الفصل الرابع فی الخطابات الشفاهیة

الفصل الرابع فی الخطابات الشفاهیة

‏ ‏

‏هل الخطابات الشفاهیة تعمّ غیر الحاضرین ؛ من الغائبین والمعدومین أو لا ؟‏‎ ‎‏ولا بأس بذکر اُمور :‏

الأمر الأوّل :‏ أنّ النزاع یمکن أن یقع بحسب التصوّر فی مقامین :‏

‏الأوّل : أن یکون النزاع فی جواز خطاب المعدوم والغائب ، ومرجعه إلی‏‎ ‎‏إمکان هذه المسألة العقلیة وعدمه .‏

‏وهو مع أنّه غیر مناسب لمبحث العامّ ـ لأنّ إمکان مخاطبتهما وعدمه‏‎ ‎‏غیر مربوط به ـ بعید جدّاً ؛ لأنّه ضروری البطلان .‏

‏نعم لا یبعد عن مثل بعض الحنابلة ؛ حیث جعل محطّ البحث ما حرّرناه ؛‏‎ ‎‏مستدلاًّ بخطاب الله علی المعدومین بقوله : ‏‏«‏کُنْ فَیَکُونُ‏»‏‎[1]‎‏ وخطابه فی عالم‏‎ ‎‏الذرّ‏‎[2]‎‏ ، إلی غیر ذلک من الاستدلالات الواهیة‏‎[3]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 219
‏الثانی : أن یکون خطـاب المعدوم مسلّم البطلان عندهم ، ولکن البحث فی‏‎ ‎‏أنّ استفادة أحکام الغائبین والمعدومین من نفس الخطابات هـل یستلزم خطابهما‏‎ ‎‏أو لا ؟‏

‏وإن شئت قلت : إنّ النزاع فی أنّ تعمیم ألفاظ العموم التی جیئت تلو أداة‏‎ ‎‏النداء وأشباهها ممّا تکون خطاباً بالنسبة إلیهما هل یستلزم مخاطبتهما حتّی یمتنع‏‎ ‎‏أو لا ؟ فیکون النزاع فی الملازمة وعدمها ، وهذا أنسب ؛ إذ المناسب للبحث عنه فی‏‎ ‎‏هذا المقام هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه إذا وقعت تلو الخطابات الشفاهیة .‏

الأمر الثانی :‏ الظاهر أنّ ملاک النزاع ـ علی ما حرّرناه ـ کما هو موجود فی‏‎ ‎‏الخطابات الشفاهیة کذلک موجود فی أمثال قوله تعالی : ‏‏«‏وَلِلّٰهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ‎ ‎البَیتِ‏»‏‎[4]‎‏ ، وقوله تعالی : ‏‏«‏لِلرِجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الوالِدانِ‏»‏‎[5]‎‏ ممّا لم یصدر‏‎ ‎‏بألفاظ النداء وأداة الخطاب ، فیمکن أن یقال : هل یلزم من شمول أمثال تلک‏‎ ‎‏العناوین والأحکام لغیر الموجودین تعلّق التکلیف الفعلی بهم فی حال العدم وصدق‏‎ ‎‏العناوین علیهم فی هذا الحال ، أو لا ؟ فلو قلنا باستلزامه فلا محالة تختصّ تلک‏‎ ‎‏الأحکام بالموجودین ، وإلاّ فتعمّهم والغائبین والمعدومین .‏

