الفصل الثالث فی مقدّمات الحکمة

الفصل الثالث فی مقدّمات الحکمة

‏ ‏

‏قد عرفت : أنّ الإطلاق فی مقام الإثبات عبارة عن کون الشیء تمام‏‎ ‎‏الموضوع للحکم إذا کان مصبّ الإطلاق نفس المتعلّق أو الموضوع ، أو کون الحکم‏‎ ‎‏مرسلاً عن القید إذا کان مصبّه نفس الحکم .‏

‏وعلی أیّ حال : لا یحتاج إلی لحاظ السریان والشیاع ؛ إذ فیه ـ مضافاً إلی‏‎ ‎‏أنّه أمر غیر مفید فی حکایة الطبیعة عن الأفراد کما مرّ‏‎[1]‎‏ ـ أنّه لا وجه لهذا‏‎ ‎‏اللحاظ ، بل الإطلاق ینعقد بدونه ، ویتمّ الحجّة ؛ وإن لم یکن المقنّن لاحظاً سریانه .‏

‏فلا مجـال لما أفاده المحقّق الخـراسانی مـن أنّ مقـدّمات الحکمـة تثبت‏‎ ‎‏الشیاع والسریان‏‎[2]‎‏ .‏

‏وما ربّما یتوهّم : من لزوم لحاظ حالات الطبیعة بمعنی ثبوت الحکم عند کلّ‏‎ ‎‏حالة وحالة ؛ لامتناع الإهمال الثبوتی ، مدفوع بما حقّقناه فی مبحث الترتّب ، فراجع .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 271
‏والأولی : صرف عنان البحث إلی مقدّمات الحکمة المعروفة ؛ وهی ثلاثة‏‎ ‎‏نبحث عن کلّ واحدة مستقلاًّ .‏

الاُولی :‏ إحراز کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد ، والظاهر لزوم وجود‏‎ ‎‏هذه المقدّمة فی الإطلاق ؛ ضرورة أنّ الدواعی لإلقاء الحکم مختلفة ؛ فربّما یکون‏‎ ‎‏الداعی هو الإعلان بأصل وجوده مع إهمال وإجمال ، فهو حینئذٍ بصدد بیان بعض‏‎ ‎‏المراد ، ومعه کیف یحتجّ به علی المراد ؟ وربّما یکون بصدد بیان حکم آخر .‏

وعلیه :‏ لابدّ من ملاحظة خصوصیات الکلام المحفوف بها ومحطّ وروده‏‎ ‎‏وأنّه فی صدد بیان أیّ خصوصیة منها ؛ فربّما یساق الکلام لبیان إحدی‏‎ ‎‏الخصوصیات دون الجهات الاُخر ، فلابدّ من الاقتصار فی أخذ الإطلاق علی‏‎ ‎‏المورد الذی أحرزنا وروده مورد البیان ، ولذلک یجب إعمال الدقّة فی تشخیص‏‎ ‎‏مورد البیان .‏

هذا ، وقد خالف‏ فی لزوم هذه المقدّمة شیخنا العلاّمة ‏‏قدس سره‏‏ ؛ حیث ذهب إلی‏‎ ‎‏عدم لزوم إحراز کونه فی مقام بیان مراده ؛ مستدلاًّ بأنّه لو کان المراد هو المقیّد‏‎ ‎‏تکون الإرادة متعلّقة به بالأصالة ، وإنّما ینسب إلی الطبیعة بالتبع . وظاهر قول القائل‏‎ ‎‏«جئنی برجل» هو أنّ الإرادة متعلّقة بالطبیعة أوّلاً وبالذات ، ولیس المراد هو‏‎ ‎‏المقیّد‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّه غیر تامّ ؛ لأنّ ما ذکره من ظهور الإرادة فی الأصلیة لا التبعیة‏‎ ‎‏مستفاد من هذه المقدّمة ؛ إذ لولاها فما الدلیل علی أنّ المقیّد غیر مراد ، وأنّ المراد‏‎ ‎‏بالأصالة الطبیعة ؛ إذ یحتمل لولا هذه المقدّمة أنّ هنا قیداً لم یذکره المولی . فإحراز‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 272
‏کون الطبیعة وارداً مورد الإرادة بالأصالة فرع إحراز کونه فی مقام البیان دون‏‎ ‎‏الإهمال والإجمال ؛ لأنّ هذا لیس ظهوراً لفظیاً مستنداً إلی الوضع ، بل هو حکم‏‎ ‎‏عقلائی بأنّ ما جعل موضوع الحکم هو تمام مراده لا بعضه ، ولا یحکم العقلاء به‏‎ ‎‏ولا یتمّ الحجّة إلاّ بعد تمامیة هذه المقدّمة ؛ فیحتجّ العقلاء علیه بأنّ المتکلّم کان فی‏‎ ‎‏مقام البیان ، فلو کان شیء دخیلاً فی موضوعیته له کان علیه البیان . فجعل هذا‏‎ ‎‏موضوعاً فقط یکشف عن تمامیته .‏

