الثالث : فی أخذ القطع تمام الموضوع لحکمه
قد یقال بعدم إمکانه ؛ للزوم الدور منه ، ویمکن أن یدفع بعدم لزومه فیما إذا کان القطع المأخـوذ فی الموضـوع تمام الموضوع ؛ لأنّ الحکم ـ حینئذٍ ـ علی عنوان المقطوع بما أ نّه کذلک ، مـن غیر دخالـة التطابق وعدمـه ولا الواقـع المقطوع به . فحینئذٍ لا یتوقّف تحقّق القطع بالحکم علی وجـود الحکم ؛ لأ نّـه قد یکون جهلاً مرکّباً .
ولیس معنی الإطلاق لحاظ القیدین حتّی یکون الأخذ بلحاظ قیدیه ممتنعاً ، بل معناه عدم القیدیة وکون الطبیعة تمام الموضوع ، وهو لا یتوقّف علی الحکم ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 321
وإنّما یتوقّف الحکم علیه ، فلا دور .
وبعبارة أوضح : أنّ الدور المذکور فی المقام ـ أعنی توقّف القطع بالحکم علی وجود الحکم ، وتوقّف الحکم علی الموضوع الذی هو القطع ؛ سواء کان تمام الموضوع أو جزئه ـ إنّما یلزم لو کان القطع مأخوذاً علی نحو الجزئیة ، ومعنی ذلک عدم کون القطع موضوعاً برأسه ، بل هو مع نفس الواقع ؛ أعنی الحکم الشرعی .
فالقطع یتوقّف علی وجود الحکم ، ولو توقّف الحکم علی القطع یلزم الدور . وأمّا إذا کان القطع تمام الموضوع لحکم نفسه فلا یلزم الدور ؛ لأنّ ما هو الموضوع هو القطع ـ سواء وافق الواقع أم خالفه ـ لأنّ الإصابة وعدمها خارجتان من وجود الموضوع .
وعلیه : فلا یتوقّف حصول القطع علی الواقع المقطوع به ؛ وإن توقّف علی المقطوع بالذات ـ أعنی الصورة الذهنیة من الحکم ـ وأمّا المقطوع بالعرض ـ الذی هو المقطوع به فی الخارج ـ فلا یتوقّف القطع علی وجوده . وأمّا المأخوذ جزء موضوع فلا یمکن دفع الدور بالبیان المتقدّم ؛ لأنّ معنی جزئیته للموضوع أنّ الجزء الآخر هو الواقع . وتوهّم إمکان جعل الجزء هو المعلوم بالذات کما تری .
ثمّ إنّه أجاب بعض الأعاظم عن الدور بما یلی : إنّ العلم بالحکم لمّا کان من الانقسامات اللاحقة للحکم فلا یمکن فیه الإطلاق ولا التقیید اللحاظی ، کما هو الشأن فی الانقسامات اللاحقة للمتعلّق باعتبار تعلّق الحکم به ، کقصد التعبّد والتقرّب بالعبادات ، فإذا امتنع التقیید امتنع الإطلاق ؛ لأنّ التقابل بینهما تقابل العدم والملکة .
لکن الإهمال الثبوتی لا یعقل ؛ فإنّ ملاک تشریع الحکم إمّا محفوظ فی حالتی الجهل والعلم فلابدّ من نتیجة الإطلاق ، وإمّا فی حالة العلم فلابدّ من نتیجة التقیید . فحیث لا یمکن بالجعل الأوّلی فلابدّ من دلیل آخر یستفاد منه النتیجتان ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 322
وهو متمّم الجعل . وقد ادّعی : تواتر الأدلّة علی اشتراک العالم والجاهل فی الأحکام ؛ وإن لم نعثر إلاّ علی بعض أخبار الآحاد ، لکن الظاهر قیام الإجماع والضرورة ، فیستفاد من ذلک نتیجة الإطلاق وأنّ الحکم مشترک بین العالم والجاهل ، لکن تلک الأدلّة قابلة للتخصیص ، کما خصّصت بالجهر والإخفات والقصر والإتمام ، انتهی کلامه .
وفیه مواقع للإشکال :
الأوّل : أنّ الانقسامات اللاحقة علی ضربین :
أحدهما : ما لا یمکن تقیید الأدلّة به ، بل ولا یمکن فیه نتیجة التقیید ، مثل أخذ القطع موضوعاً بالنسبة إلی نفس الحکم ؛ فإنّه غیر معقول ـ لا بالتقیید اللحاظی ولا بنتیجة التقیید ـ فإنّ حاصل التقیید ونتیجته أنّ الحکم مختصّ بالعالم بالحکم ، وهذا دور . وحاصله : توقّف الحکم علی العلم به ، وهو متوقّف علی وجود الحکم ، وهذا الامتناع لا یرتفع ؛ لا بالتقیید اللحاظی ولا بنتیجة التقیید .
