التمسّک بالعامّ فی الشبهة المصداقیة للمخصّص المنفصل اللفظی
محطّ البحث فی الاشتباه المصداقی لأجل الشبهة الخارجیة إنّما هو فیما إذا اُحرز کون فرد مصداقاً لعنوان العامّ ؛ أعنی العالم قطعاً ، ولکن شکّ فی انطباق عنوان المخصّص ؛ أعنی الفاسق علیه .
وبعبارة اُخـری : البحث فیما إذا خصّ العامّ ولم یتعنون ظهور العامّ بقید زائـد سوی نفسه ، لا فی تقیید المطلق الـذی یوجب تقییده بقید زائـد ، سوی ما اُخـذ فی لسان الدلیل .
وبما ذکرنا یظهر الخلط فیما أفاده بعض الأعاظم ؛ حیث قال : إنّ تمام الموضوع فی العامّ قبل التخصیص هو طبیعة العالم ، وإذا ورد المخصّص یکشف عن أنّ العالم بعض الموضوع وبعضه الآخر هو العادل ، فیکون الموضوع واقعاً هو العالم العادل . فالتمسّک فی الشبهة المصداقیة للخاصّ یرجع إلی التمسّک فیها لنفس العامّ ، من غیر فرق بین القضایا الحقیقیة وغیرها .
وجه الخلط : أنّ ما أفاده صحیح فی المطلق والمقیّد ، وأمّا العامّ فالحکم فیه متعلّق بأفراد مدخول أداته ، لا علی عنوان الطبیعة ، والمخصّص یخرج طائفة من أفراد العامّ ، کأفراد الفسّاق منهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 179
وما ربّما یتکرّر فی کلامه من أنّ الحکم فی القضایا الحقیقیة علی العنوان بما أنّه مرآة لما ینطبق علیه غیر تامّ ؛ لأنّ العنوان لا یمکن أن یکون مرآة للخصوصیات الفردیة .
مع أنّ لازم ما ذکره أن یکون الأفراد موضوعاً للحکم ؛ لأنّ المحکوم علیه هو المرئی دون المرآة ، فلا یصحّ قوله : إنّ تمام الموضوع فی العامّ قبل التخصیص هو طبیعة العالم . . . إلی آخره . بل التحقیق کما تقدّم : أنّ العنوان لم یکن مرآة إلاّ لنفس الطبیعة الموضوع لها ، وأداة العموم تفید أفرادها ، والقضیة الحقیقیة متعرّضة للأفراد .
فتحصّل : أنّ الکلام إنّما هو فی العامّ المخصّص ، لا المطلق المقیّد .
وکیف کان : فقد استدلّ لجواز التمسّک بأنّ العامّ بعمومه شامل لکلّ فرد من الطبیعة وحجّة فیه ، والفرد المشکوک فیه لا یکون الخاصّ حجّة بالنسبة إلیه ؛ للشکّ فی فردیته ، فمع القطع بفردیته للعامّ والشکّ فی فردیته للخاصّ یکون رفع الید عن العامّ رفع الید عن الحجّة بغیر حجّة .
والجواب : أنّ مجرّد ظهور اللفظ وجریان أصالة الحقیقة لا یوجب تمامیة الاحتجاج ما لم تحرز أصالة الجدّ .
توضیحه : أنّ صحّة الاحتجاج لا تتمّ إلاّ بعد أن یسلّم اُمور : من إحراز ظهوره ، وعدم إجماله مفهوماً ، وعدم قیام قرینة علی خلافه ؛ حتّی یختتم الأمر
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 180
بإحراز أنّ المراد استعمالاً هو المراد جدّاً . ولذلک لا یمکن الاحتجاج بکلام من دأبه وعادته الدعابة ؛ وإن اُحرز ظهوره وجرت أصالة الحقیقة ؛ لعدم جریان أصالة الجدّ مع أنّ دیدنه علی خلافه .
