الفصل الرابع فی الخطابات الشفاهیة
هل الخطابات الشفاهیة تعمّ غیر الحاضرین ؛ من الغائبین والمعدومین أو لا ؟ ولا بأس بذکر اُمور :
الأمر الأوّل : أنّ النزاع یمکن أن یقع بحسب التصوّر فی مقامین :
الأوّل : أن یکون النزاع فی جواز خطاب المعدوم والغائب ، ومرجعه إلی إمکان هذه المسألة العقلیة وعدمه .
وهو مع أنّه غیر مناسب لمبحث العامّ ـ لأنّ إمکان مخاطبتهما وعدمه غیر مربوط به ـ بعید جدّاً ؛ لأنّه ضروری البطلان .
نعم لا یبعد عن مثل بعض الحنابلة ؛ حیث جعل محطّ البحث ما حرّرناه ؛ مستدلاًّ بخطاب الله علی المعدومین بقوله : «کُنْ فَیَکُونُ» وخطابه فی عالم الذرّ ، إلی غیر ذلک من الاستدلالات الواهیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 219
الثانی : أن یکون خطـاب المعدوم مسلّم البطلان عندهم ، ولکن البحث فی أنّ استفادة أحکام الغائبین والمعدومین من نفس الخطابات هـل یستلزم خطابهما أو لا ؟
وإن شئت قلت : إنّ النزاع فی أنّ تعمیم ألفاظ العموم التی جیئت تلو أداة النداء وأشباهها ممّا تکون خطاباً بالنسبة إلیهما هل یستلزم مخاطبتهما حتّی یمتنع أو لا ؟ فیکون النزاع فی الملازمة وعدمها ، وهذا أنسب ؛ إذ المناسب للبحث عنه فی هذا المقام هو شمول ألفاظ العموم لهم وعدمه إذا وقعت تلو الخطابات الشفاهیة .
الأمر الثانی : الظاهر أنّ ملاک النزاع ـ علی ما حرّرناه ـ کما هو موجود فی الخطابات الشفاهیة کذلک موجود فی أمثال قوله تعالی : «وَلِلّٰهِ عَلَی النّاسِ حِجُّ البَیتِ» ، وقوله تعالی : «لِلرِجالِ نَصِیبٌ مِمّا تَرَکَ الوالِدانِ» ممّا لم یصدر بألفاظ النداء وأداة الخطاب ، فیمکن أن یقال : هل یلزم من شمول أمثال تلک العناوین والأحکام لغیر الموجودین تعلّق التکلیف الفعلی بهم فی حال العدم وصدق العناوین علیهم فی هذا الحال ، أو لا ؟ فلو قلنا باستلزامه فلا محالة تختصّ تلک الأحکام بالموجودین ، وإلاّ فتعمّهم والغائبین والمعدومین .
نعم ، یظهر من الشیخ الأعظم ادّعاء الاتّفاق فی شمول ما لم یصدّر بأداة النداء ، وأنّه لم یعهد من أحد إنکار شموله لهما ، وتبعه بعض الأعاظم ؛ قائلاً بأنّ أسماء الأجناس یشمل المعدومین بلا ریب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 220
وفیه : أنّ القائل بالاختصاص یمکن أن یدّعی أنّ المعدوم لا یطلق علیه الناس عقلاً ، ولا یمکن عقد الاُخوّة بین المعدومین فی قوله : «إِنَّما المُؤمِنُونَ إِخوَةٌ» لا بمعنی أنّ الألفاظ موضوعة للموجودین ؛ حتّی یدفع بأنّها موضوعة للماهیة اللابشرط ، بل بمعنی أنّ الشیء ما لم یوجد ولم یتشخّص لیس له ماهیة کما لیس لها وجود . فالإنسان إنسان بالوجود ، ولولاه لا إنسان ولا ماهیة ولا غیر ذلک . فالقصور من ناحیة نفس العناوین لا من جانب الوضع .
وحینئذٍ : لو کان المراد من شمول أسماء الأجناس لهم هو شمولها حال عدمهم فهو ضروری البطلان ـ کما تقدّم ـ وإن کان المراد انطباقها علیهم فی ظرف الوجود بنحو القضیة الحقیقیة فهو جواب عن الإشکال ، ولا یوجب خروج هذا القسم عن محطّ البحث .