‏نعم ، یظهر من الشیخ الأعظم ادّعاء الاتّفاق فی شمول ما لم یصدّر بأداة‏‎ ‎‏النداء ، وأنّه لم یعهد من أحد إنکار شموله لهما‏‎[6]‎‏ ، وتبعه بعض الأعاظم ؛ قائلاً بأنّ‏‎ ‎‏أسماء الأجناس یشمل المعدومین بلا ریب‏‎[7]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 220
‏وفیه : أنّ القائل بالاختصاص یمکن أن یدّعی أنّ المعدوم لا یطلق علیه‏‎ ‎‏الناس عقلاً ، ولا یمکن عقد الاُخوّة بین المعدومین فی قوله : ‏‏«‏إِنَّما المُؤمِنُونَ‎ ‎إِخوَةٌ‏»‏‎[8]‎‏ لا بمعنی أنّ الألفاظ موضوعة للموجودین ؛ حتّی یدفع بأنّها موضوعة‏‎ ‎‏للماهیة اللابشرط ، بل بمعنی أنّ الشیء ما لم یوجد ولم یتشخّص لیس له ماهیة کما‏‎ ‎‏لیس لها وجود . فالإنسان إنسان بالوجود ، ولولاه لا إنسان ولا ماهیة ولا غیر ذلک .‏‎ ‎‏فالقصور من ناحیة نفس العناوین لا من جانب الوضع .‏

‏وحینئذٍ : لو کان المراد من شمول أسماء الأجناس لهم هو شمولها حال‏‎ ‎‏عدمهم فهو ضروری البطلان ـ کما تقدّم ـ وإن کان المراد انطباقها علیهم فی ظرف‏‎ ‎‏الوجود بنحو القضیة الحقیقیة فهو جواب عن الإشکال ، ولا یوجب خروج هذا‏‎ ‎‏القسم عن محطّ البحث .‏

الأمر الثالث :‏ أنّ حلّ الشبهة فی بعض الصور مبنی علی القضیة الحقیقیة ،‏‎ ‎‏فلا بأس بتوضیح حالها وحال القضیة الخارجیة والفرق بینهما :‏

فنقول :‏ إنّ هـذا التقسیم للقضایا الکلّیـة ، وأمّا الشخصیة مثل «زیـد قائم»‏‎ ‎‏ممّا لا تعتبر فی العلوم فخارجة عن المقسم ، فقد یکون الحکم فی القضایا الکلّیة‏‎ ‎‏علی الأفراد الموجودة للعنوان ؛ بحیث یختصّ الحکم علی ما وجد فقط ، من غیر‏‎ ‎‏أن یشمل الموجودین فی الماضی والمستقبل ؛ وذلک بأن یتقیّد مدخـول أداة‏‎ ‎‏العموم ؛ بحیث لا ینطبق إلاّ علیها ، مثل «کلّ عالم موجود فی الحال کذا» أو «کلّ من‏‎ ‎‏فی هذا العسکر کذا» ؛ سواء کان الحکم علی أفراد عنوان ذاتی أو عرضی أو‏‎ ‎‏انتزاعی . فلفظ «الکلّ» لاستغراق أفراد مدخوله ، والعنوان المتلوّ له بعد التقیید‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 221
‏المذکور لا یصلح إلاّ للانطباق علی الأفراد المحقّقة .‏

‏وأمّا القضیة الحقیقیة فهی ما یکون الحکم فیها علی أفراد الطبیعة القابلة‏‎ ‎‏للصدق علی الموجود فی الحال وغیره ، مثل «کلّ نار حارّة» فلفظة «نار» تدلّ علی‏‎ ‎‏نفس الطبیعة ؛ وهی قابلة للصدق علی کلّ فرد ، لا بمعنی وضعها للأفراد ، ولا بمعنی‏‎ ‎‏کونها حاکیة عنها ، أو کون الطبیعة حاکیة عنها ، بل بمعنی دلالتها علی الطبیعة القابلة‏‎ ‎‏للصدق علی الأفراد الموجودة ، وما سیوجد فی ظرف وجوده .‏

‏ولفظ «الکلّ» دالّ علی استغراق أفراد مدخوله ، من دون أن یدلّ علی‏‎ ‎‏الوجود والعدم ؛ ولهذا یقع مقسماً للموجود والمعدوم ، ویصحّ أن یقال : کلّ فرد من‏‎ ‎‏الطبیعة إمّا موجود أو معدوم بلا تجوّز وتأوّل .‏