وهذا غیر ما ربّما یورد علی الأشاعرة القائلین بأنّ أحکام الله تابعة لآراء المجتهدین ؛ فإنّه یورد علیهم باستلزامه الدور ؛ إذ یمکن الذبّ عنه بأنّ الشارع أظهر أحکاماً صوریة بلا جعل أصلاً لمصلحة فی نفس الإظهار حتّی یجتهد المجتهدون ، ویصلوا إلی هذه الأحکام الغیر الحقیقیة ، فإذا أدّی اجتهادهم إلی حکم ـ سواء وافق الحکم الصوری أم خالف ـ أنشأ الشارع حکماً مطابقاً لرأیه تابعاً له ، ولکنّه مجرّد تصویر ربّما لا یرضی به المصوّبة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 323
وأمّا عدم الإعادة فیما لو خافت فی موضع الجهر أو جهر فی موضع المخافات ، أو أتمّ فی موضع القصر أو قصّر فی موضع التمام فلا یتوقّف الذبّ عنه بالالتزام بما ذکره من الاختصاص ، بل یحتمل أن یکون عدم الإعادة من باب التقبّل والتخفیف ـ کما ربّما یحتمل ذلک فی قاعدة لا تعاد لو قلنا بعمومیته للسهو وغیره ـ ویمکن أن یکون لأجل عدم قابلیة المحلّ للقضاء والإعادة بعد الإتیان بما کان خلاف الوظیفة ، وله نظائر فی التکوین .
وأمّا القسم الثانی من الانقسامات اللاحقة : ما یمکن التقیید به بدلیل آخر ، کقصد القربة والتعبّد والأمر ؛ فإنّ فی هذا القسم یمکن تقیید المتعلّق بالتقیید اللحاظی ـ کما یمکن بنتیجة التقیید ـ فإنّ الآمر یمکن أن یلاحظ متعلّق أمره وما له من قیود وحدود ، ویلاحظ حالة تعلّق أمره به فی المستقبل ، ویلاحظ قصد المأمور للتقرّب والتعبّد بما أ نّها من قیود المتعلّق ، ویأمر به مقیّداً بهذه القیود کسائر قیوده . وقد وافاک خلاصة القول فی ذلک فی مباحث الألفاظ .
نعم نفس تعلّق الأمر ممّا یمکّن المکلّف من إتیان المتعلّق ؛ فإنّ قبل تعلّقه لا یمکن له الإتیان بالصلاة ـ مثلاً ـ مع تلک القیود ، وبالتعلّق یصیر ممکناً .
فـإن قلت : بناءً علی ذلک لم یکـن الموضـوع المجـرّد مـن قصد الأمـر مأموراً به ، فکیف یمکن الأمر به بقصد أمره ؟
قلت : هذا إشکال آخر غیر الدور ، ویمکن دفعه بأنّ الموضوع متعلّق للأمر الضمنی ، وقصده کافٍ فی الصحّة ، وقد أوضحنا حاله فی الجزء الأوّل ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 324
الثانی من الإشکالات علی کلامه : أنّ توصیف الإطلاق والتقیید باللحاظی مع القول بأنّ تقابلهما تقابل العدم والملکة جمع بین أمرین متنافیین ؛ لأنّ الإطلاق علی هذا متقوّم باللحاظ کالتقیید ، واللحاظان أمران وجودیان لا یجتمعان فی مورد واحد ، فیصیر التقابل تقابل التضادّ ، لا العدم والملکة .
نعم ، لو قلنا بما أوضحناه فی محلّه من عدم تقوّم الإطلاق باللحاظ ، وأ نّه لا یحتاج إلی لحاظ السریان ، بل هو متقوّم بعدم لحاظ شیء فی موضوع الحکم ، مع کون المتکلّم فی مقام البیان ، یرد علیه إشکال آخر ، وهو : أنّ امتناع الإطلاق حینئذٍ ممنوع ، فیصیر ما ادّعاه من أ نّه کلّما امتنع التقیید امتنع الإطلاق قولاً بلا برهان .
والحقّ : أنّ بین الإطلاق والتقیید ـ کما ذکره ـ تقابل العدم والملکة أو شبه ذلک التقابل ، لکن لا یرتّب علیه ما رتّبه قدس سره من إنکار مطلق الإطلاق فی الأدلّة الشرعیة حتّی احتاج إلی دعوی الإجماع والضرورة لاشتراک التکلیف بین العالم والجاهل .
وخلاصة الکلام : أنّ عدم التقیید قد یکون لأجل عدم قابلیة المتعلّق له وقصوره عن ذلک ، ففی مثله لا یمکن الإطلاق ، ولا یطلق علی مثل ذلک التجرّد من القید أ نّه مطلق ، کما لا یطلق علی الجدار أ نّه أعمی ؛ فإنّ الأعمی هو اللا بصیر الذی من شأنه أن یکون بصیراً ، ولیس الجدار کذلک ، ونظیره الأعلام الشخصیة ، فلا یطلق لزید أ نّه مطلق أفرادی ، کما لا یطلق أ نّه مقیّد .
