الاستدلال بالعلم الإجمالی علی لزوم الفحص
وأمّـا علی القول بأنّ المستند هـو العلم الإجمالی فربّما یقال فی تقریـره بأنّا نعلم إجمالاً أنّ هنا مخصّصات ومقیّدات یلزم العمل بها ، فلا محیص عـن الفحص عنها .
هذا ، واستشکل علیه بأمرین :
الأوّل : أنّ هذا العلم الإجمالی لا ینحلّ ؛ وإن بلغ الفحص غایته ؛ لأنّ المخصّصات المعلوم وجودها لیست منحصرة فیما بأیدینا من الکتب ، بل هی أکثر من ذلک ؛ لأنّ الجوامع الأوّلیة مفقودة ، والاُصول المدوّنة فی عهد الصادقین کانت تحتوی أخباراً وأحکاماً علی خلاف العمومات ، ولازم ذلک أن لا ینحلّ بالفحص فیما بأیدینا من الکتب .
واُجیب عنه : بأنّ العلم الإجمالی لا مدرک له سوی ما بأیدینا من الکتب . ویؤیّده : أنّ ذلک مجرّد احتمال ؛ فإنّه لا علم وجدانی لنا بوجود اُصول ضایعة غیر واصلة ؛ فضلاً عن اشتمالها علی مخصّصات یوجب العمل علیها علی فرض العثور . بل یحتمل أن یکون المفقود علی فرض قبوله غیر الأحکام .
ولـو سلّمنا کونـه أحکامـاً فمـن أین حصل العلم بأنّها غیر ما بأیـدینا ؟ ولـو سلّم فمن أیـن حصل العلم لنا بوجـوب العمل بها لـو عثرنا بها ؟ ولعلّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 214
أسنادها کانت ضعیفة غیر صحیحة .
الثانی : أنّ العلم الإجمالی بورود مخصّصات فیما بأیدینا من الکتب وإن اقتضی عدم جریان الاُصول اللفظیة قبل الفحص إلاّ أنّه بعد الفحص والعثور علی المقدار المتیقّن منها یوجب انحلاله ، ومقتضاه جریانها فی سائر الموارد بلا فحص ، مع أنّهم یوجبون الفحص عند کلّ شبهة .
وأجاب عنه بعض أهل التحقیق : بأنّ المقدار المتیقّن بعدما کان مردّداً بین محتملات منتشرات فی أبواب الفقه یصیر جمیع ما شکّ فیه فی تمام الأبواب طرف هذا العلم ، فیمنع عن الأخذ به قبل فحصه ، ولا یفید الظفر بمقدار المعلوم ؛ إذ هذه العلوم نظیر العلوم الجدیدة الحاصلة بعد العلم الإجمالی ، ولا یکون سبباً لانحلالها ، انتهی .
قلت : مجرّد کون أطراف العلم منتشرة لا یفید شیئاً ، وقیاسه بالعلم الجدید قیاس مع الفارق ، وذلک لأنّ قوله : إنّ المقدار المتیقّن کان مردّداً بین محتملات منتشرات . . . إلی آخره یشعر بأنّ هنا علمین : علماً بأصل وجود المخصّصات بمقدار محدود ، وعلماً بانتشارها بین الأبواب .
فحینئذٍ : فالعثور بالمقدار المتیقّن إن کان بعد الفحص فی جمیع الأبواب فلا محیص عن الانحلال ـ ولو حکماً ـ لاحتمال انطباق ما هو المعلوم إجمالاً علی المعلوم تفصیلاً من الأوّل ، وبعد هذا الاحتمال لا علم لنا أصلاً .
وإن کان العثور علیه لأجل الفحص فی بعض الأبواب دون بعض فلا محالة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 215
یحصل القطع بأنّ أحد العلمین خطأ : إمّا علمه بانحصار المخصّص فی المقدار المحدود المتیقّن ، فیتجدّد له علم آخر بأنّ المخصّص أزید ممّا أحصاه أوّلاً ولکنّه خلاف الفرض ؛ لأنّ الفرض أنّه لا علم له إلاّ بالمقدار المحدود الذی عدّده أوّلاً مطلقاً ؛ قبل الفحص وبعده . وإمّا علمه بأنّ المخصّصات منتشرة فی جمیع الأبواب فلا محیص عن الانحلال .
هذا ، وقد أجاب عنه بعض الأعاظم بما ملخّصه : إنّ المعلوم بالإجمال تارة یکون مرسلاً غیر معلّم بعلامة ، واُخری معلّماً بعلامة .
