الاستدلال علی عدم تداخل الأسباب
فعن العلاّمة فی «المختلف» القول بعدم التداخل بأنّه إذا تعاقب السببان أو اقترنا : فإمّا أن یقتضیا مسبّبین مستقلّین أو مسبّباً واحداً ، أو لا یقتضیا شیئاً ، أو یقتضی أحدهما دون الآخر ، والثلاثة الأخیرة باطلة ، فتعیّن الأوّل .
وفی تقریرات الشیخ الأعظم رحمه الله أنّ الاستدلال المذکور ینحلّ إلی مقدّمات ثلاث :
إحداها : دعوی تأثیر السبب الثانی ؛ بمعنی کون کلّ واحد من الشرطین مؤثّراً فی الجزاء .
وثانیتها : أنّ أثر کلّ شرط غیر أثر الآخر .
وثالثتها : أنّ ظاهر التأثیر هو تعدّد الوجود لا تأکّد المطلوب .
ثمّ أخذ فی توضیح المقدّمات المذکورة وما یمکن به إثباتها ، فقد ذکر فی توجیه أنّ السبب الثانی مستقلّ وجوهاً من البیان ، وأخذ کلّ من تأخّر عنه وجهاً من بیاناته ، وکان الجلّ عیالاً علیه :
منها : ما ذکره المحقّق الخراسانی ـ بعد إن قلت قلت ـ أنّ ظهور الجملة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 118
الشرطیة فی کون الشرط سبباً أو کاشفاً عن السبب ومقتضیاً للتعدّد بیانٌ لما هو المراد من الإطلاق ، ولا دوران بین ظهور الجملة فی حدوث الجزاء وظهور الإطلاق ؛ ضرورة أنّ ظهور الإطلاق یکون معلّقاً علی عدم البیان ، وظهورها فی ذلک صالح لأن یکون بیاناً ، فلا ظهور له مع ظهورها ، فلا یلزم علی القول بعدم التداخل تصرّف أصلاً ، بخلاف القول بالتداخل .
أقول : وتوضیح حاله وبیان إشکاله هو أنّ دلالة القضیة الشرطیة علی السببیة المستقلّة الحدوث عند الحدوث هل هو بالوضع أو بالإطلاق ؟ وأنّه إذا جعلت الماهیة تلو أداة الشرط بلا تقییدها بقید کما یدلّ علی أنّها تمام الموضوع لترتّب الجزاء علیه ، کذلک یدلّ علی استقلالها فی السببیة سواء سبقها أو قارنها شیء أم لا علی اصطلاح القوم فی معنی الإطلاق ؟
الظاهر هو الثانی ؛ لتصریح بعضهم علی أنّ دلالة الشرطیة علی العلّیة المستقلّة بالإطلاق ، وحینئذٍ فلو کان الدلالة علی السببیة التامّة لأجل الوضع کان لما ذکره وجه ؛ خصوصاً علی مذهب الشیخ من أنّ الإطلاق معلّق علی عدم البیان ، ولکن لا أظنّ صحّة ذلک ولا ارتضائهم به ، مع ما عرفت سابقاً من ضعفه .
وأمّا علی القول بأنّ دلالتها علی السببیة بالإطلاق فللمنع عمّا ذکر مجال ، وحاصله : أنّ الإطلاق کما هو منعقد فی ناحیة الشرط فکذلک موجود فی جانب
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 119
الجـزاء ، ولا رجحان فی ترجیح أحـدهما علی الآخـر بعد کون ثبوتهما ببرکـة عدم البیان .
وتفصیل ذلک : أنّ مقتضی إطلاق الشرط فی کلتا القضیتین هو کون کلّ شرط مستقلاًّ علّة للجزاء ، وتلک الماهیـة مؤثّرة ؛ سواء کان قبلها أو معها شیء ، أم لم یکن ، ولو کان المؤثّر هو الشرط ، بشرط أن لا یسبقه أو لا یقارنه شیء آخر ، کان علیه البیان ورفع الجهل عن المکلّف ، هذا مقتضی إطلاق الشرط .
