الثانی : فی أخذ القطع موضوعاً لحکم یخالفه أو یماثله أو یضادّه
إنّک قد عرفت أنّ القطع قد یتعلّق بموضوع خارجی ، فیأتی فیه الأقسام المذکورة ، وقد یتعلّق بحکم شرعی ، فیقع الکلام تارة فی أخذه موضوعاً لحکم غیر ما تعلّق به العلم ممّا یخالفه أو یماثله أو یضادّه ، واُخری فی أخذه موضوعاً لنفس الحکم الذی تعلّق به .
فنقول : لا إشکال فی إمکان أخذه تمام الموضوع وجزئه فی حکم یخالفه ، کما إذا رتّب علی العلم بوجوب صلاة الجمعة وجوب التصدّق .
إنّما الإشکال فی أخذه کذلک لما یماثله أو یضادّه .
والذی یمکن أن یکون مانعاً اُمور نشیر إلیها :
منها : کونه مستلزماً لاجتماع الضدّین أو المثلین .
وفیه : أنّه قد مرّ بما لا مزیـد علیه فی مبحث النواهی أنّ الأحکام لیست مـن الاُمور الوجودیة الواقعیة ، بل من الاعتباریات ، وقد عرّف الضدّان بأنّهما الأمران الوجودیان غیر المتضائفین المتعاقبان علی موضوع واحد ، لا یتصوّر اجتماعهما فیه ، بینهما غایة الخلاف ، فما لا وجود لها إلاّ فی وعاء الاعتبار لا ضدّیة بینها ، کما لا ضدّیة بین أشیاء لا حلول لها فی موضوع ولا قیام لها به قیام حلول وعروض .
ومن ذلک الباب عدم تضادّ الأحکام لأجل أنّ تعلّق الأحکام بموضوعاتها ومتعلّقاتها لیس حلولیاً عروضیاً نحو قیام الأعراض بالموضوعات ، بل قیامها بها
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 313
قیام اعتباری لا تحقّق لها أصلاً ، فلا یمتنع اجتماعها فی محلّ واحد ، ولذا یجوز الأمر والنهی بشیء واحد من جهة واحدة من شخصین أو شخص واحد مع الغفلة ، ولو کان بینها تضادّ لما صار ممکناً مع حال الغفلة ، وممّا ذکرنا یظهر حال المثلیة .
ومنها : اجتماع المصلحة والمفسدة .
وفیه : لا مانع من کون موضوع ذا مصلحة من جهة وذا مفسدة من جهة اُخری ، والجهتان متحقّقتان فی المقام ، فیمکن أن یکون ذا مصلحة حسب عنوانه الذاتی ، وذا مفسدة عند کونه مقطوعاً أو مظنوناً .
ومنها : أنّه یستلزم اجتماع الکراهة والإرادة ، والحبّ والبغض .
وفیه : أنّ هذا إنّما یرد لو کان الموضوع للحکمین المتضادّین صورة وُحدانیة له صورة واحدة فی النفس ، وأمّا مع اختلاف العناوین تکون صورها مختلفة ، ولأجل اختلافها تتعلّق الإرادة بواحدة منها والکراهة بصورة اُخری ، ولیست الصور الذهنیة مثل الموضوعات الخارجیة ؛ حیث إنّ ذات الموضوع الخارجی محفوظة مع اختلاف العناوین ، بخلاف الصور الذهنیة ؛ فإنّ الموضوع مع کلّ عنوان له صورة علی حدة ، فتأمّل لما سیجیء من التفصیل .
ومنها : لزوم اللغویة فی بعض الموارد ـ أعنی إذا اُحرز أنّ المکلّف ینبعث عند حصول القطع بحکم من أحکام المولی ـ فجعل حکم آخر مثله لغو لا یترتّب علیه الانبعاث فی هذه الصورة . نعم لو اُحرز أنّ المکلّف لا ینبعث إلاّ إذا تعلّق أمر آخر علی المحرز المقطوع فلا یلزم اللغویة ، بل یکون لازماً .
وفیه : أنّ ما ذکره صحیح فی الأحکام الجزئیة والخطابات الشخصیة دون الأحکام الکلّیة ، فتعلّقها مطلقاً لا یکون لغواً ؛ لعدم إحراز الإتیان أو عدمه ، بل المحقّق اختلاف المکلّفین فی ذلک المقام ؛ فربّ مکلّف لا ینبعث إلاّ عن أمرین أو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 314
أزید ، وعلیه لا بأس لجعل آخر مماثل لما تعلّق به لأجل حصول الانبعاث فی بعض المکلّفین .
ومنها : لزوم الأمر بالمحال ؛ فإنّه ـ مضافاً إلی أنّه یستلزم لغویة جعل الحرمة للخمر ـ إذا فرضنا أنّ الخمر حرام فإذا قطع بحرمة الخمر یصیر مقطوع الحرمة مرخّصاً فیه ، یستلزم ذلک الأمر بالمحال ؛ فإنّ الامتثال فی هذه الصورة غیر ممکن ، وسیجیء دفعه فی آخر البحث .