‏وإضافة الکلّ إلی الطبیعة تدلّ علی تعلّق الاستغراق بما یتلوه ، ولمّا لم تتقیّد‏‎ ‎‏بما یجعلها منحصرة الانطباق علی الأفراد المحقّقة فلا محالة تکون منطبقة علیها‏‎ ‎‏وعلی غیرها ، کلٌّ فی موطنه ، لا فی حال العدم ؛ لامتناع صدقها علی المعدوم ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الطبیعة لم تکن طبیعة فی حال العدم ، ولا أفرادها أفراداً فی حاله .‏

‏فـ «کلّ نار حارّة» إخبار عن مصادیق النار ؛ دلالة تصدیقیة ، والمعدوم لیس‏‎ ‎‏مصداقاً للنار ولا لشیء آخر ، کما أنّ الموجود الذهنی لیس ناراً بالحمل الشائع ،‏‎ ‎‏فینحصر الصدق علی الأفراد الموجودة فی ظرف وجودها ، من غیر أن یکون‏‎ ‎‏الوجود قیداً ، أو أن یفرض للمعدوم وجود أو ینزّل منزلة الوجود ، ومن غیر أن‏‎ ‎‏یکون القضیة متضمّنة للشرط ، کما تمور بها الألسن موراً .‏

‏فإنّ تلک التکلّفات مـع کونها خلاف الوجـدان فی إخباراتنا ـ بداهـة أنّ کـلّ‏‎ ‎‏مـن أخبر بأنّ النار مثلاً حارّة لا یخطر ببالـه الأفـراد المعدومـة ؛ فضلاً عـن‏‎ ‎‏تنزیلها منزلـة الموجـود أو الاشتراط بأنّـه إذا وجـدت کانت کذلک ـ ناشئـة مـن‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 222
‏عدم تعقّل القضیة الحقیقیة .‏

‏وتخیّل : أنّ للطبیعة أفراداً معدومة ، وتکون الطبیعة صادقة علیها حقیقة حال‏‎ ‎‏عدمها ، ولمّا لم یصدق علیها الحکم فی ظرفه لابدّ من ارتکاب تأوّل وتکلّف .‏

وأنت خبیر :‏ بأنّ ذلک فی غایة السقوط ؛ لأنّ العدم لیس بشیء کالمعدوم ، فلا‏‎ ‎‏تکون القضیة الحقیقیة إخباراً عن الأفراد المعدومة ، بل إخبار عن أفراد الطبیعة بلا‏‎ ‎‏قید ، وهی لا تصدق إلاّ علی الأفراد الموجودة فی ظرف وجودها ، فیکون الإخبار‏‎ ‎‏کذلک بحکم العقل بلا قید واشتراط وتأوّل .‏

ولیعلم :‏ أنّ الحکم فی الحقیقیة علی الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجمالی ،‏‎ ‎‏وهو عنوان کلّ فرد أو جمیع الأفراد . فعنوان الکلّ والجمیع متعلّق للحکم ، ولمّا کان‏‎ ‎‏هذا العنوان موضوعاً للکثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلی الطبیعة یفید أفرادها‏‎ ‎‏بنحو الإجمال . فالحکم فی المحصورة علی أفراد الطبیعة بنحو الإجمال ، لا علی‏‎ ‎‏نفس الطبیعة ولا علی الأفراد تفصیلاً . فما اشتهر من أنّ الحکم علی الطبیعة التی‏‎ ‎‏هی مرآة للأفراد لیس بشیء .‏

‏وبما ذکرنا یظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم فی الفرق بین الحقیقیة‏‎ ‎‏والخارجیة من القضایا ؛ حیث حکم فی عدّة مواضع من کلامه بأنّ الحکم فی‏‎ ‎‏الخارجیة علی الأفراد والأشخاص بلا توسّط عنوان ؛ حتّی لو فرض هنا عنوان فهو‏‎ ‎‏أمر اتّفاقی‏‎[9]‎‏ .‏

