الجهة الاُولی‏: فی اُصولیة المسألة

الجهة الاُولی : فی اُصولیة المسألة

‏ ‏

‏ربّما یتوهّم أنّ المسألة اُصولیة ؛ بتقریب أنّ البحث إذا وقع فی أنّ ارتکاب‏‎ ‎‏الشیء المقطوع حرمته هل هو قبیح أو لا ، فإذا حکم بقبحه یحکم بالملازمة بحرمة‏‎ ‎‏عمله شرعاً ، فیصیر نتیجة البحث کبری لمسألة فرعیة‏‎[1]‎‏ .‏

وفیه أمّا أوّلاً :‏ أنّ هذه القاعدة ـ لو تمّت ـ إنّما تصحّ فی سلسلـة علل‏‎ ‎‏الأحکام ومبادئها ـ کالمصالح والمفاسد ـ لا فی سلسلة معالیلها ـ کالإطاعة‏‎ ‎‏والعصیان ـ وقبح مخالفة القاطع لقطعه إنّما هی فی سلسلة المعالیل والنتائج دون‏‎ ‎‏العلل والمقدّمات ، واختصاص القاعدة لما ذکر واضح ؛ إذ لو کان حکم العقل‏‎ ‎‏بوجوب الإطاعة وحرمة العصیان کاشفاً عن حکم مولوی شرعی لزم عدم انتهاء‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 297
‏الأحکام إلی حدّ ، ولزم تسلسل العقوبات فی معصیة واحدة .‏

وبالجملة :‏ أنّ لازم شمول القاعدة لموارد المعالیل القول باشتمال معصیة‏‎ ‎‏واحدة علی معصیتین ، والإطاعة علی طاعتین : إحداهما لأجل مخالفة نهی المولی‏‎ ‎‏وأمره أو موافقته ، وثانیهما لأجل موافقة الأمر المستکشف من حکم العقل بإطاعة‏‎ ‎‏المولی أو مخالفته ، وبما أنّ العقل یحکم بوجوب إطاعة الأمر المستکشف وحرمة‏‎ ‎‏مخالفته کالأوّل فله إطاعة وعصیان ، وهکذا ، فلا یقف عند حدّ .‏

‏ومثله المقام ؛ فإنّ قبحه لا یستلزم حکماً شرعیاً ؛ لأنّه لو کان فهو بملاک‏‎ ‎‏الجرأة علی المولی المحقّقة فی المعصیة أیضاً ، فیلزم عدم تناهی الأحکام‏‎ ‎‏والعقوبات فی التجرّی .‏

وأمّا ثانیاً :‏ فلأنّ المسألة الاُصولیة هی الملازمة بین القبح العقلی والحرمة‏‎ ‎‏الشرعیة ، وأمّا البحث عن أنّ التجرّی هل هو قبیح أو لا ، فهو بحث عن مبادئ‏‎ ‎‏المسألة الاُصولیة .‏

ومن ذلک یظهر :‏ عدم صحّة عدّها مسألة فقهیة ؛ لعدم صحّة تعلّق حکم‏‎ ‎‏شرعی بحرمته ؛ لکونه علی فرض صحّته بمناط الجرأة الحاصلة فی المعصیـة‏‎ ‎‏فیلزم ما تقدّم من عدم التناهی ؛ وذلک لأنّ التجـرّی إذا کان حـراماً یکون مخالفـة‏‎ ‎‏هـذا الحرام تجرّیاً حـراماً ، ومخالفة ذلک کذلک ، فلا ینتهی عـدد التجـرّی والحـرام‏‎ ‎‏إلی حدّ . وهـذا نظیر ما یقال : إنّ الإطاعـة لو وجبت یکون إطاعة هـذا الواجب‏‎ ‎‏واجباً ، وهکذا .‏