وأمّا مقتضی إطلاق الجزاء فهو أنّ الجزاء وماهیة الوضوء تمام المتعلّق لتعلّق الإیجاب علیها ، بلا تقییدها بما یغایرها مع الجزاء الآخر ، فیکون الموضوع فی القضیتین نفس طبیعة الوضوء .
فحینئذٍ یقع التعارض بین إطلاق الجزاء فی القضیتین مع إطلاق الشرط فیهما ، وبتبعه یقع التعارض بین إطلاق الشرطیتین ، ولا یمکن الجمع بین إطلاق الشرط فی القضیتین وإطلاق الجزاء فیهما ؛ لبطلان تعلّق إرادتین علی ماهیة واحدة بلا تقیید .
فیدور الأمر بین رفع الید عن إطلاق الشرط والاحتفاظ علی إطلاق الجزاء ، فیقال : إنّ کلّ شرط مع عدم تقدّم شرط آخر علیه أو تقارنه به مؤثّر مستقلاًّ ، وبین رفع الید عن إطلاق الجزاء وحفظ إطلاق الشرط بتقیید ماهیة الوضوء ، ولا ترجیح لشیء منهما ؛ لأنّ ظهور الإطلاقین علی حدّ سواء ، فلا یمکن أن یکون أحدهما بیاناً للآخر .
وبعبارة ثانیة : أنّ هنا إطلاقات أربعة فی جملتین ؛ اثنان فی جانب الشرط ، وآخران فی جانب الجزاء ، ورفع التعارض یحصل تارة بتحکیم إطلاق الشرط فیهما المفید للاستقلال والحدوث عند الحدوث علی إطلاق الجزاء فیهما الدالّ علی أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 120
نفس الماهیـة تمام المتعلّق بتقییده بأحـد القیود ؛ حتّی یکون متعلّق الإرادتین شیئین مختلفین .
واُخری بتحکیم إطلاقه علی الشرط ، وتخصیص استقلالهما بما إذا لم یسبق إلیه شرط آخر .
وکلا العلاجین صحیح لا یتعیّن واحد منهما إلاّ بمرجّح .
وتوهّم : أنّ ظهور صدر القضیة مقدّم علی ظهور الذیل فاسد ؛ لأنّه لو سلّم فإنّما هو بین صدر کلّ قضیة وذیلها ، لا بین صدر قضیة وذیل قضیة اُخری ، ونحن الآن فی بیان تعارض القضیتین ، ولولا ضمّ قضیة إلی مثلها لما کان بین صدر قوله : «إذا بلت فتوضّأ» وبین ذیله تعارض حتّی نعالجه ؛ إذ التعارض ناشٍ من ضمّ قضیة إلی مثلها ، کما عرفت .
وممّا ذکره الشیخ فی تمهید المقدّمة الاُولی ما ذکره بعض الأعاظم فی تقریراته ، ومحصّله : أنّ تعلّق الطلب بصرف الوجود من الطبیعة وإن کان مدلولاً لفظیاً إلاّ أنّ عدم قابلیة صرف الوجود للتکرّر لیس مدلولاً لفظیاً حتّی یعارض ظاهر القضیة الشرطیة فی تأثیر کلّ شرط فی جزاء غیرما أ ثّر فیه الآخر ، بل من باب حکم العقل بأنّ المطلوب الواحد إذا امتثل لا یمکن امتثاله ثانیاً ، وأمّا أنّ المطلوب واحد أو متعدّد فلا یحکم به العقل ولا یدلّ علیه اللفظ ، فلو دلّ الدلیل علی أنّ المطلوب متعدّد لا یعارضه حکم العقل ، فالوجه فی تقدیم ظهور القضیتین من جهة کونه بیاناً لإطلاق الجزاء فهو حقیقة رافع لموضوع حکم العقل ، انتهی .
قلت : قد عرفت أنّ إطلاق الجزاء یقتضی أن یکون بنفسه تمام المتعلّق ، کما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 121
أنّ إطلاق الشرط یقتضی أن یکون مؤثّراً مستقلاًّ ؛ سبقه شیء أو لا ، وحینئذٍ فما المرجّح لتقدیم ظهور الشرط علی التالی ، بعد الاعتراف بکون الظهور فیهما مستنداً إلی الإطلاق دون الوضع ؟
ولو کان الوجه فی تقدیم الشرط معلّقیة إطلاق الجزاء بعدم بیان وارد علی خلافه فلیکن إطلاق الشرط کذلک ؛ لأنّ إثبات تعدّد التأثیر یتوقّف علی عدم ورود بیان علی خلافه فی ناحیة الجزاء .