الأمر الثالث : أنّ حلّ الشبهة فی بعض الصور مبنی علی القضیة الحقیقیة ، فلا بأس بتوضیح حالها وحال القضیة الخارجیة والفرق بینهما :
فنقول : إنّ هـذا التقسیم للقضایا الکلّیـة ، وأمّا الشخصیة مثل «زیـد قائم» ممّا لا تعتبر فی العلوم فخارجة عن المقسم ، فقد یکون الحکم فی القضایا الکلّیة علی الأفراد الموجودة للعنوان ؛ بحیث یختصّ الحکم علی ما وجد فقط ، من غیر أن یشمل الموجودین فی الماضی والمستقبل ؛ وذلک بأن یتقیّد مدخـول أداة العموم ؛ بحیث لا ینطبق إلاّ علیها ، مثل «کلّ عالم موجود فی الحال کذا» أو «کلّ من فی هذا العسکر کذا» ؛ سواء کان الحکم علی أفراد عنوان ذاتی أو عرضی أو انتزاعی . فلفظ «الکلّ» لاستغراق أفراد مدخوله ، والعنوان المتلوّ له بعد التقیید
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 221
المذکور لا یصلح إلاّ للانطباق علی الأفراد المحقّقة .
وأمّا القضیة الحقیقیة فهی ما یکون الحکم فیها علی أفراد الطبیعة القابلة للصدق علی الموجود فی الحال وغیره ، مثل «کلّ نار حارّة» فلفظة «نار» تدلّ علی نفس الطبیعة ؛ وهی قابلة للصدق علی کلّ فرد ، لا بمعنی وضعها للأفراد ، ولا بمعنی کونها حاکیة عنها ، أو کون الطبیعة حاکیة عنها ، بل بمعنی دلالتها علی الطبیعة القابلة للصدق علی الأفراد الموجودة ، وما سیوجد فی ظرف وجوده .
ولفظ «الکلّ» دالّ علی استغراق أفراد مدخوله ، من دون أن یدلّ علی الوجود والعدم ؛ ولهذا یقع مقسماً للموجود والمعدوم ، ویصحّ أن یقال : کلّ فرد من الطبیعة إمّا موجود أو معدوم بلا تجوّز وتأوّل .
وإضافة الکلّ إلی الطبیعة تدلّ علی تعلّق الاستغراق بما یتلوه ، ولمّا لم تتقیّد بما یجعلها منحصرة الانطباق علی الأفراد المحقّقة فلا محالة تکون منطبقة علیها وعلی غیرها ، کلٌّ فی موطنه ، لا فی حال العدم ؛ لامتناع صدقها علی المعدوم ؛ لأنّ الطبیعة لم تکن طبیعة فی حال العدم ، ولا أفرادها أفراداً فی حاله .
فـ «کلّ نار حارّة» إخبار عن مصادیق النار ؛ دلالة تصدیقیة ، والمعدوم لیس مصداقاً للنار ولا لشیء آخر ، کما أنّ الموجود الذهنی لیس ناراً بالحمل الشائع ، فینحصر الصدق علی الأفراد الموجودة فی ظرف وجودها ، من غیر أن یکون الوجود قیداً ، أو أن یفرض للمعدوم وجود أو ینزّل منزلة الوجود ، ومن غیر أن یکون القضیة متضمّنة للشرط ، کما تمور بها الألسن موراً .
فإنّ تلک التکلّفات مـع کونها خلاف الوجـدان فی إخباراتنا ـ بداهـة أنّ کـلّ مـن أخبر بأنّ النار مثلاً حارّة لا یخطر ببالـه الأفـراد المعدومـة ؛ فضلاً عـن تنزیلها منزلـة الموجـود أو الاشتراط بأنّـه إذا وجـدت کانت کذلک ـ ناشئـة مـن
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 222
عدم تعقّل القضیة الحقیقیة .
وتخیّل : أنّ للطبیعة أفراداً معدومة ، وتکون الطبیعة صادقة علیها حقیقة حال عدمها ، ولمّا لم یصدق علیها الحکم فی ظرفه لابدّ من ارتکاب تأوّل وتکلّف .
وأنت خبیر : بأنّ ذلک فی غایة السقوط ؛ لأنّ العدم لیس بشیء کالمعدوم ، فلا تکون القضیة الحقیقیة إخباراً عن الأفراد المعدومة ، بل إخبار عن أفراد الطبیعة بلا قید ، وهی لا تصدق إلاّ علی الأفراد الموجودة فی ظرف وجودها ، فیکون الإخبار کذلک بحکم العقل بلا قید واشتراط وتأوّل .