المقدّمة الثانیة :‏ وهی عدم وجود قرینة معیّنة للمراد ، ولا یخفی أنّها محقّقة‏‎ ‎‏لمحلّ البحث ؛ لأنّ التمسّک بالإطلاق عند طریان الشکّ ، وهو مع وجود ما یوجب‏‎ ‎‏التعیین مرتفع ، فلو کان فی المقام انصراف أو قرینة لفظیة أو غیرها فالإطلاق معدوم‏‎ ‎‏فیه بموضوعه . وبالجملة : فهی محقّقة لموضوع الإطلاق ، لا من شرائطه ومقدّماته .‏

المقدّمة الثالثة :‏ عدم وجود قدر متیقّن فی البین حتّی یصحّ اتّکال‏‎ ‎‏المولی علیه .‏

‏والظاهر : أنّ هذه المقدّمة غیر محتاجة ؛ سواء فسّرنا الإطلاق بما تقدّم ذکره‏‎ ‎‏أو بما علیه المشهور من جعل الطبیعة مرآة لجمیع أفرادها :‏

أمّا علی المختار :‏ لأنّ القدر المتیقّن إنّما یضرّ فی مورد یتردّد الأمـر بین‏‎ ‎‏الأقلّ والأکثر ؛ بأن یتردّد بین تعلّق الحکم ببعض الأفراد أو جمیعها ، مع أنّ الأمر‏‎ ‎‏فی باب الإطلاق لیس کذلک ، بل هو دائر بین تعلّق الحکم بنفس الموضوع مـن‏‎ ‎‏غیر دخالة شیء آخر فیه ، أو بالمقیّد . فیدور الأمر بین کون الطبیعة تمام الموضوع‏‎ ‎‏أو المقیّد تمامه .‏

‏فإذا کانت الطبیعة تمام الموضوع لم یکن القید دخیلاً ، ومع دخالته یکون‏‎ ‎‏الموضوع هو المقیّد بما هو مقیّد ، ولا یکون ذات الموضوع محکوماً والقید محکوماً‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 273
‏آخر حتّی یکون من قبیل الأقلّ والأکثر ، وکذا لو جعل المتقیّد موضوعاً وشکّ فی‏‎ ‎‏دخالة قید آخر لا یکون من قبیلهما . فلا یدور الأمر بین الأقلّ والأکثر فی شیء من‏‎ ‎‏الموارد حتّی یعتبر انتفاء القدر المتیقّن .‏

‏هذا کلّه علی المختار فی باب الإطلاق ؛ من عدم کون الطبیعة مرآة للأفراد ،‏‎ ‎‏ولا وسیلة إلی لحاظ الخصوصیات وحالاتها وعوارضها .‏

وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور‏ ؛ من جعلها مرسلة ومرآة لجمیع الأفراد ، والمقیّد‏‎ ‎‏عبارة عن جعلها مرآة لبعضها فلاعتبار انتفائه من المقدّمات وجه .‏

ولکنّه‏ أیضاً لا یخلو من إشکال ، وتوضیحه : أنّ مبنی الإطلاق ـ لو کان ـ هو‏‎ ‎‏لحاظها مرآة للکثرات ، فلا معنی لجعلها مرآة لبعض دون بعض مع کون جمیع‏‎ ‎‏الأفراد متساویة الأقدام فی الفردیة ، وعدم قیام دلیل صالح لقصر المرآتیة علی‏‎ ‎‏المتیقّن غیر الانصراف القطعی . فلو فرضنا سبق السؤال عن المعاطاة قبل الجواب :‏‎ ‎‏بأنّ الله أحلّ البیع لما یضرّ هذا المتیقّن بالإطلاق .‏

‏وبالجملة : کونها مرآة لبعضها لا یصحّ إلاّ مع القید ، وإلاّ فیحکم العقلاء بأنّ‏‎ ‎‏موضوع حکمه هو الطبیعة الساریة فی جمیع المصادیق لا المتقیّدة ؛ ولهذا تری أنّ‏‎ ‎‏العرف والعقلاء لا یعتنون بالقدر المتیقّن فی مقام التخاطب وغیره ما لم یصل إلی‏‎ ‎‏حدّ الانصراف ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 274

  • )) تقدّم فی الصفحة 262 .
  • )) کفایة الاُصول : 287 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 234 .