‏مـع أنّک قد عرفت‏‎[10]‎‏ : أنّ التقسیم وارد علی القضایا المعتبرة فی العلوم ،‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 223
‏وهی تحتاج إلی عنوان ذاتی أو عرضی ، وکأنّه ‏‏قدس سره‏‏ خلط بین الجزئیة والخارجیة .‏

‏کما ظهر الضعف فیما أفاد : أنّ الطبیعة فی الحقیقیة تؤخذ عنواناً ومرآة‏‎ ‎‏للأفراد ، مع أنّک عرفت‏‎[11]‎‏ امتناع أخذها مرآة لها ، وأنّ الدالّ علی الأفراد هو لفظ‏‎ ‎‏«کلّ» وأشباهه من ألفاظ العموم .‏

‏وأغرب منه ما أفاد من التقدیر وتنزیل المعدوم منزلة الموجود‏‎[12]‎‏ ؛ حیث‏‎ ‎‏تقدّم أنّ ذلک کلّه خلاف الارتکاز وخلاف ما یقتضیه الذوق السلیم . وبقی فی کلامه‏‎ ‎‏مواقع للنظر ترکنا الکلام فیه .‏

إذا عرفت ذلک فاعلم :‏ أنّ الکلام یقع فی مقامین :‏

الأوّل :‏ فیما إذا کـان الجعل علی نهـج القانون الکلّی بلا لفظ خطاب أو‏‎ ‎‏نـداء ؛ سواء کان الجعل متعلّقاً علی نحو القضیة الحقیقیة علی مصادیق العناوین‏‎ ‎‏بنحو الإجمـال ، کما فی القضیـة المحصورة ، أم کان الجعل علی نفس العناوین ،‏‎ ‎‏کما فی غیرها .‏

والإشکال المتوهّم فیه :‏ هو أنّ التکلیف الفعلی لا یمکن أن یتوجّه إلی‏‎ ‎‏المعدوم وتعمیم الأدلّة یستلزم ذلک .‏

والجواب عنه‏ واضح بعد ما عرفت الحال فیما تقدّم ؛ إذ المعدوم فی حال‏‎ ‎‏العدم لم یتوجّه إلیه التکلیف ؛ حتّی یرد ما ذکرت ، بل یتوجّه إلیه إذا صار موجوداً ،‏‎ ‎‏وتحقّق مصداق المستطیع فی ظرفه .‏

‏فإذا رأی المکلّف أنّ کتاب الله تعالی ینادی بأنّه یجب الحجّ علی کلّ‏‎ ‎‏مستطیع ، من دون أن یقیّد بما یخصّه بالموجودین ، ورأی نفسه مستطیعاً علیه ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 224
‏فلا محالة یری نفسه مأموراً بالحجّ لا لأجل جعل الحکم علی المعدوم ، بل لأجل‏‎ ‎‏جعله علی العنوان بلا قید ، وهو قبل وجوده واستطاعته لیس من الناس ولا من‏‎ ‎‏أفراد المستطیع بالضرورة ، وبعد وجوده واستطاعته یصدق علیه هذان العنوانان ،‏‎ ‎‏ولازم جعله کذلک شمول الحکم له .‏

وبالجملة :‏ هذا القسم لا یستلزم جعل الحکم علی المعدوم ، بل علی العنوان‏‎ ‎‏الذی لا ینطبق إلاّ علی الموجود . فاتّضح وجه شمول قوله تعالی : ‏‏«‏الرِّجالُ قَوّامُونَ‎ ‎عَلَی النِّساءِ‏»‏‎[13]‎‏ وأشباهه الواردة فی الذکر الحکیم وغیره .‏