وانحلال العلم الإجمالی بالعثور بالمقدار المتیقّن إنّما یکون فی القسم الأوّل ؛ لأنّ منشأ العلم فیه هو ضمّ قضیة مشکوکة إلی قضیة متیقّنة ، کما إذا علم بأنّه مدیون لزید ، وتردّد الدین بین أن یکون خمسة دنانیر أو عشرة .
وأمّا القسم الثانی فلا ینحلّ به ، بل حاله حال دوران الأمر بین المتباینین ، ولا انحلال فی مثله ؛ لعدم الرجوع إلی العلم بالأقلّ والشکّ فی الأکثر من أوّل الأمر ، بل یتعلّق العلم بجمیع الأطراف ؛ بحیث لو کان الأکثر واجباً لکان ممّا تعلّق به العلم وتنجّز بسببه ، ولیس الأکثر مشکوکاً فیه من أوّل الأمر ، وذلک کما إذا علمت بأنّک مدیون لزید بما فی الدفتر ، وتردّد الدین بین خمسة وعشرة ، فلو کان دین زید عشرة فقد تعلّق العلم به أیضاً .
والمقام من هذا القبیل ؛ لأنّ العلم تعلّق بأنّ فی الکتب التی بأیدینا مقیّدات ومخصّصات ، فکلّ مخصّص ـ علی فرض وجوده فیما بأیدینا من الکتب ـ قد أصابه العلم ، ومثل هذا لا ینحلّ بالعثور علی المقدار المتیقّن ، انتهی کلامه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 216
ولا یخفی علیک : أنّه غیر تامّ ؛ لأنّ العلم بالإجمال :
تارة : یکون نفسه دائراً بین الأقلّ والأکثر ، کما مثّله قدس سره ، وحقیقته ما عرفت من أنّه مرکّب من قضیة علمیة وقضیة شکّیة . فالإجمال بدوی یرتفع بأدنی التفات .
واُخری : هذا الفرض لکن تعلّق العلم الإجمالی بعنوان غیر ذی أثر ، کما إذا علم بأنّ الدنانیر الموجودة فی کیس زید قد تلفت ، وهی مردّدة بین الخمسة والعشرة ؛ فإنّ تعلّقه مع هذا العنوان لا یوجب تنجّز الأکثر ، بل لابدّ من لحاظ ما هو منشأ أثر .
ومع هذا الحال لو دار أمره بین الأقلّ والأکثر ینحلّ علمه بلا ریب ، وإلاّ فلا یمکن إثبات الانحلال فی مورد من الموارد ؛ إذ ما من معلوم إجمالی إلاّ وقد یقترن بعدّة عنوانات ولوازم ، قلّما تنفکّ عنه مثل ما فی الکیس ، ما فی الدار ، ما أقرضنی إلی غیر ذلک .
وما ادّعاه قدس سره من أنّ العلم إذا تعلّق بما فی الدفتر یوجب إصابة العلم بالأکثر لم یعلم له وجه ؛ لأنّ تعلّق علمه بما فی الدفتر نظیر تعلّق علمه بأنّ ما فی الکیس صار مضموناً علیه ـ قلّ أو کثر ـ فکما أنّ مجرّد ذلک لا یوجب إصابة العلم بالأکثر ، بل لا یزید عن الدوران بین الأقلّ والأکثر بالضرورة ، فهکذا علمه بأنّه مدیون بما فی الدفتر المردّد بین الأقلّ والأکثر . وعلیه لا یعقل صیرورة الأکثر منجّزاً به ، ولا متعلّقاً للعلم .
وکیف کان : فالمقام نظیر ما مثّله من کونه مدیوناً بما فی الدفتر ؛ لأنّ الکون فی الکتب ـ کالکون فی الـدفتر ـ لا یترتّب علیه أثـر ؛ إذ لیس هـذا الکون موضوعاً للحکم ولا جزء موضوع ، وما هو موضوع له للأثر نفس المخصّصات ، والکتب ظرفها بلا دخالة فی التأثیر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 217
بل یمکن أن یقال : إنّ العنوان المتعلّق للعلم لو کان ذا أثر ـ مثل عنوان الموطوء ـ ولکن کان منحلاًّ إلی التکالیف الدائرة بین الأقلّ والأکثر فهو أیضاً لا یوجب تنجیز غیر ما هو المتیقّن ـ أی الأقلّ ـ نعم لو کان العنوان بسیطاً وکان الأقلّ والأکثر من محصّلاته وجب الاحتیاط ، لکنّه أجنبی عمّا نحن فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 218