المقام الأوّل‏: فی تفسیر الموافق من المفهوم و جواز التخصیص به

المقام الأوّل : فی تفسیر الموافق من المفهوم وجواز التخصیص به

‏ ‏

‏فنقول : اختلفت فیه تعبیراتهم ، ونحن نذکر الأقوال والاحتمالات فی تفسیره :‏

الأوّل :‏ ما یعبّر عنه فی لسان المتأخّرین بإلغاء الخصوصیة وإسراء الحکم‏‎ ‎‏لفاقدها ، کقول زرارة : ‏«أصاب ثوبی دم رعاف»‏ وقول القائل : «رجل شکّ بین‏‎ ‎‏الثلاث والأربع» ، ولا شکّ فی أنّ العرف یری أنّ الموضوع هو الدم وذات الشکّ ،‏‎ ‎‏ولا دخالة لثوب زرارة أو دم الرعاف ، کما لا دخل للرجولیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 237
الثانی :‏ المعنی الکنائی الذی سیق الکلام لأجله ، مع عدم ثبوت الحکم‏‎ ‎‏للمنطوق . ولا یبعد أن یکون منه قوله سبحانه : ‏‏«‏فَلا تَقُلْ لَهُما اُفٍّ‏»‏‎[1]‎‏ فهو کنایة‏‎ ‎‏عن حرمة الإیذاء من الشتم والضرب ، ولکن الاُفّ غیر محرّم .‏

الثالث :‏ هذه الصورة ، ولکن المنطوق أیضاً محکوم بحکم المفهوم ، کالآیة‏‎ ‎‏المتقدّمة علی وجهٍ ، وهو فرض کون الاُفّ محرّماً أیضاً ، فأتی المتکلّم بأخفّ‏‎ ‎‏المصادیق مثلاً للانتقال إلی سائرها .‏

الرابع :‏ الأولویة القطعیة ، وهو الحکم الذی لم یذکر لکن یقطع به العقل‏‎ ‎‏بالمناط القطعی من الحکم المذکور ، کما فی قول القائل «أکرم خدّام العلماء» ؛ حیث‏‎ ‎‏یقطع منه لوجوب إکرام العلماء ، وهذا ما یعبّر عنه بالمناسبات العقلیة بین الموضوع‏‎ ‎‏ومحموله ، وهو رائج بین المتأخّرین .‏

الخامس :‏ الحکم المستفاد من العلّة الواردة فی الأخبار ، کقوله مثلاً :‏‎ ‎‏«لا تشرب الخمر ؛ لأنّه مسکر» .‏

وکیف کان :‏ فالجامع بین هذه الاحتمالات هو أنّ المفهوم الموافق حکم‏‎ ‎‏غیر مذکور فی محلّ النطق موافق للحکم فی محلّ النطق علی فرضه فی الإیجاب‏‎ ‎‏والسلب .‏

‏ولا یبعـد أن یکون محـطّ البحث فیما إذا کان المفهوم أخصّ مطلق من‏‎ ‎‏العامّ ، لا ما إذا کان بینهما عموم من وجه ؛ وإن کان الظاهر من بعضهم خلافه‏‎[2]‎‏ ،‏‎ ‎‏وسیأتی بیانه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 238
وأمّا جواز التخصیص به وعدمه :‏ فالظاهر جواز التخصیص به فیما عدا الرابع‏‎ ‎‏إذا کان المفهوم أخصّ منه مطلقاً ؛ ضرورة أنّ المفهوم ـ علی فرض وجوده ـ حجّة‏‎ ‎‏بلا إشکال ، فیکون حکمه حکم المنطوق ، ویکون حاله حال اللفظ الملقی إلی‏‎ ‎‏المخاطب ؛ فیخصّص به العامّ بلا ریب . وأمّا إذا کان بینهما عموم من وجه فیعامل‏‎ ‎‏معهما حکمهما المقرّر فی محلّه‏‎[3]‎‏ . ولعلّ وضوح الحکم فی تقدیم الخاصّ علی‏‎ ‎‏العامّ أوجب کون المسألة اتّفاقیة .‏

‏وأمّا الرابع ـ أعنی ما یکون فیه مدار الاستفادة هو المناط العقلی القطعی ـ‏‎ ‎‏فربّما یقال بتقدّم المفهوم علی العامّ ؛ وإن کانت النسبة بینهما عموماً من وجه إذا کان‏‎ ‎‏المعارض نفس المفهوم ؛ مستدلاًّ بأنّ الأمر دائر بین رفع الید عن العامّ وبین رفعها‏‎ ‎‏عن المفهوم فقط ، أو عنه وعن المنطوق .‏