المقام الثانی :‏ ما إذا کان من قبیل توجیه الکلام إلی المخاطب ؛ سواء کان‏‎ ‎‏التوجیه بکلام مشتمل علی «کاف» الخطاب أو أداة النداء أم لغیرهما ممّا یعدّ‏‎ ‎‏توجیهاً بالحمل الشائع وإن لم یکن فیه ما یدلّ وضعاً علی التخاطب .‏

والإشکال فی هذا المقام :‏ استلزام التعمیم للغائب والمعدوم لزومَ مخاطبة‏‎ ‎‏المعدوم والغائب .‏

‏وأمّا حلّه فربّما یتمسّک هنا أیضاً بالقضیة الحقیقیة ، لکن ستعرف ضعفه‏‎[14]‎‏ .‏

والتحقیق فی دفع الإشکال عن هذا القسم :‏ أنّ الخطابات القرآنیة لیست‏‎ ‎‏خطابات شفاهیة لفظیة ؛ بحیث یقابل فیها الشخص الشخص ، بل کخطابات کتبیة ،‏‎ ‎‏ومثلها القوانین العرفیة الدائرة بین العقلاء .‏

أمّا کون الثانی من هذا القبیل :‏ فواضح ؛ فلأنّ المقنّن فی القوانین العرفیة‏‎ ‎‏والسیاسیة ـ سواء کان شخصاً واحداً أم هیئة وجماعة ـ بعدما أحکمها وأثبتها‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 225
‏یتشبّث فی إبلاغه وإعلانه بالنشر فی الکتب والجرائد وسائر الآلات المستحدثة فی‏‎ ‎‏هذه الأزمنة ؛ من المذیاع وغیره .‏

‏وحینئذٍ : فالفرد الحائز للشرائط من الشعب المأمور بالعمل بها إذا عطف نظره‏‎ ‎‏إلی کتاب القانون لأهل وطنه لا یشکّ أنّه مأمور بالعمل به ؛ وإن تأخّر عن زمان‏‎ ‎‏الجعل بکثیر ، بل لم یکن موجوداً فی ظرف الوضع ، ولکن جعل الحکم بصورة‏‎ ‎‏الخطاب علی الناس فی قول القائل «یا أیّها الناس» کافٍ فی شموله له ؛ وإن وجد‏‎ ‎‏بعد زمن الخطاب بمدّة متراخیة .‏

‏وما ذلک إلاّ لأجل کون الخطاب کتبیاً أو شبیهاً بذلک ، وهو لیس بخطاب‏‎ ‎‏لفظی حقیقة ، ولا یحتاج إلی مخاطب حاضر .‏

وأمّا الأوّل‏ ـ أعنی خطابات الذکر الحکیم ـ فلأنّ مشکلة الوحی وإن کانت‏‎ ‎‏عویصة عظیمة قلّما یتّفق لبشر أن یکشف مغزاه‏‎[15]‎‏ لکنّا مهما شککنا فی شیء لا‏‎ ‎‏نشکّ فی أنّ خطابات الله تعالی النازلة إلی رسوله لم تکن متوجّهة إلی العباد ـ لا إلی‏‎ ‎‏الحاضرین فی مجلس الوحی ولا الغائبین عنه ، ولا غیرهم ـ کمخاطبة بعضنا بعضاً ؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ الوحی بنصّ الذکر الحکیم ـ أعنی قولـه سبحانه : ‏‏«‏نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ‎ ‎الأَمِینُ * عَلی قَلبِکَ لِتَکُونَ مِنَ المُنْذِرِینَ‏»‏‎[16]‎‏ ـ إنّما نزل علی شخص‏‎ ‎‏رسوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ وکلام الله وخطاباته لم تکن مسموعة لأحد من الاُمّة .‏

‏بل یمکن أن یقال بعدم وصول خطاب لفظی منه تعالی بلا واسطة إلی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 226
‏رسوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ غالباً أیضاً ؛ لأنّ الظاهـر مـن الآیات والـروایات : أنّ نزول الوحـی‏‎ ‎‏کان بتوسّط أمین الـوحی جبریل ، وهـو کان حاکیاً لتلک الخطابات منه سبحانـه‏‎ ‎‏إلی رسوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ .‏

