الفصل الأوّل فی مفهوم الشرط
هل الجمل الشرطیة تدلّ علی الانتفاء عند الانتفاء مع الخلوّ عن القرینة ؟ فیها خلاف :
نسب بعض الأکابر ـ أدام الله أظلاله ـ إلی المتقدّمین : أنّ النکتة الوحیدة فی دلالة القضایا علی المفهوم ـ شرطیة کانت أو وصفیة أو غیرهما ـ هی شیء واحد غیر مربوط بالدلالات اللفظیة ، ومجمله : أنّ الغرض الوحید فی الکلام عند العقلاء هو الإفادة والاستفادة ، فکما هو أصل متّبع فی أصل الکلام فهکذا هو أصل فی قیوده الواردة فیه .
وتوضیحه : أنّ الأصل العقلائی فی کلّ فعل صادر من شاعر مختار ـ ومنه الکلام ـ بما أنّه فعله هو الحمل علی أنّه صدر لغرض لا لغواً .
ثمّ فی الکلام أصل آخر ؛ وهو أنّ صدوره للتفهیم لا لغرض آخر ؛ لأنّه آلة التفهیم ، واستعماله لغیره خلاف الأصل ، ولو شکّ فی الاستعمال الحقیقی والمجازی یحمل علی الأوّل . ولا إشکال فی جریان الأصل العقلائی فی القیود الزائدة فی الکلام ، فإذا شکّ فی قید أنّه أتی به لغواً أو لغرض یحمل علی الثانی ، وإذا شکّ أنّه للتفهیم أو غیره حمل علی الأوّل ، وما یکون القیود آلة لتفهیمه هو یرجع إلی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 99
دخالتها فی الموضوع ، وأنّ إتیان الموضوع مقیّداً لأجل کون الموضوع هو الذات مع القید ، وهذا لیس من قبیل الدلالات اللفظیة ، کما مرّ . فتحصّل من ذلک : أنّ إتیان القید یدلّ علی دخالته فی الحکم ، فینتفی عند انتفائه ، من غیر فرق بین الشرط والوصف وغیرهما ، هـذا حاصل ما قرّره دام ظلّه .
والحقّ : أنّ هذا التقریر لا یفید شیئاً ما لم یضمّ إلیه شیء آخر ؛ وهو أنّ عدم الإتیان بشیء آخر فی مقام البیان یدلّ علی عدم قرین له ، وبه یتمّ المطلوب ، وإلاّ مجرّد عدم لغویة القیود لا یدلّ علی المفهوم ما لم تفد الحصر .
وهو أحد الطرق التی تشبّث به المتأخّرون ، وسیأتی تقریره مع جوابه . ومحصّل تقریره : أنّ المتکلّم إذا کان فی مقام بیان موضوع حکمه فلابدّ أن یأتی بکلّ ما یتقوّم به طبیعة الحکم ، فلو أتی ببعض دون بعض لأخلّ بغرضه ، فلو کان المقوّم لوجوب الإکرام أحد الأمرین من المجیء والتسلیم لما کان له ذکر أحدهما وحذف الآخر .
وحکم المقام حکم باب المطلقات ، فکما یعلم من عدم ذکر الإیمان عدم دخالته فهکذا المقام ؛ إذ المفروض أنّه بصدد بیان ما یتوقّف علیه طبیعة الإکرام .
وأنت خبیر : أنّ ضمّ هذه المقدّمة إلی الاُولی لا یفید فی إثبات المدّعی أیضاً ؛ لأنّ کون المتکلّم فی مقام البیان لا یقتضی عدا أن یبیّن ما هو تمام الموضوع لوجوب الإکرام المسوق له الکلام ، والمفروض أنّه بیّنه ؛ حیث قال : «إن جاءک زید فأکرمه» ، وأمّا إذا فرضنا أنّ للإکرام موضوعاً آخر ـ وهو تسلیم زید ـ فلزوم بیانه لم یدلّ علیه دلیل ، ولا یعدّ عدم بیانه نقضاً للغرض ولا کلامه لغواً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 100
مثلاً قوله : «إذا بلغ الماء قدر کرّ لا ینجّسه شیء» یدلّ باعتبار التقیید بالکرّ علی أنّ ذات الماء لیس موضوعاً للحکم ، وإلاّ لکان القید لغواً ، ویدلّ علی أنّ هذا الموضوع المقیّد تمام الموضوع للحکم ، ولا یکون قید آخر دخیلاً فیه ، وإلاّ کان علیه البیان .