فعلیه : ما مرّ مـن أصالـة التطابق بین الإرادتین إنّما هـو فیما إذا شکّ فی أصل التخصیص ، وأنّ هذا الفرد بخصوصه أو بعنوان آخر هل خـرج عن حکم العامّ أو لا ؟ وأمّا إذا علم خروج عـدّة أفراد بعنوان معیّن ، وشکّ فی أنّ هـذا العنوان هل هـو مصداق جدّی لهذا العنوان أو ذاک العنوان فلا یجری أصلاً ، ولا یرتفع به الشکّ عندهم .
وبالجملة : إذا ورد المخصّص نستکشف عن أنّ إنشائه فی مورد التخصیص لم یکن بنحو الجدّ ، ویدور أمر المشتبه بین کونه مصداقاً للمخصّص حتّی یکون تحت الإرادة الجدّیة لحکم المخصّص ، وبین عدم کونه مصداقاً له حتّی یکون تحت الإرادة الجدّیة لحکم العامّ المخصّص . ومع هذه الشبهة لا أصل لإحراز أحد الطرفین ؛ فإنّها کالشبهة المصداقیة لأصالة الجدّ بالنسبة إلی العامّ والخاصّ کلیهما .
ولعلّه إلی ما ذکرنا یرجع ما أفاده الشیخ الأعظم والمحقّق الخراسانی ، قدّس الله روحهما .
نعم ، بعض أهل التحقیق فسّر کلام الشیخ بما لا یخلو عن إشکال ، قال فی «مقالاته» : الذی ینبغی أن یقال : إنّ الحجّیة بعدما کانت منحصرة فی الظهور التصدیقی المبنی علی کون المتکلّم فی مقام الإفادة والاستفادة فإنّما یتحقّق هذا
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 181
المعنی فی فرض تعلّق قصد المتکلّم بإبراز مرامه باللفظ ، وهو فرع التفات المتکلّم بما تعلّق به مرامـه ، وإلاّ فمع جهله به واحتمال خروجه عن مرامه کیف یتعلّق قصده بلفظـه علی کشفه وإبرازه ؟ ومن المعلوم : أنّ الشبهات الموضوعیة طرّاً من هذا القبیل .
ولقد أجاد شیخنا الأعظم فیما أفاد فی وجه المنع بمثل هذا البیان ، ومرجع هذا الوجه إلی منع کون المولی فی مقام إفادة المراد بالنسبة إلی ما کان هو بنفسه مشتبهاً فیـه ، فلا یکون الظهور حینئذٍ تصدیقیاً ؛ کی یکون واجداً لشرائط الحجّیة ، انتهی .
ولا یخفی : أنّـه لا یلزم علی المتکلّم فی الإخبار عـن موضوع واقعی الفحص عن کلّ فردٍ فردٍ حتّی یعلم مقطوعه ومشکوکه ، بل ما یلزم علیه فی جعل الحکم علی عنوان کلّیاً إحراز أنّ کلّ فرد واقعی منه محکوم بهذا الحکم ، کما فی قولک : «النار حارّة» ، وأمّا تشخیص کـون شیء ناراً فلیس متعلّقاً بمرامـه ولا مربوطاً بمقامه .
وببیان أوضح : أنّ الحجّیة وإن کانت منحصرة فی الظاهر الذی صدر من المتکلّم لأجل الإفادة ، ولابدّ له أن یکون علی تیقّن فیما تعلّق به مرامه ، لکن ذلک فی مقام جعل الکبریات لا فی تشخیص الصغریات .
فلو قال المولی «أکرم کلّ عالم» فالذی لابدّ له إنّما هو تشخیص أنّ کلّ فرد من العلماء فیه ملاک الوجوب ؛ وإن اشتبه علیه الأفراد .
ولو قال بعد ذلک «لا تکرم الفسّاق من العلماء» لابدّ له من تشخیص کون
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 182
ملاک الوجوب فی عدولهم . وأمّا کون فرد عادلاً فی الخارج أو لا فلیس داخلاً فی مرامه ؛ حتّی یکون بصدد بیانه .