‏فلیس هنا خطاب لفظی حقیقی ؛ إذ النبی الأکرم ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ لم یکن طرف‏‎ ‎‏المخاطبـة لـه تعالی ، ولا المؤمنون المقتفون بـه ، بل حال الحاضرین فی زمـن‏‎ ‎‏النبی ومجلس الوحـی کحال غیرهم ؛ مـن حیث عدم توجّـه خطاب لفظی مـن الله ‏‎ ‎‏سبحانه إلیهم .‏

وبالجملة :‏ لو تأمّلت فی أنّ خطابات الله وکلامه لم تکن مسموعة لأحد من‏‎ ‎‏الاُمّة ، وأنّ الوحی کان بتوسّط أمینه بنحو الحکایة لرسوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ تعرف عدم‏‎ ‎‏خطاب لفظی من الله ؛ لا إلی نبیّه ولا إلی عباده ، بل تلک الخطابات القرآنیة کسائر‏‎ ‎‏الأحکام الذی لم یصدر بألفاظ الخطاب من غیر فرق بینهما ، وتکون أشبه‏‎ ‎‏بالخطابات الکتابیة ، مثل قول القائل «فاعلموا إخوانی» .‏

‏وحینئذٍ بما أنّ تلک الخطابات المحکیة باقیة إلی زماننا ، ونسبة الأوّلین‏‎ ‎‏والآخرین إلیها سواء فلا محالة یکون اختصاصها إلیهم بلا وجه ، بل اختصاصها‏‎ ‎‏إلیهم ثمّ تعمیمها إلی غیرهـم لغو ؛ إذ لا وجـه لهذا الجعل الثانوی مـن قولـه مثلاً‏‎ ‎‏«إنّ حکمی علی الآخرین حکمی علی الأوّلین» بعد إمکان الشمول للجمیع علی‏‎ ‎‏نسق واحد .‏

‏بل عدم الدلیل علی الاختصاص کافٍ فی بطلانه بعد کون العنوان عامّاً أو‏‎ ‎‏مطلقاً ، وبعد کون الخطاب الکتبی إلی کلّ من یراه أمراً متعارفاً ، کما هو المعمول من‏‎ ‎‏أصحاب التألیف من الخطابات الکثیرة .‏

فظهر :‏ أنّ خطابات القرآن کغیرها فی أنّها لیست خطابات حقیقیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 227
‏وأمّا التخلّص عن هذا الإشکال بالتمسّک بالقضیة الحقیقیة فضعیف جدّاً ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الحکم فی القضیة الحقیقیة علی عنوان للأفراد قابل للصدق علی کلّ مصداق‏‎ ‎‏موجود فعلاً أو ما یوجد فی القابل ، ومثل ذلک لا یتصوّر فی الخطاب ؛ إذ لا یمکن‏‎ ‎‏أن یتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له ؛ ولو لم تکن حاضرة فی مجلس التخاطب .‏‎ ‎‏والخطاب نحو توجّه تکوینی نحو المخاطب لغرض التفهیم ، ومثل ذلک یتوقّف علی‏‎ ‎‏حاضر ملتفت ، والمعدوم والغائب لیسا حاضرین ولا ملتفتین .‏

‏وبالجملة : ما سلکناه من التمسّک بالقضیة الحقیقیة فی غیر الخطابات لا‏‎ ‎‏یجری فیها ؛ إذ الخطاب الحقیقی یستلزم وجوداً للمخاطب ووجوداً واقعیاً‏‎ ‎‏للمخاطب . والقول بأنّ الخطاب متوجّه إلی العنوان کجعل الحکم علیه مغالطة‏‎ ‎‏محضة ؛ لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع یأبی عن التفوّه بذلک .‏

