قیام الأمارات مقام القطع بأقسامه

قیام الأمارات مقام القطع بأقسامه

‏ ‏

أمّا المقام الثانی :‏ أعنی مقام الإثبات والدلالة ، فلابدّ فی توضیح الحال من‏‎ ‎‏التنبیه علی ما سیجیء منّا تفصیله عند البحث عن حجّیة الخبر الواحد‏‎[1]‎‏ ،‏‎ ‎‏وملخّصه : أنّ الأمارات المتداولة فی أیدینا ممّا استقرّ علیها العمل عند العقلاء ، بلا‏‎ ‎‏غمض أحد منهم فی واحد منها ؛ ضرورة توقّف حیاة المجتمع علی العمل بها .‏‎ ‎‏والإنسان المدنی یری أنّ البناء علی تحصیل العلم فی الحوادث والوقائع الیومیة‏‎ ‎‏یوجب اختلال نظام المدنیة ، ورکود رحاها ، فلم یر بدّاً منذ عرف یمینه عن شماله ،‏‎ ‎‏ووقف علی مصالح الاُمور ومفاسدها عن العمل بقول الثقة وبظواهر الکلام الملقی‏‎ ‎‏للتفهیم وغیرها .‏

‏جاء نبی الإسلام ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ وأظهر أحکاماً وأوضح اُموراً ، ولکن مع ذلک کلّه‏‎ ‎‏عمل بالأمارات من باب أنّه أحد العقلاء الذین یدیرون حیاة المجتمع ، من دون أن‏‎ ‎‏یأسّس أصلاً ویقیم عماداً أو یحدث أمارة أو یزید شرطاً أو یتمّم کشف أمارة أو‏‎ ‎‏یجعل طریقیة لواحد من الأمارات ، إلی غیر ذلک من العبارات التی تراها متظافرة‏‎ ‎‏فی کلمات القوم .‏

وبالجملة :‏ لم یکن عمل النبی والخلفاء من بعده علی الأمارات إلاّ جریاً علی‏‎ ‎‏المسلک المستقرّ عند العقلاء ، بلا تأسیس أمارة أو تتمیم کشف لها أو جعل حجّیة‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 332
‏وطریقیة لواحدة منها ، بل فی نفس روایات خبر الثقة شواهد واضحة علی تسلّم‏‎ ‎‏العمل بخبر الثقة ، ولم یکن الغرض من السؤال إلاّ العلم بالصغری ، وأنّ فلاناً هل هو‏‎ ‎‏ثقة أو لا ؟ فراجع مظانّها تجد شواهد علی ما ادّعیناه‏‎[2]‎‏ .‏

‏ومن ذلک یعلم : أنّ قیام الأمارات مقام القطع بأقسامه ممّا لا معنی له :‏

أمّا القطع الطریقی :‏ فإنّ عمل العقلاء بالطرق المتداولة حال عدم العلم لیس‏‎ ‎‏من باب قیامها مقام العلم ، بل من باب أنّها إحدی الطرق الموصلة غالباً إلی الواقع ،‏‎ ‎‏من دون التفات إلی التنزیل والقیام مقامه .‏

‏نعم ، القطع طریق عقلی مقدّم علی الطرق العقلائیة ، والعقلاء إنّما یعملون بها‏‎ ‎‏عند فقد القطع ، وذلک لا یستلزم کون عملهم من باب قیامها مقامه حتّی یکون‏‎ ‎‏الطریق منحصراً بالقطع عندهم ، ویکون العمل بغیره بعنایة التنزیل والقیام مقامه .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ عمل العقلاء بالطرق لیس من باب أنّها منزّلة مقام العلم ،‏‎ ‎‏بل لو فرضنا عدم وجود العلم فی العالم کانوا عاملین بها ، من غیر التفات إلی جعل‏‎ ‎‏وتنزیل أصلاً .‏

‏فما تری فی کلمات المشائخ من القول بأنّ الشارع جعل المؤدّی منزلة الواقع‏‎ ‎‏تارة أو تمّم کشفه أو جعل الظنّ علماً فی مقام الشارعیة أو أعطاه مقام الطریقیة‏‎ ‎‏وغیرها ، لا تخلو عن مسامحة ؛ فإنّها أشبه شیء بالخطابة .‏

‏فتلخّص : أنّ العمل بالأمارات عند فقد القطع الطریقی لیس إلاّ لکونها إحدی‏‎ ‎‏الأفراد التی یتوصّل بها إلی إحراز الواقع ، من دون أن یکون نائباً أو فرعاً لشیء أو‏‎ ‎‏قائماً مقامه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 333
وأمّا القطع الموضوعی :‏ فملخّص الکلام أنّ القطع تارة یؤخذ بما أنّه أحد‏‎ ‎‏الکواشف ، واُخری بما أنّه کاشف تامّ ، وثالثة بما أنّه من الأوصاف النفسانیة .‏

‏فلو کان مأخوذاً فی الموضوع تماماً أو جزءً علی النحو الأوّل فلا شکّ فی‏‎ ‎‏أنّه یعمل بها عند فقد القطع ، لا لأجل قیامها مقامه بل لأجل أنّ الأمارات ـ حینئذٍ ـ‏‎ ‎‏أحد مصادیق الموضوع مصداقاً حقیقیاً ، وإذا اُخذ بما أنّه کاشف تامّ أو صفة‏‎ ‎‏مخصوصة فلا شکّ فی عدم جواز ترتیب الأثر لفقدان ما هو الموضوع عند الشارع ؛‏‎ ‎‏لأنّ الظنّ لیس کشفاً تامّاً ، وأنّ عمل العقلاء علی الأمارات لیس إلاّ لأجل کونها‏‎ ‎‏کـواشف عـن الواقع ، من دون أن یلاحظ صفـة اُخـری ، بلا فرق بین تمام‏‎ ‎‏الموضوع وجزئه .‏

