خاتمة فی حکم المتوسط فی أرض مغصوبة
اختلفوا فی حکم المتوسّط فی أرض مغصوبة إذا کان دخوله غصباً وانحصر التخلّص منها بالتصرّف فیها بغیر إذن صاحبها علی أقوال :
أقواها : أنّه منهی عنه بالنهی الفعلی ولیس بمأمور به شرعاً .
وربّما قیل : إنّه واجب لیس إلاّ ، کما عن الشیخ الأعظم .
أو أنّه واجب وحرام ، کما عن أبی هاشم والمحقق القمّی .
أو أنّه مأمور به مع جریان حکم المعصیة علیه بسبب النهی السابق الساقط .
واختار المحقّق الخراسانی : أنّه غیر مأمور به ولا منهی عنه بالنهی الفعلی ، ویجری علیه حکم المعصیة مع إلزام العقل بالخروج ؛ لکونه أقلّ محذوراً .
توضیح المختار وبرهانه : هو أنّه لم یدلّ دلیل علی وجوب الخروج من الأرض المغصوبة أو علی وجوب التخلّص عن الغصب أو وجوب ردّ المال إلی صاحبه أو ترک التصرّف فی مال الغیر بعناوینها ؛ بأن یکون کلّ واحد من هذه العناوین موضوعاً لحکم الوجوب .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 58
وما فی بعض الروایات «المغصوب کلّه مردود» لا یـدلّ علی وجوب الردّ بعنوانه ، بل لمّا کان الغصب حراماً یردّ المغصوب ؛ تخلّصاً عن الحرام عقلاً .
نعم ، لو قلنا : إنّ النهی عن الشیء مقتضٍ للأمر بضدّه العامّ ، وإنّ مقدّمة الواجب واجبة یمکن أن نقول بوجوب بعض العناوین المتقدّمة ؛ لأنّ التصرّف فی مال الغیر إذا کان حراماً یکون ترک التصرّف واجباً ، والخروج من الأرض المغصوبة مقدّمة لترکه ، لکنّه مبنی علی مقدّمتین ممنوعتین .
وأمّا کونه محرّماً بالفعل فکفاک له من الأدلّة ما دلّ علی حرمة التصرّف فی مال الغیر بغیر إذنه .
والسرّ فی ذلک : هو ما قدّمناه فی مبحث الترتّب وأوعزنا إلیه إجمالاً فی مقدّمات المختار عند البحث عن الاجتماع من أنّ الخطابات الکلّیة القانونیة تفارق الخطابات الشخصیة ملاکاً وخطاباً ؛ لأنّ الخطاب القانونی لا ینحلّ بعدد المکلّفین ، بل خطاب واحد فعلی علی عنوانه ، من غیر لحاظ حالات کلّ واحد من المکلّفین . والخطاب الشخصی وإن کان یستهجن بالنسبة إلی الغافل والعاجز والمضطرّ والعاصی ونظائرها إلاّ أنّ صحّة الخطاب العمومی لا تتوقّف علی صحّة الباعثیة بالنسبة إلی جمیع الأفراد ، بل انبعاث عدّة مختلفة منهم کافٍ فی جعل الحکم الفعلی علی عنوانه العامّ بلا استثناء .
کما أنّها غیر مقیّدة بالقادر العالم الملتفت ؛ لا من ناحیة الحاکم ، ولا من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 59
ناحیة العقل ؛ کشفاً أو حکومة ، بل العقل یحکم بأنّ لذی العذر عذره .
وأمّا الخطاب فهو فعلی فی حقّ اُولی الأعذار عامّة ، غایة الأمر هم معذورون فی ترک التکلیف الفعلی أحیاناً . واستهجان الخطاب مندفع بکون الخطاب لیس شخصیاً ، بل کلّی عامّ .
وحینئذٍ فمثل قوله علیه السلام : «لا یحلّ لأحد أن یتصرّف فی مال غیره بغیر إذنه» حکم فعلی ، من غیر فرق بین العالم والجاهل والعاجز والقادر ، من غیر وقوع تقیید من ناحیة الجاعل ، ولا إمکان التقیید من ناحیة العقل ؛ لأنّ تصرّف العقل فی إرادة الجاعل محال ، بل شأنه لیس إلاّ التعذیر دون رفع الخطاب ، فیحکم فی بعض الموارد : أنّ العاجز فی مخالفة التکلیف الفعلی معذور .