ثمّ إنّ بعض أعاظم العصر‏ أفاد وجهاً آخر لعقد المسألة اُصولیة وهو : أنّ‏‎ ‎‏البحث إذا وقع فی أنّ الخطابات الشرعیة تعمّ صورتی مصادفة القطع للواقع‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 298
‏ومخالفته تصیر المسألة اُصولیة‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ لازمه إدراج جلّ المسائل الفقهیة فی الاُصولیة ؛ إذ قلّما یتّفق فی‏‎ ‎‏مسألة من المسائل الفقهیة أن لا یرجع البحث عن الإطلاق والعموم إلی شمولهما‏‎ ‎‏لبعض الموضوعات المشکوکة فیها .‏

‏والحاصل : أنّ المسألة الاُصولیة هو أنّ العموم أو الإطلاق حجّة أو لا ـ مثلاًـ‏‎ ‎‏وأمّا البحث عن وجودهما فلیس مسألة اُصولیة .‏

ثمّ إنّه یظهر من المحقّق الخراسانی‏ امتناع تعلّق الحرمة علی المقطوع به بما‏‎ ‎‏هو مقطوع ، وخلاصة ما أفاده فی «حاشیة الفرائد» و«کفایته» : أنّ الفعل المتجرّی‏‎ ‎‏به أو المنقاد به بما هو مقطوع الحرمة أو الوجوب لا یکون فعلاً اختیاریاً ؛ فإنّ‏‎ ‎‏القاطع لا یقصده إلاّ بما قطع أنّه علیه من العنوان الواقعی الاستقلالی ، لا بعنوانه‏‎ ‎‏الطارئ الآلی ، بل لا یکون غالباً بهذا العنوان ملتفتاً إلیه ، فکیف یکون من جهات‏‎ ‎‏الحسن أو القبح عقلاً ، ومن مناطات الوجوب والحرمة شرعاً‏‎[3]‎‏ ؟ ! انتهی .‏

‏وهو بما ذکره بصدد نفی الحرمة عن الفعل المتجرّی به بما هو مقطوع ،‏‎ ‎‏ویستفاد منه بالملازمة حکم ما نحن بصدده ؛ من عدم الملاک لجعل المسألة فقهیة .‏‎ ‎‏وأوضح مرامه فی «حاشیته» بأنّ المتجرّی قد لا یصدر عنه فعل اختیاری أصلاً ؛‏‎ ‎‏لأنّ ما وقع لم یقصد وما قصد لم یقع .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ إنکار صدور الفعل الاختیاری منه واضح الإیراد ؛ إذ لیس‏‎ ‎‏الفعل الإرادی إلاّ کون الفعل مسبوقاً بالعلم والإرادة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 299
وثانیاً :‏ أنّ ما ذکره من عدم الالتفات إلی العلم والقطع لا یخلو عن إشکال ،‏‎ ‎‏لا لما ذکره بعض أعاظم العصر من أنّ الالتفات إلی العلم من أتمّ الالتفاتات‏‎[4]‎‏ ؛ فإنّه‏‎ ‎‏أشبه بالخطابة ؛ لأنّ الضرورة قاضیة بأنّ القاطع لا یتوجّه حین قطعه إلاّ إلی‏‎ ‎‏المقطوع به ، ولیس القطع مورداً للالتفات إلاّ آلیاً .‏

‏بل الإشکال فیه : أنّ العناوین المغفول عنها علی قسمین : أحدهما ما لا‏‎ ‎‏یمکن الالتفات إلیها ؛ ولو بالنظرة الثانیة ، کعنوان النسیان والتجرّی . وثانیهما : ما‏‎ ‎‏یمکن الالتفات إلیها کذلک ، کعنوان القصد والعلم .‏

‏فالأوّل لا یمکن اختصاص الخطاب به ، فلا یمکن أن یقال : «أیّها الناسی‏‎ ‎‏الجزء الفلانی افعل کذا» ؛ فإنّه بنفس هذا الخطاب یخرج عن العنوان ، ویندرج فی‏‎ ‎‏العنوان المضادّ له . نعم یمکن الخطاب بالعناوین الملازمة مع وجوده .‏