ولنا أن نقول : إنّ حکم العقل بأنّ الشیء الواحد لا یتعلّق به إرادتان وبعثان حقیقیان یکشف عن وحدة المؤثّر والتأثیر فالتقدیم ما لم یستند إلی مرجّح خارجی بلا وجه .
ومنها : ماذکره المحقّق المحشّی من أنّ متعلّق الجزاء نفس الماهیة المهملة ، فهی بالنسبة إلی الوحدة والتعدّد بلا اقتضاء ، بخلاف أداة الشرط ؛ فإنّها ظاهرة فی السببیة المطلقة ، ولا تعارض بین المقتضی واللا اقتضاء ، انتهی .
وفیه : أنّه إن اُرید من الاقتضاء الظهور الإطلاقی للمقدّم فهو بعینه موجود فی التالی ، وإن اُرید أنّ إطلاق الشرط تامّ غیر معلّق بشیء ـ بخلاف إطلاق الجزاء ـ فقد تقدّم جوابه ؛ وأنّ ظهور کلّ من المقدّم والتالی إطلاقی ، لا مرجّح لتقدیم أحدهما علی الآخر .
نعم ، هنا تقریب أو تقریبان یستفاد من کلام المحقّق الهمدانی فی «مصباحه» ، وقد سبقه الشیخ الأعظم ، وحاصله : أنّ مقتضی القواعد اللفظیة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 122
سببیة کلّ شرط للجزاء مستقلاًّ ، ومقتضاه تعدّد اشتغال الذمّة بفعل الجزاء ، ولا یعقل تعدّد الاشتغال إلاّ مع تعدّد المشتغل به ؛ فإنّ السبب الأوّل سبب تامّ فی اشتغال ذمّة المکلّف بإیجاد الجزاء .
والسبب الثانی إن أثّر ثانیاً وجب أن یکون أثره اشتغالاً آخر ؛ لأنّ تأثیر المتأخّر فی المتقدّم غیر معقول ، وتعدّد الاشتغال مع وحدة الفعل المشتغل به ذاتاً ووجوداً غیر معقول .
وإن لم یؤثّر یجب أن یستند : إمّا إلی فقد المقتضی أو وجود المانع ، والکلّ منتفٍ ؛ لأنّ ظاهر القضیة الشرطیة سببیة الشرط مطلقاً ، والمحلّ قابل للتأثیر ، والمکلّف قادر علی الامتثال ، فأیّ مانع من التنجّز ؟ !
وأیضاً لیس حال الأسباب الشرعیة إلاّ کالأسباب العقلیة ، فکما أنّه یجب تحقّق الطبیعة فی ضمن فردین علی تقدیر تکرّر علّة وجودها وقابلیتها للتکرار ، فکذا یتعدّد اشتغال الذمّة بتعدّد أسبابه ، انتهی .
وقد أفاد شیخنا العلاّمة قدس سره قریباً ممّا ذکره فی أواخر عمره ـ بعدما کان بانیاً علی التداخل سالفاً ـ وقد مضی شطر منه فی مبحث التوصّلی والتعبّدی ، فراجع .
أقول : وفیه أنّ کلاًّ من الظهورین مقتضٍ لمدلوله ومانع عن صحّة الاحتجاج بالآخر . وبه یظهر ضعف قوله : إنّ عدم الاشتغال إمّا لعدم المقتضی أو لوجود المانع ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 123
والکلّ منتفٍ ؛ إذ لنا أن نقول : إنّ المانع موجود ؛ وهو إطلاق الجزاء المعارض مع إطلاق الشرط ، والدلیل علی تعدّد الاشتغال والمشتغل به لیس إلاّ الإطلاق ، وهو معارض لمثله .