ولیعلم : أنّ الحکم فی الحقیقیة علی الأفراد المتصوّرة بالوجه الإجمالی ، وهو عنوان کلّ فرد أو جمیع الأفراد . فعنوان الکلّ والجمیع متعلّق للحکم ، ولمّا کان هذا العنوان موضوعاً للکثرات بنحو الإجمال فبإضافته إلی الطبیعة یفید أفرادها بنحو الإجمال . فالحکم فی المحصورة علی أفراد الطبیعة بنحو الإجمال ، لا علی نفس الطبیعة ولا علی الأفراد تفصیلاً . فما اشتهر من أنّ الحکم علی الطبیعة التی هی مرآة للأفراد لیس بشیء .
وبما ذکرنا یظهر ضعف ما أفاده بعض الأعاظم فی الفرق بین الحقیقیة والخارجیة من القضایا ؛ حیث حکم فی عدّة مواضع من کلامه بأنّ الحکم فی الخارجیة علی الأفراد والأشخاص بلا توسّط عنوان ؛ حتّی لو فرض هنا عنوان فهو أمر اتّفاقی .
مـع أنّک قد عرفت : أنّ التقسیم وارد علی القضایا المعتبرة فی العلوم ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 223
وهی تحتاج إلی عنوان ذاتی أو عرضی ، وکأنّه قدس سره خلط بین الجزئیة والخارجیة .
کما ظهر الضعف فیما أفاد : أنّ الطبیعة فی الحقیقیة تؤخذ عنواناً ومرآة للأفراد ، مع أنّک عرفت امتناع أخذها مرآة لها ، وأنّ الدالّ علی الأفراد هو لفظ «کلّ» وأشباهه من ألفاظ العموم .
وأغرب منه ما أفاد من التقدیر وتنزیل المعدوم منزلة الموجود ؛ حیث تقدّم أنّ ذلک کلّه خلاف الارتکاز وخلاف ما یقتضیه الذوق السلیم . وبقی فی کلامه مواقع للنظر ترکنا الکلام فیه .
إذا عرفت ذلک فاعلم : أنّ الکلام یقع فی مقامین :
الأوّل : فیما إذا کـان الجعل علی نهـج القانون الکلّی بلا لفظ خطاب أو نـداء ؛ سواء کان الجعل متعلّقاً علی نحو القضیة الحقیقیة علی مصادیق العناوین بنحو الإجمـال ، کما فی القضیـة المحصورة ، أم کان الجعل علی نفس العناوین ، کما فی غیرها .
والإشکال المتوهّم فیه : هو أنّ التکلیف الفعلی لا یمکن أن یتوجّه إلی المعدوم وتعمیم الأدلّة یستلزم ذلک .
والجواب عنه واضح بعد ما عرفت الحال فیما تقدّم ؛ إذ المعدوم فی حال العدم لم یتوجّه إلیه التکلیف ؛ حتّی یرد ما ذکرت ، بل یتوجّه إلیه إذا صار موجوداً ، وتحقّق مصداق المستطیع فی ظرفه .
فإذا رأی المکلّف أنّ کتاب الله تعالی ینادی بأنّه یجب الحجّ علی کلّ مستطیع ، من دون أن یقیّد بما یخصّه بالموجودین ، ورأی نفسه مستطیعاً علیه ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 224
فلا محالة یری نفسه مأموراً بالحجّ لا لأجل جعل الحکم علی المعدوم ، بل لأجل جعله علی العنوان بلا قید ، وهو قبل وجوده واستطاعته لیس من الناس ولا من أفراد المستطیع بالضرورة ، وبعد وجوده واستطاعته یصدق علیه هذان العنوانان ، ولازم جعله کذلک شمول الحکم له .
وبالجملة : هذا القسم لا یستلزم جعل الحکم علی المعدوم ، بل علی العنوان الذی لا ینطبق إلاّ علی الموجود . فاتّضح وجه شمول قوله تعالی : «الرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَی النِّساءِ» وأشباهه الواردة فی الذکر الحکیم وغیره .
المقام الثانی : ما إذا کان من قبیل توجیه الکلام إلی المخاطب ؛ سواء کان التوجیه بکلام مشتمل علی «کاف» الخطاب أو أداة النداء أم لغیرهما ممّا یعدّ توجیهاً بالحمل الشائع وإن لم یکن فیه ما یدلّ وضعاً علی التخاطب .
