الفصل الثالث فی مقدّمات الحکمة
قد عرفت : أنّ الإطلاق فی مقام الإثبات عبارة عن کون الشیء تمام الموضوع للحکم إذا کان مصبّ الإطلاق نفس المتعلّق أو الموضوع ، أو کون الحکم مرسلاً عن القید إذا کان مصبّه نفس الحکم .
وعلی أیّ حال : لا یحتاج إلی لحاظ السریان والشیاع ؛ إذ فیه ـ مضافاً إلی أنّه أمر غیر مفید فی حکایة الطبیعة عن الأفراد کما مرّ ـ أنّه لا وجه لهذا اللحاظ ، بل الإطلاق ینعقد بدونه ، ویتمّ الحجّة ؛ وإن لم یکن المقنّن لاحظاً سریانه .
فلا مجـال لما أفاده المحقّق الخـراسانی مـن أنّ مقـدّمات الحکمـة تثبت الشیاع والسریان .
وما ربّما یتوهّم : من لزوم لحاظ حالات الطبیعة بمعنی ثبوت الحکم عند کلّ حالة وحالة ؛ لامتناع الإهمال الثبوتی ، مدفوع بما حقّقناه فی مبحث الترتّب ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 271
والأولی : صرف عنان البحث إلی مقدّمات الحکمة المعروفة ؛ وهی ثلاثة نبحث عن کلّ واحدة مستقلاًّ .
الاُولی : إحراز کون المتکلّم فی مقام بیان تمام المراد ، والظاهر لزوم وجود هذه المقدّمة فی الإطلاق ؛ ضرورة أنّ الدواعی لإلقاء الحکم مختلفة ؛ فربّما یکون الداعی هو الإعلان بأصل وجوده مع إهمال وإجمال ، فهو حینئذٍ بصدد بیان بعض المراد ، ومعه کیف یحتجّ به علی المراد ؟ وربّما یکون بصدد بیان حکم آخر .
وعلیه : لابدّ من ملاحظة خصوصیات الکلام المحفوف بها ومحطّ وروده وأنّه فی صدد بیان أیّ خصوصیة منها ؛ فربّما یساق الکلام لبیان إحدی الخصوصیات دون الجهات الاُخر ، فلابدّ من الاقتصار فی أخذ الإطلاق علی المورد الذی أحرزنا وروده مورد البیان ، ولذلک یجب إعمال الدقّة فی تشخیص مورد البیان .
هذا ، وقد خالف فی لزوم هذه المقدّمة شیخنا العلاّمة قدس سره ؛ حیث ذهب إلی عدم لزوم إحراز کونه فی مقام بیان مراده ؛ مستدلاًّ بأنّه لو کان المراد هو المقیّد تکون الإرادة متعلّقة به بالأصالة ، وإنّما ینسب إلی الطبیعة بالتبع . وظاهر قول القائل «جئنی برجل» هو أنّ الإرادة متعلّقة بالطبیعة أوّلاً وبالذات ، ولیس المراد هو المقیّد ، انتهی .
وفیه : أنّه غیر تامّ ؛ لأنّ ما ذکره من ظهور الإرادة فی الأصلیة لا التبعیة مستفاد من هذه المقدّمة ؛ إذ لولاها فما الدلیل علی أنّ المقیّد غیر مراد ، وأنّ المراد بالأصالة الطبیعة ؛ إذ یحتمل لولا هذه المقدّمة أنّ هنا قیداً لم یذکره المولی . فإحراز
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 272
کون الطبیعة وارداً مورد الإرادة بالأصالة فرع إحراز کونه فی مقام البیان دون الإهمال والإجمال ؛ لأنّ هذا لیس ظهوراً لفظیاً مستنداً إلی الوضع ، بل هو حکم عقلائی بأنّ ما جعل موضوع الحکم هو تمام مراده لا بعضه ، ولا یحکم العقلاء به ولا یتمّ الحجّة إلاّ بعد تمامیة هذه المقدّمة ؛ فیحتجّ العقلاء علیه بأنّ المتکلّم کان فی مقام البیان ، فلو کان شیء دخیلاً فی موضوعیته له کان علیه البیان . فجعل هذا موضوعاً فقط یکشف عن تمامیته .
