التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص المنفصل اللفظی

التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص المنفصل اللفظی

‏ ‏

‏محطّ البحث فی الاشتباه المصداقی لأجل الشبهة الخارجیة إنّما هو فیما إذا‏‎ ‎‏اُحرز کون فرد مصداقاً لعنوان العامّ ؛ أعنی العالم قطعاً ، ولکن شکّ فی انطباق عنوان‏‎ ‎‏المخصّص ؛ أعنی الفاسق علیه .‏

‏وبعبارة اُخـری : البحث فیما إذا خصّ العامّ ولم یتعنون ظهور العامّ بقید زائـد‏‎ ‎‏سوی نفسه ، لا فی تقیید المطلق الـذی یوجب تقییده بقید زائـد ، سوی ما اُخـذ فی‏‎ ‎‏لسان الدلیل .‏

وبما ذکرنا یظهر‏ الخلط فیما أفاده بعض الأعاظم ؛ حیث قال : إنّ تمام‏‎ ‎‏الموضوع فی العامّ قبل التخصیص هو طبیعة العالم ، وإذا ورد المخصّص یکشف عن‏‎ ‎‏أنّ العالم بعض الموضوع وبعضه الآخر هو العادل ، فیکون الموضوع واقعاً هو العالم‏‎ ‎‏العادل . فالتمسّک فی الشبهة المصداقیة للخاصّ یرجع إلی التمسّک فیها لنفس العامّ ،‏‎ ‎‏من غیر فرق بین القضایا الحقیقیة وغیرها‏‎[1]‎‏ .‏

وجه الخلط :‏ أنّ ما أفاده صحیح فی المطلق والمقیّد ، وأمّا العامّ فالحکم فیه‏‎ ‎‏متعلّق بأفراد مدخول أداته ، لا علی عنوان الطبیعة ، والمخصّص یخرج طائفة من‏‎ ‎‏أفراد العامّ ، کأفراد الفسّاق منهم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 179
‏وما ربّما یتکرّر فی کلامه من أنّ الحکم فی القضایا الحقیقیة علی العنوان بما‏‎ ‎‏أنّه مرآة لما ینطبق‏‎[2]‎‏ علیه غیر تامّ ؛ لأنّ العنوان لا یمکن أن یکون مرآة‏‎ ‎‏للخصوصیات الفردیة .‏

‏مع أنّ لازم ما ذکره أن یکون الأفراد موضوعاً للحکم ؛ لأنّ المحکوم علیه‏‎ ‎‏هو المرئی دون المرآة ، فلا یصحّ قوله : إنّ تمام الموضوع فی العامّ قبل التخصیص‏‎ ‎‏هو طبیعة العالم . . . إلی آخره . بل التحقیق کما تقدّم‏‎[3]‎‏ : أنّ العنوان لم یکن مرآة إلاّ‏‎ ‎‏لنفس الطبیعة الموضوع لها ، وأداة العموم تفید أفرادها ، والقضیة الحقیقیة متعرّضة‏‎ ‎‏للأفراد .‏

فتحصّل :‏ أنّ الکلام إنّما هو فی العامّ المخصّص ، لا المطلق المقیّد .‏

وکیف کان :‏ فقد استدلّ لجواز التمسّک بأنّ العامّ بعمومه شامل لکلّ فرد من‏‎ ‎‏الطبیعة وحجّة فیه ، والفرد المشکوک فیه لا یکون الخاصّ حجّة بالنسبة إلیه ؛ للشکّ‏‎ ‎‏فی فردیته ، فمع القطع بفردیته للعامّ والشکّ فی فردیته للخاصّ یکون رفع الید عن‏‎ ‎‏العامّ رفع الید عن الحجّة بغیر حجّة‏‎[4]‎‏ .‏

والجواب :‏ أنّ مجرّد ظهور اللفظ وجریان أصالة الحقیقة لا یوجب تمامیة‏‎ ‎‏الاحتجاج ما لم تحرز أصالة الجدّ .‏

‏توضیحه : أنّ صحّة الاحتجاج لا تتمّ إلاّ بعد أن یسلّم اُمور : من إحراز‏‎ ‎‏ظهوره ، وعدم إجماله مفهوماً ، وعدم قیام قرینة علی خلافه ؛ حتّی یختتم الأمر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 180
‏بإحراز أنّ المراد استعمالاً هو المراد جدّاً . ولذلک لا یمکن الاحتجاج بکلام من‏‎ ‎‏دأبه وعادته الدعابة ؛ وإن اُحرز ظهوره وجرت أصالة الحقیقة ؛ لعدم جریان أصالة‏‎ ‎‏الجدّ مع أنّ دیدنه علی خلافه .‏

‏فعلیه : ما مرّ مـن أصالـة التطابق بین الإرادتین إنّما هـو فیما إذا شکّ فی‏‎ ‎‏أصل التخصیص ، وأنّ هذا الفرد بخصوصه أو بعنوان آخر هل خـرج عن حکم‏‎ ‎‏العامّ أو لا ؟ وأمّا إذا علم خروج عـدّة أفراد بعنوان معیّن ، وشکّ فی أنّ هـذا العنوان‏‎ ‎‏هل هـو مصداق جدّی لهذا العنوان أو ذاک العنوان فلا یجری أصلاً ، ولا یرتفع به‏‎ ‎‏الشکّ عندهم .‏