‏ولو اشتهی أحد إصلاح هذا القسم من هذا الطریق أیضاً فلابدّ أن یتمسّک فی‏‎ ‎‏إثبات شمول الخطاب للمعدوم والغائب بأنّ المعدوم نزّل منزلة الموجود ، أو‏‎ ‎‏غیر الشاعر منزلة الشاعر الملتفت ، کما هو المشهور فی مخاطبة الجمادات ، کما‏‎ ‎‏فی الشعر :‏

‏ ‏

‏أیا شجر الخابور مالک مورقاً‏

‎ ‎‏کأنّک لم تجزع علی ابن طریف‏

‏ ‏

‏وفی قول القائل :‏

‏ ‏

‏ألا أیّها اللیل الطویل ألا انجلی‏

‎ ‎‏بصبح ، وما الإصباح منک بأمثل‏

‏ ‏

‏مع أنّک قد عرفت : أنّ هذا التنزیل لیس لازم القضیة الحقیقیة‏‎[17]‎‏ ؛ وإن زعمه‏‎ ‎‏بعض الأعاظم‏‎[18]‎‏ . فلا وجه لارتکاب التکلّف والتعسّف بالتمسّک بالقضیة الحقیقیة ،‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 228
‏ثمّ الالتزام بتکلّف آخر من حدیث التنزیل ، وهی بذاتها غیر محتاج إلیها .‏

والحاصل :‏ أنّ الإنشائیات بنحو الخطاب لیست من القضایا الحقیقیة ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الخطاب العمومی مثل ‏‏«‏یا أ یُّها الَّذِینَ آمَنُوا‏»‏‏ لا یمکن أن یتوجّه بنحو الخطاب‏‎ ‎‏الحقیقی إلی أفراد العنوان ؛ حتّی یکون کلّ فرد مخاطباً بالخطاب اللفظی فی ظرف‏‎ ‎‏وجوده ؛ لأنّ أدوات النداء وضعت لإیجاد النداء لا لمفهومه ، والمخاطبة نحو توجّه‏‎ ‎‏إلی المخاطب ؛ توجّهاً جزئیاً مشخّصاً ، وهو یتوقّف علی وجود المخاطب الملتفت .‏

‏فلو التزمنا علی خلاف المختار ، وقلنا : إنّ خطابات الذکر الحکیم متوجّهة‏‎ ‎‏نحو المخلوق ، وإنّ مَثَل رسول الله  ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ مثل شجرة موسی ‏‏علیه السلام‏‏ ، فلا محیص‏‎ ‎‏ـ حینئذٍ ـ فی شمول الخطابات إلی غیر الحاضرین ؛ من الالتزام بتنزیل المعدوم‏‎ ‎‏وغیر الحاضر منزلة الموجود والحاضر ، ولکن لا یصار إلیه إلاّ بدلیل خارج بعد‏‎ ‎‏عدم کونه لازم القضیة الحقیقیة ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 229

  • )) یس (36) : 82 .
  • )) الأعراف (7) : 172 .
  • )) اُنظر الفصول الغرویة : 183 / السطر27 .
  • )) آل عمران (3) : 97 .
  • )) النساء (4) : 7 .
  • )) مطارح الأنظار : 203 / السطر30 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 548 .
  • )) الحجرات (49) : 10 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 170 ـ 171 و 512 و 526 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 221 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 155 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 550 .
  • )) النساء (4) : 34 .
  • )) یأتی فی الصفحة 228 .
  • )) إلاّ أنّک لـو أحفیت الحقیقـة مـن کتاب «مصباح الهدایـة فی الولایـة والخلافـة» لسیّدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ یسهّل لک حلّ بعض مشاکله ، وهو من أنفس ما اُ لّف فی هذا المقام ، فحیّا الله سیّدنا الاُستاذ وبیّاه . [المؤ لّف]
  • )) الشعراء (26) : 193 ـ 194 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 222 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 550 .