والإشکال فی هذا المقام : استلزام التعمیم للغائب والمعدوم لزومَ مخاطبة المعدوم والغائب .
وأمّا حلّه فربّما یتمسّک هنا أیضاً بالقضیة الحقیقیة ، لکن ستعرف ضعفه .
والتحقیق فی دفع الإشکال عن هذا القسم : أنّ الخطابات القرآنیة لیست خطابات شفاهیة لفظیة ؛ بحیث یقابل فیها الشخص الشخص ، بل کخطابات کتبیة ، ومثلها القوانین العرفیة الدائرة بین العقلاء .
أمّا کون الثانی من هذا القبیل : فواضح ؛ فلأنّ المقنّن فی القوانین العرفیة والسیاسیة ـ سواء کان شخصاً واحداً أم هیئة وجماعة ـ بعدما أحکمها وأثبتها
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 225
یتشبّث فی إبلاغه وإعلانه بالنشر فی الکتب والجرائد وسائر الآلات المستحدثة فی هذه الأزمنة ؛ من المذیاع وغیره .
وحینئذٍ : فالفرد الحائز للشرائط من الشعب المأمور بالعمل بها إذا عطف نظره إلی کتاب القانون لأهل وطنه لا یشکّ أنّه مأمور بالعمل به ؛ وإن تأخّر عن زمان الجعل بکثیر ، بل لم یکن موجوداً فی ظرف الوضع ، ولکن جعل الحکم بصورة الخطاب علی الناس فی قول القائل «یا أیّها الناس» کافٍ فی شموله له ؛ وإن وجد بعد زمن الخطاب بمدّة متراخیة .
وما ذلک إلاّ لأجل کون الخطاب کتبیاً أو شبیهاً بذلک ، وهو لیس بخطاب لفظی حقیقة ، ولا یحتاج إلی مخاطب حاضر .
وأمّا الأوّل ـ أعنی خطابات الذکر الحکیم ـ فلأنّ مشکلة الوحی وإن کانت عویصة عظیمة قلّما یتّفق لبشر أن یکشف مغزاه لکنّا مهما شککنا فی شیء لا نشکّ فی أنّ خطابات الله تعالی النازلة إلی رسوله لم تکن متوجّهة إلی العباد ـ لا إلی الحاضرین فی مجلس الوحی ولا الغائبین عنه ، ولا غیرهم ـ کمخاطبة بعضنا بعضاً ؛ ضرورة أنّ الوحی بنصّ الذکر الحکیم ـ أعنی قولـه سبحانه : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِینُ * عَلی قَلبِکَ لِتَکُونَ مِنَ المُنْذِرِینَ» ـ إنّما نزل علی شخص رسوله صلی الله علیه و آله وسلم وکلام الله وخطاباته لم تکن مسموعة لأحد من الاُمّة .
بل یمکن أن یقال بعدم وصول خطاب لفظی منه تعالی بلا واسطة إلی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 226
رسوله صلی الله علیه و آله وسلم غالباً أیضاً ؛ لأنّ الظاهـر مـن الآیات والـروایات : أنّ نزول الوحـی کان بتوسّط أمین الـوحی جبریل ، وهـو کان حاکیاً لتلک الخطابات منه سبحانـه إلی رسوله صلی الله علیه و آله وسلم .
فلیس هنا خطاب لفظی حقیقی ؛ إذ النبی الأکرم صلی الله علیه و آله وسلم لم یکن طرف المخاطبـة لـه تعالی ، ولا المؤمنون المقتفون بـه ، بل حال الحاضرین فی زمـن النبی ومجلس الوحـی کحال غیرهم ؛ مـن حیث عدم توجّـه خطاب لفظی مـن الله سبحانه إلیهم .
وبالجملة : لو تأمّلت فی أنّ خطابات الله وکلامه لم تکن مسموعة لأحد من الاُمّة ، وأنّ الوحی کان بتوسّط أمینه بنحو الحکایة لرسوله صلی الله علیه و آله وسلم تعرف عدم خطاب لفظی من الله ؛ لا إلی نبیّه ولا إلی عباده ، بل تلک الخطابات القرآنیة کسائر الأحکام الذی لم یصدر بألفاظ الخطاب من غیر فرق بینهما ، وتکون أشبه بالخطابات الکتابیة ، مثل قول القائل «فاعلموا إخوانی» .