‏لا سبیل إلی الثالث ؛ لأنّ المنطوق لا یزاحم العامّ علی الفرض .‏

‏والثانی ممتنع عقلاً ؛ لأنّه کیف یمکن رفع الید عن الأقوی مع إثباتها علی‏‎ ‎‏الأضعف ؟ علی أنّ رفع الید عن المفهوم مع عدم التصرّف فی المنطوق غیر ممکن ؛‏‎ ‎‏للزوم التفکیک بین اللازم والملزوم ؛ فإنّ المفروض لزومه له بنحو الأولویة .‏

‏فحینئذٍ یتعیّن التصرّف فی العموم وتخصیصه بغیر مورد المفهوم‏‎[4]‎‏ ، انتهی .‏

‏قلت : لو فرضنا أنّ مقتضی القواعد هو لزوم تقدیم العامّ علی المفهوم ـ لکونه‏‎ ‎‏فی عمومه أظهر من اشتمال القضیة علی المفهوم ـ لا یکون رفع الید عن المفهوم‏‎ ‎‏والمنطوق بلا وجه :‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 239
‏أمّا رفعها عن المفهوم : فواضح ؛ لأنّ المفروض أنّه مقتضی القواعد ؛ لکونه‏‎ ‎‏فی عمومه أظهر ؛ وإن کانت النسبة عموماً من وجه .‏

‏وأمّا رفع الید عن حکم المنطوق بمقداره : فلأنّ تقدیم العامّ علی المفهوم‏‎ ‎‏یکشف عن عدم تعلّق الحکم بالمنطوق ، وإلاّ یلزم التفکیک بین المتلازمین .‏

وبالجملة :‏ أنّ رفع الید عن المفهوم لأجل أقوائیة العامّ یوجب رفع الید عن‏‎ ‎‏المنطوق بمقداره ؛ لحدیث الملازمة والمعارضة ؛ وإن کانت بین العامّ والمفهوم أوّلاً‏‎ ‎‏وبالذات ، لکن تتحقّق أیضاً بینه وبین المنطوق ثانیاً وبالعرض . ورفع المحذور‏‎ ‎‏العقلی کما یمکن بتخصیص العامّ کذلک یمکن برفع الید عن حکم المنطوق‏‎ ‎‏والمفهوم .‏

وقد یقال‏ ـ کما عن بعض الأعاظم ، قدّس الله روحه ـ بعدم إمکان کون‏‎ ‎‏المفهوم معارضاً للعامّ دون منطوقه ؛ لأنّا فرضنا أنّ المفهوم موافق للمنطوق ، وأنّه‏‎ ‎‏سیق لأجل الدلالة علیه ، ومعه کیف یعقل أن یکون المنطوق غیر معارض للعامّ مع‏‎ ‎‏کون المفهوم معارضاً له ؟‏

‏فالتعارض فی المفهوم الموافق یقع ابتداءً بین المنطوق والعامّ ، ویتبعه وقوعه‏‎ ‎‏بین المفهوم والعامّ ، ولابدّ أوّلاً من علاج التعارض بین المنطوق والعامّ ، ویلزمه‏‎ ‎‏العلاج بین المفهوم والعامّ‏‎[5]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّه ربّما یکون بین المنطوق والعامّ تباین کلّی ، کما إذا قال «أکرم‏‎ ‎‏الجهّال من خدّام النحویین» ثمّ قال «لا تکرم الصرفیین» ؛ فإنّ المستفاد من الأوّل‏‎ ‎‏وجوب إکرام النحویین بالأولویة . فبین المنطوق وهو وجوب إکرام الجهّال من‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 240
‏خدّام النحویین والعامّ أعنی حرمة إکرام علماء الصرف تباین ، مع أنّ بین مفهومه‏‎ ‎‏الموافق وهو وجوب إکرام علماء النحو ، ونفس العامّ أعنی لا تکرم الصرفیین عموم‏‎ ‎‏من وجه ؛ إذ الصرفی والنحوی قد یجتمعان وقد یفترقان .‏