فإن قلت : إنّ تقیید الجزاء إنّما نشأ من حکم العقل بعد استفادة السببیة التامّة من الدلیل ، فإطلاق السبب ـ منضمّاً إلی حکم العقل بأنّ تعدّد المؤثّر یستلزم تعدّد الأثر ـ بیان للجزاء ، ومعه لا مجال للتمسّک بإطلاقه ، ولیس المقام من قبیل تحکیم أحد الظاهرین علی الآخر حتّی یطالب بالدلیل ، بل لأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثانی یتوقّف علی إطلاق سببیته ، ومعه یمتنع إطلاق الجزاء بحکم العقل ، فوجوبه ملزوم لعدم إطلاقه .
قلت : قد نبّه بذلک المحقّق المزبور فی خلال کلماته ؛ دفعاً للإشکال الذی أوردناه وهو أنّ المانع موجود وهو إطلاق الجزاء وأنت خبیر بأنّه غیر مفید ؛ فإنّه مع اعترافه بأنّ وجوب الجزاء بالسبب الثانی إنّما هو بالإطلاق لا بالدلالة اللغویة فأیّ معنی لتحکیم أحد الإطلاقین علی الآخر .
والتخلّص عن امتناع تعدّد المؤثّر مع وحدة الأثر ـ بعد الغضّ عن عدم کون حکم العقل الدقیق مناطاً للجمع بین الأدلّة ، وبعد الإغماض عن أنّ مثل ما نحن فیه لیس من قبیل التأثیر التکوینی ، بل علّة الامتناع هو عدم إمکان تعلّق إرادتین بمراد واحد ـ کما یمکن بما ذکره کذلک یمکن برفع الید عن إطلاق الشرط عند اجتماعه مع شرط آخر .
فالعقل إنّما یحکم باستحالة وحدة الأثر مع تعدّد المؤثّر ؛ وهی تنشأ من حفظ إطلاق الشرطیتین وإطلاق الجزاء ، فلا محیص إمّا عن القول بأنّ الأثر متعدّد أو المؤثّر واحد ، ولا ترجیح بینهما .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 124
وأمّا قیاس التکوین بالتشریع فقد صار منشأً لاشتباهات ونبّهنا علی بعضها ؛ إذ المعلول التکوینی إنّما یتشخّص بعلّته ، وهو فی وجوده ربط ومتدلّ بعلّته ، فیکون فی وحدته وکثرته تابعاً لها .
وأمّا التشریع فإن اُرید منه الإرادة المولویة فالإرادة تتعیّن بمرادها وتتشخّص بمتعلّقها ، فهما فی أمر التشخّص والتعیّن متعاکسان ، وإن اُرید منه الأسباب الشرعیة فلیست هی أیضاً بمثابة التکوین ؛ ضرورة أنّ النوم والبول لم یکونا مؤثّرین فی الإیجاب والوجوب ، ولا فی الوضوء ، فالقیاس مـع الفارق ، بل لابدّ من ملاحظة ظهور الأدلّة ، ومجرّد هذه المقایسة لا یوجب تقدیم أحدهما علی الآخر .
وأضعف من ذلک ما ربّما یقال : من أنّ المحرّک الواحد یقتضی التحریک الواحد ، والمحرّک المتعدّد یقتضی المتعدّد ، کالعلل التکوینیة ؛ إذ فساده یلوح من خلاله ؛ لأنّ کون التحریک فی المقام متعدّداً غیر مسلّم ؛ إذ یمکن أن نستکشف من وحدة الماهیة وکونها متعلّقة بلا قید أنّ التحریک واحد ، والتکرار فی البعث لأجل التأکید لا التأسیس .
والإنصاف : أنّ أصحاب القول بعدم التداخل وإن کان مقالتهم حقّة إلاّ أنّ ذلک لا یصحّ إثباته بالقواعد الصناعیة کما عرفت ، ولابدّ من التمسّک بأمر آخر ، وقد نبّه بذلک المحقّق الخراسانی فی هامش «کفایته» وهو : أنّ العرف لا یشکّ بعد الاطلاع علی تعدّد القضیة الشرطیة فی أنّ ظهور کلّ قضیة هو وجوب فرد غیر ما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 125
وجب فی الاُخری ، کما إذا اتّصلت القضایا وکانت فی کلام واحد .