وبالجملة :‏ إذا ورد المخصّص نستکشف عن أنّ إنشائه فی مورد التخصیص‏‎ ‎‏لم یکن بنحو الجدّ ، ویدور أمر المشتبه بین کونه مصداقاً للمخصّص حتّی یکون‏‎ ‎‏تحت الإرادة الجدّیة لحکم المخصّص ، وبین عدم کونه مصداقاً له حتّی یکون تحت‏‎ ‎‏الإرادة الجدّیة لحکم العامّ المخصّص . ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد‏‎ ‎‏الطرفین ؛ فإنّها کالشبهة المصداقیة لأصالة الجدّ بالنسبة إلی العامّ والخاصّ کلیهما .‏

‏ولعلّه إلی ما ذکرنا یرجع ما أفاده الشیخ الأعظم‏‎[5]‎‏ والمحقّق الخراسانی‏‎[6]‎‏ ،‏‎ ‎‏قدّس الله روحهما .‏

نعم ،‏ بعض أهل التحقیق فسّر کلام الشیخ بما لا یخلو عن إشکال ، قال فی‏‎ ‎‏«مقالاته» : الذی ینبغی أن یقال : إنّ الحجّیة بعدما کانت منحصرة فی الظهور‏‎ ‎‏التصدیقی المبنی علی کون المتکلّم فی مقام الإفادة والاستفادة فإنّما یتحقّق هذا‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 181
‏المعنی فی فرض تعلّق قصد المتکلّم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفات المتکلّم‏‎ ‎‏بما تعلّق به مرامـه ، وإلاّ فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه کیف یتعلّق‏‎ ‎‏قصده بلفظـه علی کشفه وإبرازه ؟ ومن المعلوم : أنّ الشبهات الموضوعیة طرّاً من‏‎ ‎‏هذا القبیل .‏

‏ولقد أجاد شیخنا الأعظم فیما أفاد فی وجه المنع بمثل هذا البیان ، ومرجع‏‎ ‎‏هذا الوجه إلی منع کون المولی فی مقام إفادة المراد بالنسبة إلی ما کان هو بنفسه‏‎ ‎‏مشتبهاً فیـه ، فلا یکون الظهور حینئذٍ تصدیقیاً ؛ کی یکون واجداً لشرائط‏‎ ‎‏الحجّیة‏‎[7]‎‏ ، انتهی .‏

ولا یخفی :‏ أنّـه لا یلزم علی المتکلّم فی الإخبار عـن موضوع واقعی‏‎ ‎‏الفحص عن کلّ فردٍ فردٍ حتّی یعلم مقطوعه ومشکوکه ، بل ما یلزم علیه فی جعل‏‎ ‎‏الحکم علی عنوان کلّیاً إحراز أنّ کلّ فرد واقعی منه محکوم بهذا الحکم ، کما فی‏‎ ‎‏قولک : «النار حارّة» ، وأمّا تشخیص کـون شیء ناراً فلیس متعلّقاً بمرامـه ولا‏‎ ‎‏مربوطاً بمقامه .‏

وببیان أوضح :‏ أنّ الحجّیة وإن کانت منحصرة فی الظاهر الذی صدر من‏‎ ‎‏المتکلّم لأجل الإفادة ، ولابدّ له أن یکون علی تیقّن فیما تعلّق به مرامه ، لکن ذلک‏‎ ‎‏فی مقام جعل الکبریات لا فی تشخیص الصغریات .‏

‏فلو قال المولی «أکرم کلّ عالم» فالذی لابدّ له إنّما هو تشخیص أنّ کلّ فرد‏‎ ‎‏من العلماء فیه ملاک الوجوب ؛ وإن اشتبه علیه الأفراد .‏

‏ولو قال بعد ذلک «لا تکرم الفسّاق من العلماء» لابدّ له من تشخیص کون‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 182
‏ملاک الوجوب فی عدولهم . وأمّا کون فرد عادلاً فی الخارج أو لا فلیس داخلاً فی‏‎ ‎‏مرامه ؛ حتّی یکون بصدد بیانه .‏

ویرشدک إلیه :‏ أنّـه لو صحّ ما أفاده : مـن أنّ المولی لم یکن بصدد إفادة‏‎ ‎‏المراد بالنسبة إلی ما کان بنفسه مشتبهاً فیه ، لابدّ مـن التزامه بعدم وجـوب إکرام‏‎ ‎‏من اشتبه عند المولی أنّه عادل أو لا ولکن العبد أحرز کونه عالماً عادلاً ، مع أنّ‏‎ ‎‏العبد لا یعدّ معذوراً فی ترک إکرامه ؛ وإن اعتذر بأنّ المولی لم یکن فی مقام البیان‏‎ ‎‏بالنسبة إلی المشکوک .‏

