الأمر الأوّل فی تعریف العامّ
أنّ القوم عرّفه بتعاریف عدیدة ، ونوقشت عکساً وطرداً ، ولکن لا طائل فی البحث عنها . ولننبّه علی أمر یتّضح فی خلاله حال العامّ وتعریفه : وهو أنّ القوم ـ رضوان الله علیهم ـ لا یزالون علی خلط دائر بین کلماتهم ؛ حیث قسّموا العموم إلی وضعی وإطلاقی ، مع أنّ باب الإطلاق غیر مربوط بالعموم .
توضیحه : أنّ الطبیعة الصرفة کما لا یوجب تصوّرها إلاّ الانتقال إلی ذاتها اللابشرط ، مـن دون إراءة مشخِّصاتها وقیودها الصنفیة ، کذلک اللفظ الموضوع مقابل هـذه الطبیعة لا یـدلّ إلاّ علی ذات الماهیـة المجرّدة مـن کلّ قید ؛ لأنّ الحکایـة الاعتباریة الوضعیة دائر مدار الوضع سعة وضیقاً ، والمفروض أنّ الوضع لم ینحدر إلاّ علی ذات الطبیعة بلا انضمام قیوده وعوارضه ، فلا محالة ینحصر دلالته علیها فقط ، ولا یحکی ولا یکشف عن الأفراد وعوارضها ولوازمها أصلاً .
وبعبارة أوضح : کما أنّ نفس الطبیعة لا یمکن أن تکون مرآة وکاشفة عن الأفراد ؛ سواء کان التشخّص بالوجود والعوارض أماراته ، أو کان بالعوارض ـ ضرورة أنّ نفس الطبیعة تخالف الوجود والتشخّص وسائر عوارضها ؛ ذهنیة کانت
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 155
أو خارجیة ، ولا یمکن کاشفیة الشیء عمّا یخالفه ، فالماهیة لا تکون مرآة للوجود الخارجی والعوارض الحافّة به ـ فکذلک الألفاظ الموضوعة للطبائع بلا شرط ، کأسماء الأجناس وغیرها لا تکون حاکیة إلاّ عن نفس الطبائع الموضوعة لها ، فالإنسان لا یدلّ إلاّ علی الطبیعة بلا شرط ، وخصوصیات المصادیق لا تکون محکیة به .
فإن قلت : إنّ الطبیعة کما یمکن أن تلاحظ مهملة جامدة فهکذا یمکن أن تلاحظ ساریة فی أفرادها دارجة فی مصادیقها ، کما هو الحال فی القضیة الحقیقیة ؛ فهی علی فرض السریان عین کلّ فرد فی الخارج ، ومتّحدة معه فی وعائه . فتصوّر هذه عین تصوّر ذاک ؛ لأنّ المفروض أنّ الطبیعة لوحظت لا بما هی هی ، بل بما هی موجودة فی الخارج وأنّها عین الأفراد .
قلت : إنّ ذا من العجب ، وهو خلط بین الانتقال والحکایـة ؛ إذ مجـرّد الاتّحاد لا یوجب الحکایة والمرآتیة ، وإلاّ کانت الأعراض حاکیة عن جواهرها ؛ لأنّ وجود العرض فی نفسه عین وجوده لموضوعه ، والمتّحدات فی الخارج حاکیة بعضها عن بعض .
والحاصل : أنّ مفهوم الإنسان ـ مع قطع النظر عن عالم اللفظ والوضع ـ عبارة عن طبیعة منحلّة إلی جنسه وفصله عند التحلیل لا غیر ، فلنفس المفهوم ضیق ذاتی لا یکشف عن العوارض والخصوصیات .
فلو فرضنا وضع لفظ لتلک الطبیعة فهو لا یمکن أن یحکی إلاّ عمّا وضع بإزائه لا غیر ، واتّحاد الإنسان خارجاً مع الأفراد لا یقتضی حکایتها ؛ لأنّ مقام الدلالة التابعة للوضع غیر الاتّحاد خارجاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 156
إذا عرفت ذلک فنقول : إنّ حقیقة الإطلاق إنّما یتقوّم بوقوع الشیء ـ کالطبیعة ـ موضوعاً للحکم بلا قید ، وأمّا العموم فهو یتقوّم بشیئین : أحدهما نفس الطبیعة ، وثانیهما ما یدلّ علی العموم والشمول ، مثل لفظة «کل» و«الجمیع» و«الألف واللام» ممّا وضعت للکثرات أو تستفاد منه الکثرة لجهة اُخری .
فإذا اُضیفت هذه المذکورات إلی الطبائع أو دخل بها وصارتا ککلمةٍ واحدة ـ کما فی «الألف واللام» ـ تستفاد منهما الکثرة بتعدّد الدالّ والمدلول ، فإذا قلت : «کلّ إنسان ناطق» فلفظة «إنسان» تدلّ علی الطبیعة الصرفة ، من دون أن تکون حاکیة عن الکثرة والأفراد ، أو تکون الطبیعة المحکیة به مرآة لها ، وکلمة «کلّ» تدلّ علی نفس الکثرة والتعدّد ، وإضافتها إلیها تدلّ علی أنّ هذه الکثرة هو کثرة الإنسان لا کثرة طبیعة اُخری ؛ وهی الأفراد بالحمل الشائع .
وقس علیه العامّ المجموعی أو البدلی ؛ إذ کلّ ذلک إنّما یستفاد من دوالّ اُخر غیر ما یدلّ علی الطبیعة ، کلفظة «مجموع» کما تقدّم ذکر منه فی بحث الواجب المشروط ، ویأتی إن شاء الله بیانه .
فظهر ممّا ذکرنا أمران :
الأوّل : أنّ باب الإطلاق غیر مربوط بباب العموم ، وأنّه لا جامع بینهما حتّی نلتمس فی وجه الافتراق ؛ إذ الغایة من إثبات الإطلاق إحراز کون الطبیعة ـ مثلاً ـ تمام الموضوع للحکم من غیر قید ، وأمّا الاستغراق والبدل ونحوهما فلا یمکن استفادتها من الإطلاق ؛ إذ الإطلاق لا یتعرّض للکثرة حتّی یبحث عن کیفیتها ، وأمّا العموم فهو المفید للکثرة وکیفیتها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 157
وعلی هذا یصحّ أن یعرّف العامّ : بأنّه ما دلّ علی تمام مصادیق مدخوله ممّا یصحّ أن ینطبق علیه . وأمّا تعریفه بأنّه ما دلّ علی شمول مفهوم لجمیع ما یصلح أن ینطبق علیه فلا یخلو من مسامحة ؛ ضرورة أنّ الکلّ لا یدلّ علی شمول الإنسان لجمیع أفراده ، والخطب بعد سهل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 158