المقدّمة الثانیة : وهی عدم وجود قرینة معیّنة للمراد ، ولا یخفی أنّها محقّقة لمحلّ البحث ؛ لأنّ التمسّک بالإطلاق عند طریان الشکّ ، وهو مع وجود ما یوجب التعیین مرتفع ، فلو کان فی المقام انصراف أو قرینة لفظیة أو غیرها فالإطلاق معدوم فیه بموضوعه . وبالجملة : فهی محقّقة لموضوع الإطلاق ، لا من شرائطه ومقدّماته .
المقدّمة الثالثة : عدم وجود قدر متیقّن فی البین حتّی یصحّ اتّکال المولی علیه .
والظاهر : أنّ هذه المقدّمة غیر محتاجة ؛ سواء فسّرنا الإطلاق بما تقدّم ذکره أو بما علیه المشهور من جعل الطبیعة مرآة لجمیع أفرادها :
أمّا علی المختار : لأنّ القدر المتیقّن إنّما یضرّ فی مورد یتردّد الأمـر بین الأقلّ والأکثر ؛ بأن یتردّد بین تعلّق الحکم ببعض الأفراد أو جمیعها ، مع أنّ الأمر فی باب الإطلاق لیس کذلک ، بل هو دائر بین تعلّق الحکم بنفس الموضوع مـن غیر دخالة شیء آخر فیه ، أو بالمقیّد . فیدور الأمر بین کون الطبیعة تمام الموضوع أو المقیّد تمامه .
فإذا کانت الطبیعة تمام الموضوع لم یکن القید دخیلاً ، ومع دخالته یکون الموضوع هو المقیّد بما هو مقیّد ، ولا یکون ذات الموضوع محکوماً والقید محکوماً
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 273
آخر حتّی یکون من قبیل الأقلّ والأکثر ، وکذا لو جعل المتقیّد موضوعاً وشکّ فی دخالة قید آخر لا یکون من قبیلهما . فلا یدور الأمر بین الأقلّ والأکثر فی شیء من الموارد حتّی یعتبر انتفاء القدر المتیقّن .
هذا کلّه علی المختار فی باب الإطلاق ؛ من عدم کون الطبیعة مرآة للأفراد ، ولا وسیلة إلی لحاظ الخصوصیات وحالاتها وعوارضها .
وأمّا إذا قلنا بمقالة المشهور ؛ من جعلها مرسلة ومرآة لجمیع الأفراد ، والمقیّد عبارة عن جعلها مرآة لبعضها فلاعتبار انتفائه من المقدّمات وجه .
ولکنّه أیضاً لا یخلو من إشکال ، وتوضیحه : أنّ مبنی الإطلاق ـ لو کان ـ هو لحاظها مرآة للکثرات ، فلا معنی لجعلها مرآة لبعض دون بعض مع کون جمیع الأفراد متساویة الأقدام فی الفردیة ، وعدم قیام دلیل صالح لقصر المرآتیة علی المتیقّن غیر الانصراف القطعی . فلو فرضنا سبق السؤال عن المعاطاة قبل الجواب : بأنّ الله أحلّ البیع لما یضرّ هذا المتیقّن بالإطلاق .
وبالجملة : کونها مرآة لبعضها لا یصحّ إلاّ مع القید ، وإلاّ فیحکم العقلاء بأنّ موضوع حکمه هو الطبیعة الساریة فی جمیع المصادیق لا المتقیّدة ؛ ولهذا تری أنّ العرف والعقلاء لا یعتنون بالقدر المتیقّن فی مقام التخاطب وغیره ما لم یصل إلی حدّ الانصراف ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 274