وأمّا‏ نسبة ما أفاده إلی الشیخ الأعظم ففی غیر محلّه ؛ فإنّ کلامه فی تقریراته‏‎ ‎‏آبٍ عن ذلک ، وملخّصه : أنّ العامّ الواقع فی کلام المتکلّم غیر صالح لرفع الشبهة‏‎ ‎‏الموضوعیة التی هو بنفسه أیضاً قد یکون مثل العبد فیها ، فالعامّ مرجع لرفع الشبهة‏‎ ‎‏الحکمیة لا الموضوعیة‏‎[8]‎‏ .‏

‏وأنت تری : أنّ کلامه آبٍ عمّا نسب إلیه ، بل یرجع إلی ما فصّلناه‏‎ ‎‏وأوضحناه ، ولولا تشویش عبائر القائل وإغلاقها لجاز حملها علی ما أفاده الشیخ‏‎ ‎‏الأعظم ‏‏قدس سره‏‏ ، کما قد یظهر من ذیل کلامه .‏

ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة‏ ـ أعلی الله مقامه ـ نقل تقریباً لجواز التمسّک عن المحقّق‏‎ ‎‏النهاوندی ـ طیّب الله رمسه‏‎[9]‎‏ ـ وهو : أنّ قول القائل «أکرم العلماء» یدلّ بعمومه‏‎ ‎‏الأفرادی علی وجوب إکرام کلّ واحد من العلماء ، ویدلّ بإطلاقه علی سرایة الحکم‏‎ ‎‏إلی کلّ حالة من الحالات ، ومن جملة حالات الموضوع کونه مشکوک الفسق‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 183
‏والعدالة ، وقد علم من قوله «لا تکرم الفسّاق من العلماء» خروج معلوم الفسق‏‎ ‎‏منهم ، فمقتضی أصالة العموم والإطلاق بقاء المشکوک تحته‏‎[10]‎‏ ، انتهی .‏

والجواب أوّلاً :‏ أنّ ما فسّر به الإطلاق غیر صحیح ؛ لأنّ الإطلاق لیس إلاّ‏‎ ‎‏کون الشیء تمام الموضوع کما تقدّم‏‎[11]‎‏ ، لا أخذ جمیع الحالات والعناوین فی‏‎ ‎‏الموضوع ، فإنّ ذلک معنی العموم . فما اصطلح به من الإطلاق الأحوالی باطل‏‎ ‎‏من رأس .‏

وثانیاً :‏ أنّ البحث إنّما هو فی العامّ المتضمّن لبیان الحکم الواقعی ،‏‎ ‎‏والمفروض أنّ الموضوع له إنّما هو العالم بقید کونه غیر الفاسق لبّاً ، فکیف یحکم‏‎ ‎‏بوجوب إکرام المشتبه مع کونه فاسقاً واقعیاً ؟‏

‏وما ذکره مـن أنّ العامّ وإن کان غیر شامل له بإطلاقـه الأفرادی إلاّ أنّـه‏‎ ‎‏شامل له بإطلاقه الأحوالی ـ بمعنی أنّ العالم واجب الإکرام فی جمیع الحالات ؛‏‎ ‎‏ومنها کونه مشکوک الفسق ـ یستلزم اجتماع حکمین فی موضوع واحد بعنوان‏‎ ‎‏واحد ؛ لأنّ ما ذکره من الإطلاق الأحوالی موجـود فی الخاصّ أیضاً ؛ فإنّ قولـه‏‎ ‎‏«لا تکرم الفسّاق» شامل لمشتبه الفسق ومعلومـه إذا کان فاسقاً واقعیاً ، فهذا الفرد‏‎ ‎‏بما أنّه مشتبه الفسق واجب الإکرام ومحرّمه ، ولو التجأ ‏‏قدس سره‏‏ إلی أنّ العامّ متکفّل‏‎ ‎‏للحکم الواقعی والظاهری یلزمه أخذ الشکّ فی الحکم فی جانب موضوع نفس‏‎ ‎‏ذلک الحکم .‏

وفیه‏ ـ مضافاً إلی أن أخذ الشکّ فی الموضوع لا یصحّح الحکم الظاهری ـ‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 184
‏أنّ مجرّد أخذه فیه لا یرفع الإشکال ؛ إذ کیف یمکن تکفّل العامّ بجعل واحد للحکم‏‎ ‎‏الواقعی علی الموضوع الواقعی ، وللحکم الظاهری علی مشتبه الحکم ، مع ترتّبهما ؟‏‎ ‎‏وهل هذا إلاّ الجمع بین عدم لحاظ الشکّ موضوعاً ولحاظه کذلک ؟ !‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 185

  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 525 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 171 و 186 و 525 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 155 .
  • )) اُنظر کفایة الاُصول : 258 .
  • )) مطارح الأنظار : 193 / السطر3 .
  • )) کفایة الاُصول : 259 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 443 .
  • )) مطارح الأنظار : 193 / السطر3 .
  • )) تشریح الاُصول : 261 / السطر7 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 216 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 159 و 160 .