاء لیس علی ترتیب الآثار بمجرّد الکون السابق ما لم یحصل الوثوق .
بل الظاهر : أنّ بناء العقلاء علی العمل لیس لأجل الاستصحاب ـ أی جرّ الحالة السابقة ـ بل لأجل عدم الاعتناء بالاحتمال الضعیف المقابل للوثوق ، کما فی سائر الطرق العقلائیة .
وأمّا قاعدة التجاوز : فالکبری المجعولة فیها بعد إرجاع الأخبار بعضها إلی بعض وجوب المضیّ العملی وعدم الاعتناء بالشکّ والبناء علی الإتیان .
وما فی بعض الأخبار من «أنّ الشکّ لیس بشیء» وإن کان یوهم أنّها بصدد إسقاط الشکّ اللازم منه إعطاء الکاشفیة لکنّه إشعار ضعیف لا ینبغی الاعتداد به ، والظاهر من مجموع الأخبار لیس إلاّ ما تقدّم .
کما یکشف عنه روایة حمّاد بن عثمان قال : قلت لأبی عبدالله علیه السلام أشکّ وأنا ساجد ، فلا أدری رکعت أم لا . فقال : «قد رکعت» .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 339
والحاصل : أنّ العنایة فی الجعل فی القاعدة هی عدم الاعتناء عملاً والمضی العملی والبناء علی الإتیان ، وهو المراد بالأصل .
هذا مفاد الاستصحاب وقاعدة التجاوز .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 340