ولعلّ منشأ فهم العرف وعلّة استیناسه هو ملاحظة العلل الخارجیة ؛ إذ العلل الخارجیة بمرآی ومسمع منه ؛ حیث یری أنّ کلّ علّة إنّما یؤثّر فی غیر ما أثّر فیه الآخر ، وهذه المشاهدات الخارجیة ربّما تورث له ارتکازاً وفطرة ، فإذا خوطب بخطابین ظاهرهما کون الموضوع فیه من قبیل العلل والأسباب فلا محالة ینتقل منه إلی أنّ کلّ واحد یقتضی مسبّباً غیر ما یقتضیه الآخر ؛ قیاساً لها بالتکوین ، بل العرف غیر فارق بینهما إلاّ بعد التنبیه والتذکار .
فإذا قیل للعرف الساذج : بأنّ وقوع الفأرة فی البئر یوجب نزح عدّة دلاء معیّنة ، وکذا الهرّة ینتقل بفطرته إلی أنّ لوقوع الفأرة ـ مثلاً ـ فی البئر تناسباً لنزح سبع دلاء ، ولوقوع الهرّة فیها مناسبة کذلک ، وأنّ الأمر إنّما تعلّق به لأجل التناسب بینهما ، وإلاّ کان جزافاً ، وإلی أنّ لوقوع کلّ منهما اقتضاءً خاصّاً بها ، وارتباطاً مستقلاًّ لا یکون فی الاُخری ، وهو یوجب تعدّد وجوب نزح المقدار أو استحبابه ، وهذا یوجب تحکیم ظهور الشرطیة علی إطلاق الجزاء .
وأمّا ما أبطلناه من مقایسة التشریع بالتکوین فإنّما هو ببرهان عقلی لا یقف علیه العرف الساذج ، ولکن هذا الارتکاز وإن کان غیر صحیح إلاّ أنّه ربّما یصیر منشأً للظهور العرفی ، ویوجب تحکیم ظهور الشرط علی ظهور الجزاء ، فلابدّ من اتّباعه ، فإنّه المحکّم فی تلکم المواضع .
هـذا کلّـه راجـع إلـی المقدّمـة الاُولی ؛ أعنی فـرض استقلال کـلّ شـرط فـی التأثیر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 126
ولکنّها وحدها لا تفید شیئاً ، بل لابدّ من إثبات المقدّمة الثانیة ؛ وهی أنّ أثر الثانی غیر أثر الأوّل .
ولقائل أن یمنع هـذه المقدّمة ؛ لأنّ غایـة ما تلزم من الاُولی مـن استقلالهما فی التأثیر هـی أنّ الوجـوب الآتی مـن قبل النوم غیر الآتی مـن قبل الآخـر ، وذلک لا یوجب إلاّ تعدّد الوجـوب لا تعدّد الواجب ، بل یمکن أن یستکشف مـن وحـدة المتعلّق کـون ثانیهما تأکیداً لـلأوّل .
ولا یوجب التأکید استعمال اللفظ فی غیر معناه ؛ لأنّ معنی وضع الأمر للوجوب هو وضعها لإیجاد بعث ناشٍ من الإرادة الحتمیة ، والأوامر التأکیدیة کلّها مستعملة کذلک ؛ ضرورة أنّ التأکید إنّما یؤتی به فی الاُمور الهامّة التی لا یکتفی فیها بأمر واحد .
وحینئـذٍ : فکلّ بعث ناشٍ من الإرادة الأکیدة ، ولا معنی للتأکید إلاّ ذلک ، لا أنّ الثانی مستعمل فی عنوان التأکید أو فی الاستحباب أو الإرشاد أو غیر ذلک ؛ فإنّها لا ترجع إلی محصّل ، بل التأکید لا یمکن إلاّ أن یکون المؤکّد من سنخ المؤکّد ، فلابدّ أن یکون البعثان ناشئین من الإرادة الأکیدة لغرض الانبعاث حتّی ینتزع التأکید من الثانی .