وبذلک یظهر النظر‏ فیما أفاده بعض أعاظم العصر ؛ فإنّه ‏‏قدس سره‏‏ مع أنّه قد اعترف‏‎ ‎‏بأنّه لیس للشارع فی تلک الطرق العقلائیة تأسیس أصلاً‏‎[3]‎‏ قد أتی بما لا یناسبه .‏

وحاصله :‏ أنّ فی القطع یجتمع جهات ثلاث : جهة کونه قائمة بنفس العالم ؛‏‎ ‎‏من حیث إنشاء النفس فی صقعها الداخلی صورة علی طبق ذی الصورة ، وجهة‏‎ ‎‏کشفه عن المعلوم ، وإراءته للواقع ، وجهة البناء والجری العملی علی وفق العلم .‏

‏والمجعول فی باب الطرق هی الجهة الثانیة ؛ فإنّ المجعول فیها نفس الطریقیة‏‎ ‎‏والمحرزیة والکاشفیة ، وفی الاُصول هی الجهة الثالثة .‏

ثمّ قال :‏ إنّ حکومة الطرق علی الأحکام الواقعیة لیست الحکومة الواقعیة ،‏‎ ‎‏مثل قوله : ‏«الطواف بالبیت صلاة»‏ أو ‏«لا شکّ لکثیر الشکّ»‏ بل الحکومة ظاهریة .‏‎ ‎‏والفرق : أنّ الواقعیة توجب التوسعة والتضییق فی الموضوع الواقعی ؛ بحیث یتحقّق‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 334
‏هناک موضوع آخر واقعی فی عرض الموضوع الأوّلی ، وهذا بخلاف الظاهریة ؛ إذ‏‎ ‎‏لیس فیها توسعة وتضییق إلاّ بناءً علی جعل المؤدّی الذی یرجع إلی التصویب .‏

‏وأمّا بناءً علی المختار من جعل الطریقیة فلیس هناک توسعة وتضییق واقعی .‏‎ ‎‏وحکومتها إنّما یکون باعتبار وقوعها فی طریق إحراز الواقع فی رتبة الجهل به ،‏‎ ‎‏فیکون المجعول فی طول الواقع لا فی عرضه .‏

ثمّ أفاد :‏ إنّ ممّا ذکرنا یظهر قیام الأمارات مقام القطع الطریقی مطلقاً ؛ ولو کان‏‎ ‎‏مأخوذاً فی الموضوع وعدم قیامها مقام القطع الوصفی‏‎[4]‎‏ ، انتهی کلامه .‏

أقول : وفیه مواقع للأنظار :

‏منها :‏‏ أنّک قد عرفت وسیمرّ تفصیله عند البحث عن حجّیة الأخبار : أنّه‏‎ ‎‏لیس عن جعل الحجّیة والطریقیة وتتمیم الکشف فی الأخبار والآیات خبر ولا أثر ،‏‎ ‎‏وأنّ العمل بالأخبار کان أمراً مسلّماً منذ قرون قبل الإسلام ، منذ قام للإنسانیة‏‎ ‎‏عمود التمدّن ، وأنّ الشارع الصادع بالحقّ ترک أتباعه علی ما کانوا علیه ، قبل أن‏‎ ‎‏ینسلکوا فی سلک الإسلام ، بلا جعل ولا تأسیس ولا إمضاء لفظی ، وأنّ کلّما ورد‏‎ ‎‏من الروایات من التصریحات إنّما هو لتشخیص الصغری وما هو موضوع لهذه‏‎ ‎‏الکبری الکلّیة . والعجب : أنّه ‏‏قدس سره‏‏ قد اعترف کراراً علی أنّه لیس للشارع فی تلک‏‎ ‎‏الطرق العقلائیة تأسیس أصلاً ، ولکنّه قد أسّس فی تقریراته هذا البنیان الرفیع الذی‏‎ ‎‏لا یخرج عن حیطة التصوّر إلی مقام آخر إلاّ بأدلّة محکمة ، ولیست منها فی‏‎ ‎‏الأخبار عین ولا أثر .‏

ومنها :‏ أنّ تقسیم الحکومة إلی ظاهریة وواقعیة تقسیم لها باعتبار متعلّقها ،‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 335
‏وهو لیس من التقسیمات المعتبرة ، وإلاّ لکثرت الأقسام حسب کثرة التعلّق ، فإنّ‏‎ ‎‏المتّصف بالظاهریة والواقعیة إنّما هی الأحکام دون الحکومة ؛ فإنّ الحکومة قد‏‎ ‎‏تکون متعلّقها الأدلّة الواقعیة ، مثل قوله ‏‏علیه السلام‏‏ ‏«الطواف بالبیت صلاة»‏ ، وقد تکون‏‎ ‎‏متعلّقها غیر الأحکام الواقعیة ، کما فی الأمثلة التی ذکره ‏‏قدس سره‏‏ .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 336

  • )) یأتی فی الصفحة 472 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 136 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 30 و 91 و 194 ـ 195 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3 : 16 ـ 21 .