‏فحینئذٍ : إذا کان المنطوق أجنبیاً عن العامّ ، وکان التعارض ابتداءً بین العامّ‏‎ ‎‏والمفهوم ، مع کون النسبة بینهما عموماً من وجه فلا محیص من علاج التعارض‏‎ ‎‏ابتداءً بین العامّ والمفهوم ؛ لکون التعارض بینهما بالذات ویتبعه العلاج بین المنطوق‏‎ ‎‏والعامّ ؛ لکون التعارض بینهما بالعرض ؛ إذ لیس بین وجوب إکرام الجهّال من خدّام‏‎ ‎‏النحویین وبین حرمة إکرام الصرفیین تعارض بدواً .‏

‏فلو فرضنا تقدّم العامّ علی المفهوم حسب القواعد یتبعه رفع الید عن‏‎ ‎‏المنطوق لا محالة بمقداره . هذا حال هذا القسم من المنطوق والمفهوم .‏

وأمّا‏ إذا کان التعارض بین المنطوق والعامّ : فإن کان الأوّل أخصّ منه مطلقاً‏‎ ‎‏فیقدّم علی العامّ بلا إشکال ، ویتبعه تقدّم المفهوم علی العامّ مطلقاً ؛ سواء کانت نسبة‏‎ ‎‏المفهوم إلی العامّ عموماً مطلقاً أو عموماً من وجه .‏

‏والسرّ هنا : هو أنّه یمتنع رفع الید عن المفهوم بعد القطع بالتلازم ، فإذا فرضنا‏‎ ‎‏تقدّم المنطوق علی العامّ لکونه خاصّاً یستتبعه تقدّم المفهوم علیه أیضاً ـ بأیّ نسبة‏‎ ‎‏اشتملت ـ للقطع بالتلازم بین التقدّمین .‏

والحاصل :‏ أنّ عدم تقدیم المفهوم علی العامّ ـ حتّی فیما إذا کانت النسبة‏‎ ‎‏بینهما عموماً مـن وجـه إذا کان المنطوق أخصّ مطلقاً مـن العام ـ یستلزم إمّا‏‎ ‎‏تفکیک أحد المتلازمین عـن الآخـر إذا خصّصنا بالمنطوق دون المفهوم ، أو عـدم‏‎ ‎‏تقدیم الخاصّ علی العامّ إذا لم نخصّصه بالمنطوق أیضاً ، مع أنّـه بالنسبـة إلی العامّ‏‎ ‎‏خاصّ مطلق .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 241
وأظنّ :‏ أنّک إذا تدبّرت تعرف الفرق الواضح بین هذا القسم وما تقدّم بحثه‏‎ ‎‏آنفاً ؛ لأنّ البحث هاهنا فیما إذا کان التعارض بین العامّ والمنطوق وکان الثانی أخصّ‏‎ ‎‏من الأوّل مطلقاً ، فلا محالة یقدّم علیه ؛ ولأجل تقدّمه یقدّم المفهوم لحدیث التلازم ،‏‎ ‎‏وإلاّ یلزم أحد المحذورین المتقدّمین .‏

‏ولکن البحث هناک فیما إذا کان التعارض بین العامّ والمفهوم ابتداءً وکانت‏‎ ‎‏النسبة بینهما عموماً من وجه لا عموماً مطلقاً ؛ إذ هو خارج عن محطّ البحث .‏

‏فقد ذکرنا : أنّه لا وجه لتقدیم المفهوم والحال هذه ، کما لا وجه للاستدلال‏‎ ‎‏علی هذا التقدیم بمجرّد کون المنطوق موافقاً له ، بل ما لم یرفع التعارض بین العامّ‏‎ ‎‏والمفهوم لا یتعیّن حکم المنطوق ، فلو ألزَمَنا القواعد تقدیم العامّ علی المفهوم‏‎ ‎‏لقدّمناه علی المفهوم والمنطوق بلا تصوّر مانع ، فتذکّر .‏

‏هذا ، ولو کان التعارض بین المنطوق والعامّ أیضاً ولکن کان النسبة عموماً من‏‎ ‎‏وجه فیعامل معاملتهما ، ومع تقدیمه علی العامّ بحسب القواعد أو القرائن یقدّم‏‎ ‎‏المفهوم أیضاً ؛ لما عرفت .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 242

  • )) الإسراء (17) : 23 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 556 ـ 557 .
  • )) التعادل والترجیح ، الإمام الخمینی قدس سره : 100 ـ 105 .
  • )) اُنظر أجود التقریرات 1 : 500 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 556 .