وبعبارة ثانیة : أنّ الأسباب الشرعیة علل للأحکام ، لا لأفعال المکلّفین ، فتعدّدها لا یوجب إلاّ تعدّد المعلول ـ وهو الوجوب مثلاً ـ فیستنتج التأکید . ومع حمل الأمر علی التأکید یحفظ إطلاق الشرطیتین وإطلاق الجزاء فیهما ، ولا یوجب تجوّزاً فی صیغة الأمر علی فرض وضعها للوجوب ؛ فإنّ المراد من وضعها لیس وضعها له لهذا المفهوم الاسمی ، بل لإیجاد البعث الناشئ من الإرادة الحتمیة ، وهو حاصل فی المؤکّد ـ بالکسر ـ والمؤکَّد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 127
أتری من نفسک : أنّک إذا أمرت ولدک بأوامر مؤکّدة أن تمنع عن کون الثانی والثالث مستعملة فی غیر معناه . کیف ، وهذا کتاب الله والذکر الحکیم بین ظهْرانَیْنا تتلی آیاته آناء اللیل والنهار ، فهل تجد من نفسک أن تقول : إنّ أوامره المؤکّدة فی الصلاة وغیرها ممّا استعملت فی غیر البعث عن الإرادة الإلزامیة ؟
بل تری کلّها صادرة عن إرادة إلزامیة ، وغایة کلّ منها انبعاث المأمور .
نعم ، حمل الأمر علی التأکید یوجب ارتفاع التأسیس ، وهو خلاف ظاهر الأمر ، لکنّه ظهور لا یعارض إطلاق المادّة والشرطیة . فإذا دار الأمر بین رفع الید عن أحد الإطلاقین ورفع الید عن التأسیس لا ریب فی أولویة الثانی ، وفیما نحن فیه إذا حمل الأمر علی التأکید یرفع التعارض بین الإطلاقین .
والحاصل : أنّ ما ذکر لا یقتضی إلاّ رفع الید من التأسیس الذی یقتضیه السیاق ، ولا ضیر فیه ؛ لإطباقهم علی طرده إذا دار الأمر بینه وبین الأخذ بإطلاق بعض أجزاء الکلام .
وممّا ذکرنا یظهر ضعف ما فی مقالات بعض محقّقی العصر رحمه الله من أنّ تأکّد الوجوب فی ظرف تکرّر الشرط یوجب عدم استقلال الشرط فی التأثیر ؛ لبداهة استناد الوجوب الواحد المتأکّد إلیهما ، لا إلی کلّ منهما .
وجه الضعف : أنّ البعث الإلزامی الناشئ من الإرادة الإلزامیة متعدّد ، وکلّ منهما معلول لواحد من الشرطیتین ، لا أنّهما یؤثّران فی وجوب واحد متأکّد ؛ لأنّ التأکید منتزع من تکرار البعثین وکذا الوجوب المتأکّد أمر انتزاعی منه ، لا أنّه معلول للشرطیتین .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 128
ثمّ إنّه یظهر من الشیخ الأعظم تحکیم هذه المقدّمة بوجهین :
الأوّل : أنّ الأسباب الشرعیة کالأسباب العقلیة ، فحینئذٍ لو کانت الأسباب الشرعیة سبباً لنفس الأحکام یجب تعدّد إیجاد الفعل ؛ فإنّ المسبّب یکون هو اشتغال الذمّة بإیجاده ، والسبب الثانی لو لم یقتض اشتغالاً آخر : فإمّا أن یکون لنقص فی السبب أو المسبّب ، ولیس النقص فی شیء منهما ؛ أمّا الأوّل فمفروض ، وأمّا الثانی : فلأنّ قبول الاشتغال للتعدّد تابع لقبول الفعل المتعلّق له ، والمفروض قبوله للتعدّد . واحتمال التأکید مدفوع بعد ملاحظة الأسباب العقلیة ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ قیاس التشریع بالتکوین قیاس مع الفارق ، وقد أوعزنا إلی فساده غیر مرّة ، فراجع .
وثانیاً : أنّ اشتغال الذمّـة بإیجاد الفعل لیس إلاّ الوجوب علی المکلّف ، ولیس هاهنا شیء غیر بعث المکلّف نحو الطبیعة المنتزع منه الوجوب . فحینئذٍ تحقّق اشتغال آخر من السبب الثانی فرع تقدیم الظهور التأسیسی علی إطلاق الجزاء ، وهو ممنوع . بل لو فرض معنی آخر لاشتغال الذمّـة فتعدّده فرع هذا التقدیم الممنوع .
