الفصل الأوّل فی حجّیة العامّ المخصّص فی الباقی

الفصل الأوّل فی حجّیة العامّ المخصّص فی الباقی

‏ ‏

‏لا ریب فی أنّ تخصیص العامّ لا یوجب مجازیته مطلقاً ؛ متّصلاً کان‏‎ ‎‏المخصِّص أم منفصلاً .‏

‏ویتفرّع علیه : أنّه حجّة فیما بقی بعد التخصیص ، وعلی القول بالمجازیة‏‎ ‎‏لازمه سقوطه عن الحجّیة وصیرورة الکلام مجملاً .‏

‏وتوضیح ذلک : أنّ حقیقة المجاز ـ کما تقدّم ـ لیس عبارة عن استعمال اللفظ‏‎ ‎‏فی غیر ما وضع له ؛ إذ التلاعب بالألفاظ لا حسن فیه ، وکون زید أسداً لفظاً لا‏‎ ‎‏بلاغة فیه ، بل کلّ المجازات ـ من مرسل واستعارة ـ لا یستعمل لفظها إلاّ فیما وضع‏‎ ‎‏له ، لکن بادّعاء أنّ المورد وما سبق لأجله الکلام من مصادیقه ؛ وإن کانت العامّة‏‎ ‎‏غافلین عنه ، کما فی قوله سبحانه : ‏‏«‏ما هَذَا بَشَرٌ إِنْ هَذَا إِلاّ مَلَکٌ کَرِیمٌ‏»‏‎[1]‎‏ ، وتقدّم‏‎ ‎‏تفصیله ، فراجع‏‎[2]‎‏ .‏

‏والقائل بأنّ العامّ المخصَّص مجاز لابدّ أن یصحّح مقالته بالادّعاء ؛ إذ قوام‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 169
‏المجاز فی جمیع الأقسام والأمثلة إنّما هو بالادّعاء ، وأنّ ما قصده أیضاً هو نفسه أو‏‎ ‎‏من مصادیقه ، فانظر إلی قول الشاعر :‏

‏ ‏

‏جددت یوم الأربعین عزائی‏

‎ ‎‏والنوح نوحی والبکاء بکائی‏

‏ ‏

‏تری أنّ حسن کلامه وجمال مقاله إنّما هو فی ادّعائه بأنّ النوح والبکاء‏‎ ‎‏منحصران فی نوحه وبکائه ، ولیس غیرهما نوحاً وبکاء .‏

‏وعلیه لا یجوز أن یکون العامّ المخصّص من قبیل المجاز ؛ ضرورة عدم‏‎ ‎‏ادّعاءٍ وتأوّلٍ فیه ، فلیس فی قوله : ‏‏«‏‏ ‏أوفُوا بِالعُقُودِ‏ ‏‏»‏‎[3]‎‏ ادّعاء کون جمیع العقود‏‎ ‎‏هی العقود التی لم تخرج من تحته ، وأنّ الباقی بعد التخصیص عین الکلّ قبله ؛ إذ‏‎ ‎‏لیس المقام مقام مبالغة وإغراق حتّی یتمسّک بهذه الذوقیات ، وکذلک قوله سبحانه :‏‎ ‎‏«‏‏ ‏أَحَلَّ الله ُ البَیْعَ‏ ‏‏»‏‎[4]‎‏ فی المطلق الوارد علیه التقیید .‏

والحاصل :‏ أنّ حمل العامّ المخصَّص علی باب المجاز ـ مع أنّ مداره‏‎ ‎‏الادّعاء ، وهو غیر مناسب فی هذه العمومات التی لم یقصد منها إلاّ ضرب القانون ـ‏‎ ‎‏ضعیف جدّاً .‏