وقد یکون لا لأجل قصوره وعدم قابلیته ، بل لأجل أمر خارجی ، کلزوم الدور فی التقیید اللحاظی ؛ فإنّ امتناع التقیید فی هذا المورد ونظائره لا یلازم امتناع
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 325
الإطلاق ؛ إذ المحذور مختصّ به ولا یجری فی الإطلاق ؛ فإنّ المفروض أنّ وجه الامتناع لزوم الدور عند التقیید ـ أی تخصیص الأحکام بالعالمین بها ـ وأمّا الإطلاق فلیس فیه أیّ محذور من الدور وغیره ، فلا بأس ـ حینئذٍ ـ فی الإطلاق ؛ وإن کان التقیید ممتنعاً لأجل محذور خارجی .
والشاهد علی صحّة الإطلاق ووجوده : هو جواز تصریح المولی بأنّ الخمر حرام شربه علی العالم والجاهل ، وصلاة الجمعة واجبة علیهما بلا محذور .
بل التحقیق : أنّ الإطلاق فی المقام لازم ـ ولو لم تتمّ مقدّماته ـ لأنّ الاختصاص بالعالمین بالحکم مستلزم للمحال ، والاختصاص بالجهّال وخروج العالمین به خلاف الضرورة ، فلا محیص عن الاشتراک والإطلاق . نعم هذا غیر الإطلاق الذی یحتاج إلی المقدّمات ویکون بعد تمامها حجّة . ولعلّ ما ذکرناه من الوجه سند دعوی الإجماع والضرورة .
ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر قدس سره أراد التفصّی بوجه آخر ، فقال ما هذا تلخیصه : یمکن التفصّی عن الدور علی نحو نتیجة التقیید الراجع إلی جعل الحکم لحصّة من الذات فی المرتبة السابقة التوأمة مع العلم بحکمه فی المرتبة المتأخّرة ، لا مقیّداً به علی نحو یکون عنوان التوأمیة مع العلم المزبور معرّفاً محضاً لما هو الموضوع ، وکان الموضوع هو الحصّة الخاصّة بلا تعنونه بعنوان التوأمیة أیضاً ؛ فضلاً عن العلم بحکمه ونحوه من العناوین المتأخّرة ، کما هو الشأن فی کلّ معروض بالنسبة إلی عارضه المتحفّظ فی الرتبة المتأخّرة ، وکما فی کلّ علّة لمعلولها ، من دون اقتضاء التلازم والتوأمیة اتّحاد الرتبة بینهما أصلاً ، انتهی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 326
وفیه : أنّ نفس الطبائع لا تتحصّص بالحصص ـ لا فی الذهن ولا فی الخارج ـ وإنّما تتقوّم الحصّة بأمر خارج عنها لاحق بها لحاظاً فی الذهن لا فی الخارج ، کالکلّیات المقیّدة ، مثل «الإنسان الأبیض» و«الإنسان الأسود» . وأمّا الخارج فإطلاق الحصّة علی الفرد الخارجی لا یخلو عن إشکال .
وعلی ذلک : فالطبیعة لا تتحصّص بحصص إلاّ بإضافة قیود لها عند جعلها موضوعاً لحکم من الأحکام . وحینئذٍ فالحکم :
إمّا یتعلّق علی الطبیعة مع قطع النظر عن العلم بحکمها ، فلا تکون الحصّـة موضوعـاً ؛ لأ نّها مع قطـع النظر عن القیود لیست إلاّ نفس الطبیعة .
وإمّا أن یتعلّق علی الحصّة الملازمة للعلم بحکمها ـ ولو فی الرتبة المتأخّرة ـ فلا تکون الحصّة حصّة إلاّ بعروض القید للطبیعة فی الذهن ، فلا محیص إلاّ عن لحاظ الموضوع توأماً مع العلم بحکمه ، وهذا الموضوع بهذا الوصف یتوقّف علی الحکم ، والحکم علی العلم به ، فعاد الدور .
وأمّا المعروض بالنسبة إلی عارضه فلیس کما أفاد ؛ لأنّ العارض لا یعرض الحصّة ، بل یعرض نفس الطبیعة ، ویصیر الطبیعة بنفس العروض متخصّصاً ، فلا یکون قبل العروض وفی الرتبة المتقدّمة حصّة .
وأمّا التوأمیة بین العلّة والمعلول مع حفظ التقدّم الرتبی بینهما فهو حقّ لو أراد ما ذکرنا .
هذا کلّه فی أخذه تمام الموضوع فی نفس حکمه ، وهکذا إذا جعل بعض الموضوع لحکم نفسه ، فمحال للدور المتقدّم ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 327