وثالثاً : أنّ ما أفاده فی ذیل کلامه من أنّ احتمال التأکید فیما تعلّق بعنوانین أقوی ممّا إذا تعلّق بعنوان واحد لا یخلو من غرابة ؛ إذ لو عکس لکان أقرب إلی الصواب ؛ لأنّ الأحکام تتعلّق بالعناوین لا بالمصادیق ، فلا وجه للقول بأنّ الأمر المتعلّق بأحد العناوین تأکید لما تعلّق بالعنوان الآخر . نعم لو تعلّقا بعنوان واحد لکان للتأکید مجال واسع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 129
وأعجب من ذلک : ما أفاده من أنّ الأحکام الکلّیة فی عرض واحد ، فلا مجال لتأکید أحدهما الآخر إلاّ إذا کان متعلّقها الاُمور الخارجیة مع فرض تأخّر أحدهما عن الآخر ؛ وذلک لأنّ مدار التأکید هو تشخیص العرف دون التقدّم والتأخّر ، بل لو فرض إمکان التکلّم بشیء واحد مرّتین فی آنٍ واحد لحکم العرف بأنّ المتکلّم أتی بشیء موکّد ، کما هو کذلک فی البعث اللفظی المقارن للإشارة الدالّة علیه . نعم لو تأخّر أحدهما ینتزع التأکید من المتأخّر .
الثانی من الوجهین : الالتزام بأنّ الأسباب أسباب لنفس الأفعال لا الأحکام ، ولا یلزم منه الانفکاک بین العلّة والمعلول ؛ لأنّها أسباب جعلیة لا عقلیة ولا عادیة ، ومعنی السبب الجعلی أنّ لها نحو اقتضاء فی نظر الجاعل بالنسبة إلی المعلول .
وبعبارة اُخری : أنّ ظاهر الشرطیـة کونه مقتضیاً لوجود المسبّب ، وأنّ اقتضائه لوجوبه من تبعات اقتضائه لوجوده . وحیث إنّ اقتضائه التشریعی لوجود شیء کونه موجباً لوجوبه ، وحینئذٍ لازم إبقاء ظهور الشرط فی المؤثّریة المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ ، انتهی .
قلت : هذا الوجه ممّا لم یرتضه الشیخ نفسه ؛ حتّی قال : إنّـه لا یسمن شیئاً ، ولکن ارتضاه بعض محقّقی العصر رحمه الله ، واعتمد علیه فی «مقالاته» .
والإنصاف : أنّه لا یسمن ولا یغنی من جوع ؛ إذ بعد الاعتراف علی أنّ معنی السببیة الجعلیة هو الاقتضاء لا المؤثّریة الفعلیة ـ فراراً عن انفکاک العلّة عن معلولها ـ فلا منافاة بین استقلال الاقتضاء وعدم تعدّد الوجود ؛ لأنّ معنی استقلاله
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 130
أنّ کلّ سبب بنفسه تمام المقتضی لا جزؤه ، ولا یتنافی الاستقلال فی الاقتضاء والاشتراک فی التأثیر الفعلی . فحینئذٍ مع حفظ إطلاق الجزاء واستقلال الشرطیتین فی الاقتضاء صارت النتیجة التداخل .
وأمّا ما أفاده بقوله لازم إبقاء ظهور الشرط فی المؤثریة المستقلّة اقتضاؤه وجوداً مستقلاًّ فرجوع عن أنّ السببیة الجعلیة عبارة عن نحو اقتضاء بالنسبة إلی المعلول ، لا المؤثّریة الفعلیة الاستقلالیة .
فالأولی : التمسّک بذیل فهم العرف فی إثبات تعدّد الجزاء وجوداً لأجل مناسبات مغروسة فی ذهنه ، کما أشرنا إلیها ؛ ولهذا لا ینقدح فی ذهنه التعارض بین إطلاق الجزاء وظهور الشرطیة فی التعدّد ، بل یحکم بالتعدّد من غیر التفات إلی إطلاق الجزاء .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 131