‏مع إمکان کونه حقیقة علی وجه صحیح ، وإلیک بیانه : إنّ الدواعی لإنشاء‏‎ ‎‏الحکم وإلقاء الأمر علی المخاطب کثیرة جدّاً ، قد أشرنا إلی بعضها فی باب الأوامر ،‏‎ ‎‏ومن تلک الدواعی هو ضرب القانون وإعطاء القاعدة الکلّیة للعبید بجعل حکم علی‏‎ ‎‏عنوان کلّی نحو «أکرم العلماء» ، وللموضوع آلاف من المصادیق ، ولکن بعضها‏‎ ‎‏محکوم بالإکرام بالإرادة الجدّیة ، وبعضها محکوم بعدم الإکرام کذلک .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 170
‏وحینئذٍ : فالقائل یستعمل قوله «أکرم العلماء» فی تمام أفراده الذی هو‏‎ ‎‏المعنی الحقیقی بالإرادة الاستعمالیة ، ثمّ یشیر بدلیل منفصل أو متّصل علی أنّ‏‎ ‎‏الفسّاق منهم وإن تعلّقت بهم الإرادة الاستعمالیة وشملهم عموم القانون إلاّ أنّ‏‎ ‎‏الإرادة الجدّیة فی هذا المورد علی خلافه ، وأنّهم یحرم إکرامهم أو لا یجب ، وهذا‏‎ ‎‏الجعل بهذه الکیفیة ربّما یفید العبد فیما إذا شکّ فی خروج غیر الفسّاق أو فی‏‎ ‎‏المخصّص المجمل المنفصل الدائر بین الأقلّ والأکثر .‏

‏فالجعل علی عنوان کلّی یصیر ضابطة وتکون حجّة فی الموارد المشکوکة ؛‏‎ ‎‏إذ الأصل الدائر بین العقلاء هو تطابق الإرادة الاستعمالیة مع الإرادة الجدّیة إلاّ ما‏‎ ‎‏قام الدلیل من جانب المولی علی خلافه ، فهذا الظهور بنحو العموم حجّة علیه فی‏‎ ‎‏کلّ فرد من أفراده ؛ حتّی یقوم حجّة أقوی علی خلافه .‏

فظهر :‏ أنّ العامّ مستعمل فی معناه الأوّل ، وأنّ التضییق والتخصیص فی‏‎ ‎‏الإرادة الجدّیة ، ومدار کون الشیء حقیقة أو مجازاً علی الاُولی من الإرادتین دون‏‎ ‎‏الثانیة ، ویصیر حجّة فی الباقی ؛ لما عرفت من أنّ الأصل الدائر بین العقلاء هو‏‎ ‎‏تطابق الإرادتین حتّی یقوم دلیل أقوی علی خلافه .‏

وإن شئت قلت :‏ إنّ قوله تعالی : ‏‏«‏‏ ‏أوفُوا بِالعُقُودِ . . . ‏»‏‎[5]‎‏ استعمل جمیع‏‎ ‎‏ألفاظـه فیما وضعت لـه ، لکن البعث المستفاد من الهیئة لم یکن فی مورد‏‎ ‎‏التخصیص لداعی الانبعاث ، بل إنشاؤه علی نحو الکلّیة ـ مع عدم إرادة الانبعاث فی‏‎ ‎‏مورد التخصیص ـ إنّما هو لداعٍ آخر ؛ وهو إعطاء القاعدة لیتمسّک بها العبد فی‏‎ ‎‏الموارد المشکوکة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 171
‏فالإرادة الاستعمالیة التی هی فی مقابل الجدّیة قد تکون بالنسبة إلی الحکم‏‎ ‎‏بنحو الکلّیة إنشائیاً وقد تکون جدّیاً لغرض الانبعاث ، وقوله سبحانه ‏‏«‏‏ ‏أوفُوا‎ ‎بِالعُقُودِ‏ ‏‏»‏‏ إنشاء البعث إلی الوفاء بجمیع العقود ، وهو حجّة ما لم تدفعها حجّة أقوی‏‎ ‎‏منها . فإذا ورد مخصّص یکشف عن عدم مطابقة الجدّ للاستعمال فی مورده ،‏‎ ‎‏ولا ترفع الید عن العامّ فی غیر مورده ؛ لظهور الکلام وعدم انثلامه بورود‏‎ ‎‏المخصّص ، وأصالة الجدّ التی هی من الاُصول العقلائیة حجّة فی غیر ما قامت‏‎ ‎‏الحجّة علی خلافها .‏