ویرشدک إلیه : أنّـه لو صحّ ما أفاده : مـن أنّ المولی لم یکن بصدد إفادة المراد بالنسبة إلی ما کان بنفسه مشتبهاً فیه ، لابدّ مـن التزامه بعدم وجـوب إکرام من اشتبه عند المولی أنّه عادل أو لا ولکن العبد أحرز کونه عالماً عادلاً ، مع أنّ العبد لا یعدّ معذوراً فی ترک إکرامه ؛ وإن اعتذر بأنّ المولی لم یکن فی مقام البیان بالنسبة إلی المشکوک .
وأمّا نسبة ما أفاده إلی الشیخ الأعظم ففی غیر محلّه ؛ فإنّ کلامه فی تقریراته آبٍ عن ذلک ، وملخّصه : أنّ العامّ الواقع فی کلام المتکلّم غیر صالح لرفع الشبهة الموضوعیة التی هو بنفسه أیضاً قد یکون مثل العبد فیها ، فالعامّ مرجع لرفع الشبهة الحکمیة لا الموضوعیة .
وأنت تری : أنّ کلامه آبٍ عمّا نسب إلیه ، بل یرجع إلی ما فصّلناه وأوضحناه ، ولولا تشویش عبائر القائل وإغلاقها لجاز حملها علی ما أفاده الشیخ الأعظم قدس سره ، کما قد یظهر من ذیل کلامه .
ثمّ إنّ شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ نقل تقریباً لجواز التمسّک عن المحقّق النهاوندی ـ طیّب الله رمسه ـ وهو : أنّ قول القائل «أکرم العلماء» یدلّ بعمومه الأفرادی علی وجوب إکرام کلّ واحد من العلماء ، ویدلّ بإطلاقه علی سرایة الحکم إلی کلّ حالة من الحالات ، ومن جملة حالات الموضوع کونه مشکوک الفسق
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 183
والعدالة ، وقد علم من قوله «لا تکرم الفسّاق من العلماء» خروج معلوم الفسق منهم ، فمقتضی أصالة العموم والإطلاق بقاء المشکوک تحته ، انتهی .
والجواب أوّلاً : أنّ ما فسّر به الإطلاق غیر صحیح ؛ لأنّ الإطلاق لیس إلاّ کون الشیء تمام الموضوع کما تقدّم ، لا أخذ جمیع الحالات والعناوین فی الموضوع ، فإنّ ذلک معنی العموم . فما اصطلح به من الإطلاق الأحوالی باطل من رأس .
وثانیاً : أنّ البحث إنّما هو فی العامّ المتضمّن لبیان الحکم الواقعی ، والمفروض أنّ الموضوع له إنّما هو العالم بقید کونه غیر الفاسق لبّاً ، فکیف یحکم بوجوب إکرام المشتبه مع کونه فاسقاً واقعیاً ؟
وما ذکره مـن أنّ العامّ وإن کان غیر شامل له بإطلاقـه الأفرادی إلاّ أنّـه شامل له بإطلاقه الأحوالی ـ بمعنی أنّ العالم واجب الإکرام فی جمیع الحالات ؛ ومنها کونه مشکوک الفسق ـ یستلزم اجتماع حکمین فی موضوع واحد بعنوان واحد ؛ لأنّ ما ذکره من الإطلاق الأحوالی موجـود فی الخاصّ أیضاً ؛ فإنّ قولـه «لا تکرم الفسّاق» شامل لمشتبه الفسق ومعلومـه إذا کان فاسقاً واقعیاً ، فهذا الفرد بما أنّه مشتبه الفسق واجب الإکرام ومحرّمه ، ولو التجأ قدس سره إلی أنّ العامّ متکفّل للحکم الواقعی والظاهری یلزمه أخذ الشکّ فی الحکم فی جانب موضوع نفس ذلک الحکم .
وفیه ـ مضافاً إلی أن أخذ الشکّ فی الموضوع لا یصحّح الحکم الظاهری ـ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 184
أنّ مجرّد أخذه فیه لا یرفع الإشکال ؛ إذ کیف یمکن تکفّل العامّ بجعل واحد للحکم الواقعی علی الموضوع الواقعی ، وللحکم الظاهری علی مشتبه الحکم ، مع ترتّبهما ؟ وهل هذا إلاّ الجمع بین عدم لحاظ الشکّ موضوعاً ولحاظه کذلک ؟ !
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 185