ولکن المقام لیس من هذا القبیل ؛ لأنّه یحکم بمعذوریة العاجز إذا طرئه العجز بغیر سوء اختیاره ، وأمّا معه فلا یراه معذوراً فی المخالفة .
فالحکم الفعلی بالمعنی المتقدّم قـد یخالف بلا عـذر وقـد یخالف معـه ، وما نحن فیه من قبیل الأوّل ؛ إذ کان له امتثال النهی بترک الدخـول من أوّل الأمـر ؛ إذ مَثَل المتوسّط فی الأرض المغصوبة مثل من اضطرّ نفسه إلی أکل المیتة بسوء اختیاره ، فهو ملزم من ناحیة عقله بأکلها حتّی یسدّ به رمقه ویدفع به جوعه ، إلاّ أنّـه فَعَل محرّماً یشمله قوله تعالی : «حُرّمَت عَلَیکُمُ المَیتَةُ» ولا یراه العقل معذوراً فی ترک الخطاب الفعلی .
وهکذا الحال فی جمیع الموارد التی سلب المکلّف قدرته اختیاراً ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 60
ولو ساعدنا القوم فی سقوط الأمر لا یمکن المساعدة فی عدم إجراء حکم المعصیة بشهادة الوجدان والعقل .
وأمّا ما حکی عن أبی هاشم : من أنّه مأمور به ومنهی عنه أو عن صاحب «الفصول» من أنّه مأمور به ومنهی عنه بالنهی السابق الساقط فالحقّ فی ترجیح القولین هو أنّه لو قلنا بوجوب ردّ المال إلی صاحبه أو وجوب التخلّص عن التصرّف أو ترک التصرّف ، وکان التصرّف الخارجی مقدّمة للواجب ، وقلنا بجواز تعلّق النهی بالتصرّف ـ کما عرفت ـ فالترجیح مع قول أبی هاشم ، ویکون من باب الاجتماع ، وإلاّ فیقدّم قول صاحب «الفصول» . کما أنّه إن قلنا بأنّ قید المندوحة لا یعتبر فی باب اجتماع الأمر والنهی فلا محیص عن قول أبی هاشم ، وإلاّ فیختار قول صاحب «الفصول» .
وما ربّما یقال : من أنّه یلزم علی القولین تعلّق الأمر والنهی بشیء واحد ؛ أمّا علی الأوّل فواضح ، وأمّا علی الثانی : لأنّ اختلاف زمانی الأمر والنهی مع کون النهی بلحاظ وجود متعلّقه غیر مؤثّر فی رفع المنافاة ؛ إذ النهی بلحاظ حال وجود الخروج ، ومعه کیف یکون مأموراً به ؟
ففیه ما لا یخفی ؛ لأنّ النهی متعلّق بعنوان التصرّف فی مال الغیر والأمر المقدّمی بحیثیة ما یتوقّف علیه ذو المقدّمة أو ما یتوصّل به إلیه ، وهما بما لهما من العنوان قابلان لتعلّق الأمر والنهی بهما ، لا بما هما موجودان فی الخارج ؛ إذ الوجود
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 61
الخارجی لا یتعلّق به الأمر والنهی ، فاتّحاد مقدّمة الواجب مع التصرّف فی مال الغیر فی الوجود الخارجی لا یمنع عن تعلّق التکلیف بالعناوین ، کما مرّ تفصیلاً .
ویمکن أن یقال : إنّ المحرّم هو عنوان التصرّف فی مال الغیر والمأمور به هو عنوان الخروج ، کاختلاف الصلاة والغصب .
ثمّ إنّ بعض الأعاظم اختار ما نسب إلی الشیخ الأعظم من وجوب الخروج وعدم الحرمة ؛ لا خطاباً ولا عقاباً ، وبنی المسألة علی دخول المقام فی القاعدة المعروفة من «أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیار» وعدمه ، واختار العدم واستدلّ علیه بأنّها إنّما تتمّ فی المقدّمات الإعدادیة التی لا یکون الخطاب مشروطاً بها ، فلا یشمل المقام ؛ إذ الدخول موضوع للخروج ، وهو مشروط به ، فقبل الدخول لا یعقل النهی ، وبعده لیس منهیاً عنه حسب تسلیم الخصم .
وأیضاً یعتبر فی مورد القاعدة أن یکون الفعل الممتنع علیه بالاختیار غیر محکوم بحکم یضادّ حکمه السابق ، کما فی المقام ؛ حیث إنّ الخروج عن الدار الغصبیة ممّا یحکم بلزومه العقل ، وهو ینافی الحکم السابق .