وأمّا عدم نیابة قید آخر عن هذا القید وعدم صدور حکم آخر متعلّقاً بالجاری أو النابع فلیس مقتضی التقیید ولا مقتضی الإطلاق . وقیاس المقام بالمطلق بالجاری أو النابع فلیس مقتضی التقیید ولا مقتضی الإطلاق وقیاس المقام بالمطلق قیاس مع الفارق ؛ إذ الشکّ هنا فی نیابة قید عن آخر بعد تمامیة قیود الحکم المسوق له الکلام ، والشکّ هناک فی تمامیة قیود الحکم المسوق له ، وأنّه هل هو تمام الموضوع أو لا ؟
وأمّا المتأخّرون : فقد استدلّوا بوجوه غیر نقیة عن الإشکال ، کلّها مسوقة لإثبات کون القید علّة منحصرة ، وظاهر ذلک کون الترتّب العلّی أو مطلق الترتّب من المسلّمات عندهم ، مع إمکان منع الأوّل ، بل کفایة مطلق الملازمة العرفیة لصحّة قولنا «لو جاء زید لجاء عمرو» إذا کانا مصاحبین غالباً بلا تجوّز أیضاً . نعم لو لم یکن بینهما ملازمة مطلقاً لما صحّ استعمال الأداة إلاّ بنحو من العنایة .
ومن الوجوه المستدلّ بها : دعوی تبادر العلّة المنحصرة من القضیة أو انصرافها إلیها ، وإثباته علی المدّعی ، مع شیوع الاستعمال فی غیرها بلا عنایة . وما ربّما یدّعی من الأکملیة فهو کما تری .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 101
ومنها : التمسّک بإطلاق أداة الشرط لإثبات الانحصار ، کالتمسّک بإطلاق الأمر لإثبات کونـه نفسیاً تعیینیاً . وما ربّما یورد علیه من أنّ الإطلاق فرع التقیید ، ومعانی أدوات الشرط آلیات لا تقبل التقیید ، فکیف یؤخذ بإطلاقها ؟ فمدفوع بما مرّ ؛ من أنّ التقیید یمکن أن یکون بلحاظ ثان ، وتقدّم الوجوه الاُخر فی ذلک ، فراجع .
نعم ، الإشکال کلّه فی أصل الاستدلال ؛ لما عرفت فی باب الأوامر من أنّ الأقسام کلّها تتمیّز عن المقسم بقیود خارجة منه ، وإلاّ لزم أن یکون القسم عین المقسم ، وهو باطل ، فالإطلاق لا یثبت نفسیة الأمر ولا غیریته ، بل کلّ منهما متمیّز عن نفس الطلب بقید خاصّ ، فلا یعقل أن یکون عدم بیان قید مثبتاً لقید آخر .
فالحکم فی المقیس علیه باطل ، فکیف المقیس ؟ ! لأنّ الترتّب العلّی ینقسم إلی قسمین : انحصاری وغیر انحصاری ، فکلّ واحد مشتمل علی خصوصیة زائدة علی مقسمه ، فلا معنی لإثبات أحدهما بعدم البیان ، علی أنّ القیاس مع الفارق ، یعلم ذلک بالتأمّل .
ومنها : التمسّک بإطلاق الشرط ؛ حیث إنّه لو لم یکن بمنحصر یلزم تقییده ؛ ضرورة أنّـه لو قارنه أو سبقه الآخـر لما أثّر وحـده ، وقضیـة إطلاقـه أنّه یؤثّر کذلک مطلقاً .
وفیه : أنّ معنی الإطلاق لیس أنّ الشرط مؤثّر ؛ سواء قارنه الآخر أم سبقه أم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 102
لحقه ، أو أنّ ذلک مؤثّر وحده بل لا یفید الإطلاق ـ أی عدم ذکر القید فی مقام البیان ـ إلاّ کون الشیء تمام الموضوع للحکم ، وأنّه لو کان شیء آخر دخیلاً کان علیه البیان .
وأمّا لزوم بیان ما هو قرین لهذا الموضوع فی تعلّق الحکم فلم یدلّ علیه دلیل ؛ لعدم لزوم نقض الغرض . وما ذکر فی الاستدلال من أنّه لو لم یکن بمنحصر لزم تقییده ، فلم یعلم له وجه صالح .
وإن شئت قلت : إنّ الإطلاق فی مقابل التقیید ، وکون شیء آخر موضوعاً للحکم أیضاً لا یوجب تقییداً فی الموضوع بوجه .
وأمّا قضیة الاستناد الفعلی بالموضوع مع عدم قرین له قبله وبعده فهو شیء غیر راجع إلی الإطلاق والتقیید ؛ فإنّ الاستناد واللا استناد فی الوجود الخارجی بالنسبة إلی المقارنات الخارجیة غیر مربوط بمقام جعل الأحکام علی العناوین ؛ فإنّ الدلیل لیس ناظراً إلی کیفیـة الاستناد فی الوجود ؛ فضلاً عن النظر إلی مزاحماته فیه .