وحینئذٍ بما أنّ تلک الخطابات المحکیة باقیة إلی زماننا ، ونسبة الأوّلین والآخرین إلیها سواء فلا محالة یکون اختصاصها إلیهم بلا وجه ، بل اختصاصها إلیهم ثمّ تعمیمها إلی غیرهـم لغو ؛ إذ لا وجـه لهذا الجعل الثانوی مـن قولـه مثلاً «إنّ حکمی علی الآخرین حکمی علی الأوّلین» بعد إمکان الشمول للجمیع علی نسق واحد .
بل عدم الدلیل علی الاختصاص کافٍ فی بطلانه بعد کون العنوان عامّاً أو مطلقاً ، وبعد کون الخطاب الکتبی إلی کلّ من یراه أمراً متعارفاً ، کما هو المعمول من أصحاب التألیف من الخطابات الکثیرة .
فظهر : أنّ خطابات القرآن کغیرها فی أنّها لیست خطابات حقیقیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 227
وأمّا التخلّص عن هذا الإشکال بالتمسّک بالقضیة الحقیقیة فضعیف جدّاً ؛ لأنّ الحکم فی القضیة الحقیقیة علی عنوان للأفراد قابل للصدق علی کلّ مصداق موجود فعلاً أو ما یوجد فی القابل ، ومثل ذلک لا یتصوّر فی الخطاب ؛ إذ لا یمکن أن یتعلّق الخطاب بعنوان أو أفراد له ؛ ولو لم تکن حاضرة فی مجلس التخاطب . والخطاب نحو توجّه تکوینی نحو المخاطب لغرض التفهیم ، ومثل ذلک یتوقّف علی حاضر ملتفت ، والمعدوم والغائب لیسا حاضرین ولا ملتفتین .
وبالجملة : ما سلکناه من التمسّک بالقضیة الحقیقیة فی غیر الخطابات لا یجری فیها ؛ إذ الخطاب الحقیقی یستلزم وجوداً للمخاطب ووجوداً واقعیاً للمخاطب . والقول بأنّ الخطاب متوجّه إلی العنوان کجعل الحکم علیه مغالطة محضة ؛ لأنّ تصوّر الخطاب بالحمل الشائع یأبی عن التفوّه بذلک .
ولو اشتهی أحد إصلاح هذا القسم من هذا الطریق أیضاً فلابدّ أن یتمسّک فی إثبات شمول الخطاب للمعدوم والغائب بأنّ المعدوم نزّل منزلة الموجود ، أو غیر الشاعر منزلة الشاعر الملتفت ، کما هو المشهور فی مخاطبة الجمادات ، کما فی الشعر :
أیا شجر الخابور مالک مورقاً
کأنّک لم تجزع علی ابن طریف
وفی قول القائل :
ألا أیّها اللیل الطویل ألا انجلی
بصبح ، وما الإصباح منک بأمثل
مع أنّک قد عرفت : أنّ هذا التنزیل لیس لازم القضیة الحقیقیة ؛ وإن زعمه بعض الأعاظم . فلا وجه لارتکاب التکلّف والتعسّف بالتمسّک بالقضیة الحقیقیة ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 228
ثمّ الالتزام بتکلّف آخر من حدیث التنزیل ، وهی بذاتها غیر محتاج إلیها .
والحاصل : أنّ الإنشائیات بنحو الخطاب لیست من القضایا الحقیقیة ؛ لأنّ الخطاب العمومی مثل «یا أ یُّها الَّذِینَ آمَنُوا» لا یمکن أن یتوجّه بنحو الخطاب الحقیقی إلی أفراد العنوان ؛ حتّی یکون کلّ فرد مخاطباً بالخطاب اللفظی فی ظرف وجوده ؛ لأنّ أدوات النداء وضعت لإیجاد النداء لا لمفهومه ، والمخاطبة نحو توجّه إلی المخاطب ؛ توجّهاً جزئیاً مشخّصاً ، وهو یتوقّف علی وجود المخاطب الملتفت .
فلو التزمنا علی خلاف المختار ، وقلنا : إنّ خطابات الذکر الحکیم متوجّهة نحو المخلوق ، وإنّ مَثَل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مثل شجرة موسی علیه السلام ، فلا محیص ـ حینئذٍ ـ فی شمول الخطابات إلی غیر الحاضرین ؛ من الالتزام بتنزیل المعدوم وغیر الحاضر منزلة الموجود والحاضر ، ولکن لا یصار إلیه إلاّ بدلیل خارج بعد عدم کونه لازم القضیة الحقیقیة ، فتدبّر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 229