‏وأمّا ما کان من قبیل الثانی فلا مانع من تعلّق الخطاب به ؛ فإنّ العالم بالخمر‏‎ ‎‏بعدما التفت إلی أنّ معلومه بما هو معلوم له حکم کذا یتوجّه بالنظرة الثانیة إلی علمه‏‎ ‎‏توجّهاً استقلالیاً وناهیک وقوع القصد وأشباهه موضوعاً للأحکام ؛ فإنّ قاصد‏‎ ‎‏الإقامة فی مکان معیّن له بحسب الشرع أحکام ، مع أنّ نسبة القصد إلی المقصود‏‎ ‎‏کنسبة العلم إلی المعلوم .‏

ثمّ إنّه یظهر عن بعض أعاظم العصر‏ وجهاً آخر ـ بل وجهین ـ لامتناع‏‎ ‎‏عمومیة الخطاب صورة المصادفة والمخالفة ؛ بأن یقال : «لا تشرب معلوم الخمر»‏‎ ‎‏مع تعلّق خطاب بالخمر الواقعی أیضاً ، ولکن المقرّر ‏‏رحمه الله‏‏ قد خلط بینهما .‏

‏وحاصل الوجه الأوّل : أنّ تعلّق الحکم بالمقطوع به موجب لاجتماع المثلین‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 300
‏فی نظر العالم دائماً ؛ وإن لم یلزم فی الواقع ؛ لأنّ النسبة بین الخمر ومقطوعه هی‏‎ ‎‏العموم من وجه ، فیتأکّد الوجهان فی صورة الاجتماع .‏

‏وحاصل الوجه الثانی : لغویة الخطاب ؛ لعدم صلاحیة ذلک الأمر للباعثیة‏‎ ‎‏بحیال ذاته ؛ لعدم افتراق العنوانی ؛ وذلک لأنّ حکم الخمر إن کان محرّکاً فلا نحتاج‏‎ ‎‏لمحرّک آخر ، وإلاّ فلا ینبعث من ذلک الأمر أیضاً‏‎[5]‎‏ .‏

ولا یخفی :‏ أنّ فی کلامه مجالاً للنظر :‏

أمّا الأوّل :‏ فلأنّه لا مجال لجعل المقام من قبیل اجتماع المثلین فی نظر‏‎ ‎‏القاطع دائماً بعدما اعترف أنّ النسبة بین العنوانین هی العموم من وجه ؛ فإنّ القاطع‏‎ ‎‏قد یری اجتماع العنوانین عنده مع تصدیقه بأنّهما عامّان من وجه ؛ لأنّ مقطوع‏‎ ‎‏الخمریة قد یکون خمراً وقد لا یکون ؛ ولو بالنسبة إلی سائر القاطعین . فعدم‏‎ ‎‏احتمال تخلّف قطعه لا یوجب اعتقاد اجتماع المثلین علی العنوانین ، بل یوجب‏‎ ‎‏اعتقاد تصادق العنوانین حال قطعه .‏

أمّا الثانی :‏ فلأنّ المراد لیس انبعاث کلّ فرد من المکلّفین من هذا الخطاب ،‏‎ ‎‏بل المراد انبعاث عدّة منهم ، ومن المعلوم أنّ العبد ربّما لا ینبعث عن أمر واحد ،‏‎ ‎‏وینبعث عن أمرین أو أکثر ؛ لما یری من شدّة تبعاته وصعوبة لوازمه ؛ لما یری أنّ‏‎ ‎‏تخلّف الأمرین یورث عقابین ، فیصیر ذلک داعیاً لإطاعته أو اجتنابه .‏

‏فتلخّص بما مرّ : أنّ المسألة عقلیة صرفة .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 301

  • )) درر الفوائد، المحقّق الخراسانی: 36، درر الفوائد، المحقّق الحائری: 335.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 37 و 50.
  • )) کفایة الاُصول: 299، درر الفوائد، المحقّق الخراسانی: 37.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 45.
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 3: 45 ـ 46.