وکیف کان فالإطلاق غیر متکفّل لإحراز عدم النائب ؛ وإن کان کفیلاً لإحراز عدم الشریک ـ أی القید الآخر ـ ولو فرض إحراز کون المتکلّم بصدد بیان العلّة المنحصرة أو الموضوع المنحصر فهو غیر مربوط بمفهوم الشرط ، بل مع هذا یفهم الحصرمع اللقب أیضاً ، لکنّه لأجل القرینة لا لأجل المفهوم الذی وقع مورد النزاع .
ومنها : ما نقلـه المحقّق المحشّی فی تعلیقته الشریفـة ، وأشار إلیه بعض الأکابر ـ دام ظلّه ـ وهـو أنّ مقتضی الترتّب العلّی أن یکون المقدّم بعنوانـه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 103
الخاصّ علّة ، ولو لم تکن العلّة منحصرة لزم استناد التالی إلی الجامع بینهما ، وهو خلاف ظاهر الترتّب علی المقدّم بعنوانه .
وفیه ـ مضافاً إلی ما قدّمناه من صحّة استعمال القضیة الشرطیة فی مطلق المتلازمین ، فالعلّیة والمعلولیة ممّا لا أصل لهما فی المقام ـ أنّه یرد علیه أنّ قیاس التشریع بالتکوین منشأ لاشتباهات نبّهنا علی بعضها ؛ لأنّ العلّیة والمعلولیة فی المجعولات الشرعیة لیست علی حذو التکوین ؛ من صدور أحدهما عن الآخر حتّی یأتی فیهما القاعدة المعروفة ؛ إذ یجوز أن یکون کلّ من الکرّ والمطر والجاری دخیلاً فی عدم الانفعال مستقلاًّ بعناوینها ، کما هو کذلک .
علی أنّ القاعدة مختصّة للبسیط البحت دون غیره .
ولو أغمضنا عن ذلک کلّه لا یمکن الإغماض عن أنّ طریق استفادة الأحکام من القضایا هو الاستظهارات العرفیة ، لا الدقائق الفلسفیة ، فتدبّر .
ومنها : ما یظهر عن بعض الأعاظم ، وحاصلة : جواز التمسّک بإطلاق الجزاء دون الشرط ؛ قائلاً أنّ مقدّمات الحکمة إنّما تجری فی المجعولات الشرعیة ، ومسألة العلّیة والسببیة غیر مجعولة ، وإنّما المجعول هو المسبّب علی تقدیر وجود سببه ، فلا معنی للتمسّک بإطلاق الشرط ، بل مقدّمات الحکمة تجری فی جانب الجزاء ، من حیث عدم تقییده بغیر ما جعل فی القضیة من الشرط ، مع کونه فی مقام البیان ، ویحرز کونه فی مقامه من تقیید الجزاء بالشرط .
ودعوی کونه فی مقام البیان من هذه دون سائر الجهات فاسدة ؛ فإنّه لو بنی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 104
علی ذلک لانسدّ باب التمسّک بالإطلاقات فی جمیع المقامات ؛ إذ ما من مورد إلاّ ویمکن فیه هذه الدعوی ، انتهی ملخّصاً .
وفیه أوّلاً : أنّ لازم ما ذکره عدم التمسّک بالإطلاق فی أغلب الموارد ؛ لأنّ مصبّ الإطلاق فی قول الشارع مثلاً «اعتق رقبة» إن کان مفاد الهیئة فهو معنی حرفی غیر قابل لجریان مقدّماته فیها علی مذهب القائل ، وإن کان مادّتها أو نفس الرقبة فلیستا من المجعولات الشرعیة . وما هذا إلاّ أنّ إجرائها لا ینحصر بالمجعولات الشرعیة ، بل الغالب جریانها فیما له أثر شرعی .
مثلاً إذا قال : «إن ظاهرت فاعتق رقبة» ، وشکّ فی اعتبار قید فی الرقبة تجری المقدّمات فی نفس الرقبة التی جعلت موضوع الحکم ، وکذا یتمسّک بإطلاق المادّة لو شکّ فی کیفیة العتق ، مع عدم کونهما مجعولین شرعاً ، فکما یقال فی مثل ما ذکر : أنّ ما جعل موضوعاً أو متعلّقاً هو تمامهما ، وإلاّ لکان علیه البیان فکذا یقال فی المقام : لو کان شیء آخر دخیلاً فی الشرط لکان علیه البیان ، وهذا غیر مربوط بجعل السببیة والعلّیة .
وثانیاً : أنّ ما أورده فی إثبات إطلاق الجزاء عین ما ردّه فی ناحیة الشرط ، وما الفرق بین المقامین ؟ ! مع قطع النظر عمّا ذکـره ؛ مـن حدیث عـدم مجعولیـة العلّیة والسببیة .
وثالثاً : أنّ منع مجعولیة السببیة والعلّیة فی غیر محلّه ، وسیوافیک فی محلّه بإذن الله جواز جعلهما ، فارتقب .
بقی اُمور :
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 105