‏لا یقال : إذا لم یکن البعث حقیقیاً بالإضافة إلی بعض الأفراد ـ مع کونه‏‎ ‎‏متعلّقاً به فی مرحلة الإنشاء ـ فلازمه صدور الواحد عن داعیین بلا جهة جامعة‏‎ ‎‏تکون هو الداعی‏‎[6]‎‏ .‏

‏لأنّا نقول : إنّ التمسّک بالقاعدة المعروفة فی هاتیک المباحث ضعیف جدّاً‏‎ ‎‏ـ کما هو غیر خفی علی أهله ـ وکفی فی إبطال ما ذکر : أنّ الدواعی المختلفة ربّما‏‎ ‎‏تدعو الإنسان إلی شیء واحد .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ الدواعی المختلفة لیست علّة فاعلیة لشیء ، بل الدواعی‏‎ ‎‏غایات لصدور الأفعال . وما قرع سمعک : أنّ الغایات علل فاعلیة الفاعل‏‎[7]‎‏ لیس‏‎ ‎‏معناه أنّها مصدر فاعلیته ؛ بحیث تکون علّة فاعلیة لها ویصدر حرکة الفاعل منها ،‏‎ ‎‏بل معناه أنّ الفاعل لا یصیر مبدأ إلاّ لأجلها ، فالغایة ما لأجلها الحرکة لا فاعل‏‎ ‎‏التحریک والحرکة .‏

‏فإن قلت : إنّ حقیقـة الاستعمال لیس إلاّ إلقاء المعنی بلفظـه ، والألفاظ‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 172
‏مغفول عنها حینه ؛ لأنّها قنطرة ومـرآة للمعانی ، ولیس للاستعمال إرادة مغایرة‏‎ ‎‏لإرادة المعنی الواقعی ، والمستعمِل إن أراد مـن لفظ العامّ المعنی الواقعی فهو ، وإلاّ‏‎ ‎‏کان هازلاً‏‎[8]‎‏ .‏

‏قلت : فیما ذکر خلط واضح ـ وإن صدر عن بعض الأعاظم ـ إذ لیس الإرادة‏‎ ‎‏الاستعمالیة والجدّیة متعلّقتین بلفظ العامّ ؛ بحیث یکون المراد الاستعمالی جمیع‏‎ ‎‏العلماء والجدّی بعضهم ؛ حتّی یرد علیه ما ذکر ، بل الاستعمالیة والجدّیة إنّما هی‏‎ ‎‏بالنسبة إلی الحکم ؛ فما ذکر من الإشکال أجنبی عن مقصودهم .‏

‏ولعلّ ما أفاده شیخنا العلاّمة ـ أعلی الله مقامه ـ یبیّن ما أفاده القوم وراموه ؛‏‎ ‎‏حیث قال : إنّ هذا الظهور الذی یتمسّک به لحمل العامّ علی الباقی لیس راجعاً إلی‏‎ ‎‏تعیین المراد من اللفظ فی مرحلة الاستعمال ، بل هو راجع إلی تعیین الموضوع‏‎ ‎‏للحکم‏‎[9]‎‏ ، فراجع .‏

