الجهة الثانیة : فی استحقاق المتجرّی العقوبة وعدمه
ولا یخفی : أنّ مجرّد قبحه عقلاً لا یستتبع الحرمة ؛ إذ لا ملازمة بین قبح شیء واستلزامه العقوبة ؛ فإنّ ترجیح المرجوح قبیح ولا یوجب العقاب ، وکذا کثیر من القبائح العقلیة أو العقلائیة إذا لم یرد فیها نهی أو لم ینطبق علیها عناوین محرّمة أو لم یدرک العقل صحّة عقوبة مخالفته .
فإن قلت : یمکن ادّعاء الملازمة بین القبح والعقاب فیما إذا ارتکب قبیحاً یرجع إلی دائرة المولویة والعبودیة ، ولا شکّ فی أنّ ارتکاب ما لا یجوز ارتکابه العقل فی تلک الدائرة ویعدّ ترکه من شؤون العبودیة ، یستلزم العقوبة .
قلت : غایة الأمر کون ذلک موجباً للّوم والکشف عن سوء السریرة ، وأمّا العقاب فلا ؛ ولهذا لم یحکم العقلاء بصحّة العقاب علی مقدّمات الحرام ؛ زائداً علی نفس الحرام ، ولا علی الحرام مرّتین : تارة للتجرّی ، واُخری للمخالفة ، کما یأتی الکلام فیه .
والالتزام بالتفکیک ؛ بأن یقال مع الإصابة لا یستحقّ إلاّ علی المخالفة ولا ینظر إلی تجرّیه ، ومع التخلّف یستحقّ علی التجرّی ؛ لصیرورته منظوراً فیه ، غیر وجیه ؛ لأنّ عدم کون الشیء منظوراً فیه لا یوجب رفع القبح والاستحقاق الواقعیین .
وعلی أیّ حال : فلابدّ من لحاظ حکم العقل ؛ من حیث استحقاقه للعقوبة لأجل ارتکاب ذلک الفعل مستقلاًّ ، من غیر قناعة علی حکمه بالقبح ، کما لابدّ من لحاظه مجرّداً عن کلّ العناوین الخارجة عن ذاته ؛ حتّی لا یختلط الأمر .
فنقول : إنّ بین التجرّی والمعصیة جهة اشتراک وجهة امتیاز :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 302
أمّا الثانی : فیمتاز التجرّی عنها فی انطباق عنوان المخالفة علیها دونه ، ولا إشکال فی حکم العقل بقبح مخالفة أمر المولی ونهیه مع الاختیار ، والعقلاء مطبقون علی صحّة المؤاخذة علی مخالفة المولی بترک ما أمره وارتکاب ما نهی عنه ، ولا ریب أنّ تمام الموضوع فی التقبیح هو المخالفة فقط ، من غیر نظر إلی عناوین اُخر ، کهتکه وظلمه وخروجه عن رسم العبودیة إلی غیر ذلک .
کما أ نّها تمام الموضوع أیضاً عند العقلاء ، الذین أطبقوا علی صحّة مؤاخذة المخالف ، من غیر فرق فیما ذکرنا بین أن یکون نفس العمل ممّا یحکم العقل بقبحه مستقلاًّ کالفواحش ، أو لا کصوم یوم العید والإحرام قبل المیقات .
والحاصل : أنّ العقل إذا لاحظ نفس مخالفة المولی عن اختیار یحکم بقبحه مجرّدة عن کافّة العناوین ؛ من الجرأة وأشباهها .
وأمّا الأوّل ـ أعنی الجهة المشترکة بینهما ـ فهی الجرأة علی المولی والخروج من رسم العبودیة وزیّ الرقّیة والعزم والبناء علی العصیان وأمثالها .
وأمّا الهتک فلیس من لوازم التجرّی ولا المعصیة ؛ فإنّ مجرّد المخالفة أو التجرّی لیس عند العقلاء هتکاً للمولی وظلماً علیه .
وعند ذلک یقع البحث فی أنّ التجرّی هل هو قبیح عقلاً أو لا ، وعلی فرض قبحه هل هو مستلزم للعقاب أو لا ؛ لما عرفت من عدم الملازمة بین کون الشیء قبیحاً وکونه مستلزماً للعقوبة .
والذی یقوی فی النفس سالفاً وعاجلاً : عدم استلزامه للعقوبة ؛ سواء قلنا بقبحه أم لا .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 303
والشاهد علیه : أ نّه لو فرض حکم العقل بقبح التجرّی واستحقاق العقوبة علیه فلیس هذا الحکم بملاک یختصّ بالتجرّی ولا یوجد فی المعصیة ، بل لو فرض حکمه بالقبح وصحّة المؤاخذة فلابدّ أن یکون بملاک مشترک بینه وبین المعصیة ، کأحد العناوین المتقدّمة المشترکة .
ولو کانت الجهة المشترکة بینهما ملاکاً مستقلاًّ للقبح واستحقاق العقوبة لزم القول بتعدّد الاستحقاق فی صورة المصادفة ؛ لما عرفت أنّ مخالفة المولی علّة مستقلّة للقبح والاستحقاق ، فیصیر الجهـة المشترکـة ملاکاً مغایـراً موجـباً لاستحقاق آخر.
وأمّا ما أفاده بعض محقّقی العصر ـ فراراً عن الالتزام بتعدّد الاستحقاق ـ من أنّ الموضوع لحکم العقل فی العصیان لیس مخالفة المولی ، بل الهتک والجرأة علیه أو العزم علی العصیان أو الطغیان وغیرها ممّا هی جهات مشترکة ، وعند وحدة الملاک یصیر العقاب واحداً .
غیر مفید ؛ لما عرفت من أنّ العقل إذا جرّد النظر عن تمام القیود والملاکات ، ونظر إلی نفس ذاک العنوان ـ أعنی مخالفـة المولی عن اختیار ـ لَحَکم بالقبح وصحّة العقوبة .
فلو کان هذا عنواناً مستقلاًّ وذاک ـ أعنی أحد هذه العناوین المشترکة بین المقامین ـ عنواناً مستقلاًّ آخر لزم القول باستحقاق عقابین ، مع أنّ العقل والعقلاء یحکمان علی خلافه ؛ فإنّ العاصی لا یستحقّ إلاّ عقاباً واحداً ؛ لأ نّه لم یرتکب إلاّ قبیحاً واحداً ؛ وهو ارتکاب المنهی عنه مع العمد والاختیار .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 304
وأمّا العزم علی العصیان والجرأة علی المولی فهما وأشباههما من الأفعال الجنانیة التی لا تستلزم إلاّ الذمّ واللوم ، ولو فرضنا قبح التجرّی فقد عرفت فی صدر البحث أنّ مجرّد کونه أمراً قبیحاً لا یستلزم الاستحقاق للعقوبة .
وأمّا حدیث التداخل فهو لا یرجع إلی محصّل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 305