ومع ذلک کلّه فالحقّ : التفصیل بین کونه تمام الموضوع للحکم المضادّ والمماثل وبین کونه بعض الموضوع ، بالجواز فی الأوّل والامتناع فی الثانی ؛ لأنّ مصبّ الحکم المضادّ الثانوی إنّما هو عنوان المقطوع بلا دخالة الواقع فیه ، وهو مع عنوان الواقع عامان من وجه ، ویتصادق علی الموضوع الخارجی أحیاناً ، وقد أوضحنا فی مبحث النواهی : أنّ اجتماع الحکمین المتضادّین ـ حسب اصطلاح القوم ـ فی عنوانین مختلفین متصادقین علی مورد واحد ممّا لا إشکال فیه .
والحاصل : أنّه إذا جعل الشارع القطع تمام الموضوع لحکم من الأحکام ـ سواء ماثل حکم المتعلّق أو ضادّه ـ بأن قال : «الخمر المقطوع الحرمة حرام شربها أو واجب الارتکاب» فلا یلزم اجتماع المثلین ؛ لأنّ النسبة بین مقطوع الخمریة أو مقطوع الحرمة والخمر الواقعی أو الحرمة الواقعیة عموم من وجه ، وإذا انطبق کلّ واحد من العنوانین علی المایع الخارجی فقد انطبق کلّ عنوان علی مصداقه ؛ أعنی المجمع . وکلّ عنوان یترتّب علیه حکمه بلا تجاوز الحکم عن عنوانه إلی عنوان آخر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 315
فإذا قال : «أکرم العالم» ثمّ قال : «أکرم الهاشمی» ، وانطبق العنوانان علی رجل عالم هاشمی فالحکمان ثابتان علی عنوانهما ، وعلی ما هو مصبّ الأحکام ، من غیر أن یتجاوز عن موضوعه وعنوانه المأخوذ فی لسان الدلیل إلی عنوان آخر حتّی یصیر الموضوع واحداً ، وتحصل غائلة الاجتماع . ولا یسری الأحکام من عناوینها إلی مصادیقها الخارجیة ؛ لما حقّقناه من أنّ الخارج ظرف السقوط دون العروض . فلا مناص عن القول بثبوت الحکم علی عنوانه وعدم سرایته إلی عنوان آخر ، ولا إلی الخارج .
هذا إذا کان القطع تمام الموضوع .
وأمّا إذا کان جزء الموضوع : فینقلب النسبة وتصیر النسبة بین الموضوعین الحاملین لحکمین متماثلین أو متضادّین عموماً وخصوصاً مطلقاً ، وقد قرّر فی محلّه خروجه عن مصبّ البحث فی مبحث الاجتماع والامتناع ، وأنّ الحقّ فیه الامتناع ، فراجع .
لا یقال : المفروض أنّ العنوانین مختلفان فی هذا القسم أیضاً ، فلو کان التغایر المفهومی کافیاً فی رفع الغائلة فلیکن مجدیاً مطلقاً .
لأنّا نقول : فکم فرق بین التغایرین ؟ ! فإنّ التغایر فی العموم من وجه حقیقی والتقارن مصداقی ، وأمّا الآخر فالمطلق عین المقیّد متّحد معه ؛ اتّحاد اللابشرط مع بشرط شیء ، کما أنّ المقیّد عین المطلق زید علیه قید . فلو قال : «أکرم هاشمیاً» ، ثمّ قال : «أکرم هاشمیاً عالماً» فلو لم یحمل مطلقه علی مقیّده لزم کون الشیء الواحد مورداً للطلبین والإرادتین ؛ إذ الهاشمی عین الهاشمی العالم .
نعم ، قد ذکرنا وجهاً لصحّة جعله مورد النزاع ، ولکن قد زیّفناه فی محلّه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 316
وبذلک یظهر : دفع عامّة المحذورات فیما جوّزناه ، وقد عرفت دفع بعض منها ، وبقی لزوم اللغویة فی الحکم المماثل ، والأمر بالمحال فی الحکم المضادّ :
فنقول أمّا الأوّل : فلأنّ الطرق إلی إثبات الحکم أو موضوعه کثیرة ، فجعل الحرمة علی الخمر والترخیص علی معلوم الخمریة أو معلوم الحرمة لا توجب اللغویة ؛ لإمکان العمل بالحکم الأوّل لأجل قیام طرق اُخر .
وأمّا لزوم الأمر بالمحال : فلأنّ أمر الآمر ونهیه لا یتعلّق إلاّ بالممکن ، وعروض الامتثال فی مرتبة الامتثال کباب التزاحم لا یوجب الأمر بالمحال ، کما حقّق فی محلّه . وبذلک یظهر حال الظنّ ؛ جوازاً وامتناعاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 317