ثمّ‏ إنّ بعض أهل التحقیق قد أجاب فی «مقالاته» عن هذا الإشکال : بأنّ‏‎ ‎‏دلالة العامّ وإن کانت واحدة لکن هذه الدلالة الواحدة إذا کانت حاکیة عن مصادیق‏‎ ‎‏متعدّدة فلا شبهة فی أنّ هذه الحکایة بملاحظة تعدّد محکیها بمنزلة حکایات‏‎ ‎‏متعدّدة ؛ نظراً إلی أنّ الحاکی یتلوّن بلون محکیه ویقتضیه فی آثاره ، فمع تعدّده‏‎ ‎‏یکون الحاکی کأنّه متعدّد . فحینئذٍ : مجرّد رفع الید عن حجّیة الحکایة المزبورة‏‎ ‎‏بالنسبة إلی فرد لا یوجب رفع الید عن حجّیته العلیا .‏

‏وأیّد کلامه بالمخصّص المتّصل ؛ مدّعیاً أنّ الظهور فی الباقی مستند إلی‏‎ ‎‏وضعه الأوّل . غایة الأمر تمنع القرینة عن إفادة الوضع لأعلی المراتب من الظهور ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 173
‏فیبقی اقتضاؤه للمرتبة الاُخری دونها بحاله‏‎[10]‎‏ ، انتهی .‏

ولا یخفی :‏ أنّ ما ذکره من حدیث جذب الألفاظ لون محکیها أشبه‏‎ ‎‏بالخطابة ، ومبنی علی ما اشتهر من أنّ أحکام المعانی ربّما تسری إلی الألفاظ ؛‏‎ ‎‏مستشهداً بأسماء ما یستقبح ذکره ؛ غافلاً عن أنّ قبحه لأجل أنّ التلفّظ به یوجب‏‎ ‎‏الانتقال إلی معناه ؛ ولذا لا یدرک الجاهل باللغة قبحه وشینه .‏

‏وعلیه : فتعدّد المحکی لا یوجب تعدّد الحکایة بعد کون الحاکی عنواناً‏‎ ‎‏واحداً . فلفظ العامّ بعنوان واحد وحکایة واحدة یحکی عن الکثیر ، فإذا علم أنّ‏‎ ‎‏اللفظ لم یستعمل فی معناه بدلیل منفصل ـ کما هو المفروض ـ لم تبق حکایة‏‎ ‎‏بالنسبة إلی غیره .‏

‏وما ذکره فی المخصّص المتّصل من مراتب الظهور ممنوع ؛ ضرورة أنّ کلّ‏‎ ‎‏لفظ فی المخصّص المتّصل مستعمل فی معناه ، وأنّ إفادة المحدودیة إنّما هو لأجل‏‎ ‎‏القیود والإخراج بالاستثناء . فلفظ «کلّ» موضوع لاستغراق مدخوله ؛ فإذا کان‏‎ ‎‏مدخوله قولنا «العالم إلاّ الفاسق» یستغرق ذلک المدخول المرکّب من المستثنی منه‏‎ ‎‏والمستثنی ، من دون أن یکون الاستثناء مانعاً من ظهوره ؛ لعدم ظهوره إلاّ فی‏‎ ‎‏استغراق المدخول ؛ أیّ شیء کان . ولو فرض أنّ القید أو الاستثناء یمنعان عن‏‎ ‎‏ظهوره صار الکلام مجملاً ؛ لعدم مراتب للظهور .‏

‏وما ذکرنا من إجراء التطابق بین الإرادتین فی کلّ فردٍ فردٍ غیر مربوط بهذا‏‎ ‎‏الفرض ؛ لأنّ العامّ علی ما ذکرنا قد انعقد له الظهور فیما وضع له ، وهذا العامّ مع هذا‏‎ ‎‏الأصل حجّتان حتّی یرد حجّة أقوی منهما . ولو أمعنت النظر فیه یسهّل لک التصدیق .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 174

  • )) یوسف (12) : 31 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 63 .
  • )) المائدة (5) : 1 .
  • )) البقرة (2) : 275 .
  • )) المائدة (5) : 1 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 450 .
  • )) راجع شرح الإشارات 3 : 15 ـ 16 ، الحکمة المتعالیة 2 : 268 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 517 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 213 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 438 .