وفیه أوّلاً : أنّا نمنع اشتراط حرمة الخروج شرعاً بالدخول ، بل هو حرام بلا شرط ، غایة الأمر یکون بلا دخول من السوالب المنتفیة بانتفاء موضوعها .
وثانیاً : أنّ ماذکره من تخصیص مورد القاعدة لم یدلّ علیه دلیل ؛ إذ لا مانع من کون الخروج واجباً وحراماً بعنوانین لو قلنا بـ «أنّ الامتناع بالاختیار لا ینافی الاختیـار» خطاباً وملاکاً ، أو یکون فیه ملاک الحرمة فقط لو قلنا بأنّه لا ینافی ملاکاً فقط .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 62
وثالثاً : أنّ القاعدة أجنبیة عمّا نحـن فیه ، فلا معنی لابتناء المقام فی دخولـه فیها وعدمـه ؛ لأنّها فی مقابل من توهّم أنّ قاعـدة «الشیء ما لم یجب لم یوجد وما لم یمتنع لم یعدم» منافیة للاختیار فی الأفعال ، فیلزم أن یکون الواجب تعالی فاعلاً موجباً ـ بالفتح ـ فإنّ أفعالـه الواجبـة حینئذٍ خارجـة مـن حیطـة الاختیار .
فأجابوا عنه بأنّ الإیجاب السابق من ناحیة العلّة وباختیاره لا ینافی الاختیار ، وأنّه تعالی فاعل موجب ـ بالکسر ـ والإیجاب بالاختیار کالامتناع بالاختیار ؛ أی جعل الشیء ممتنعاً بالاختیار لا ینافی الاختیار ، بل یؤکّده .
والسرّ فیه : أنّ أفعال الواجب یصدر عـن حاقّ إرادتـه واختیاره الذی هـو عین ذاتـه المقدّسـة ، ولا یکون مـن قبیل الأفعال التسبیبیة الخارجـة مـن تحت قدرتـه بإیجاد أسبابه ؛ لأنّ الأسباب والمسبّبات کلّها فی کلّ آن وزمان تحت سلطان قدرته .
وما نحن فیه غیر مرتبط بهذه القاعدة ؛ لأنّ أفعالنا قد تخرج مـن تحت قدرتنا بترک مقدّماتها ، کالخـروج إلی الحـجّ ؛ ضرورة أنّه مـع ترک الخـروج اختیاراً یخرج إتیان الحجّ مـن اختیارنا فی الموسم ، فهذا الامتناع ینافی الاختیار مع کونه بالاختیار ، وقد تخرج مـن تحت قدرتنا بإیجاد سببه بالاختیار ، کرَمی الحجـر والإلقاء مـن الشاهـق ، وهـذا أیضاً إیجاب أو کإیجاب بالاختیار ، وهـو ینافی الاختیار . وما ذکرناه فی توضیح القاعدة هو المستفاد من کلام أکابر الفنّ قدّس الله أسرارهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 63
والظاهر : وقوع الخلط بین هذه القاعدة العقلیة وبین قاعدة اُخری عقلائیة ؛ وهی أنّ الاضطرار إلی فعل الحرام أو ترک الواجب إذا کان بسوء الاختیار هل هو عذر عند العقلاء ولدی العقل ؛ بحیث یقبح العقاب علیه ، أو لیس بعذر ؟
الأقوی هو الثانی ؛ فمن ترک المسیر إلی الحجّ بسوء اختیاره حتّی عجز عنه یصحّ عقابه ؛ وإن کان ینافی الاختیار ، وکذا من اضطرّ نفسه علی التصرّف فی مال الغیر بلا إذنه ـ کالتصرّف الخروجی المضطرّ علیه بحکم العقل ـ لا یکون معذوراً عقلاً ، کمن سلب قدرته عن إنقاذ الغریق .
وسیجیء تتمّة المقال عند البحث فی حدیث الرفع بإذنه تعالی .
هذا حال الحکم التکلیفی .
وأمّا الوضعی ، فنقول : إنّه علی القول بجواز الاجتماع لا إشکال فی صحّه الصلاة ، بعد تسلیم تعدّد المتعلّقین ، وکون حیثیة المبغوض غیر حیثیة المحبوب ، وهکذا المقرّب والمبعّد .
وأمّا علی الامتناع فصحّة الصلاة یتوقّف علی أمرین :
أحدهما : اشتمال کلّ من متعلّقی الأمر والنهی علی ملاک تامّ ؛ إذ الصحّة تدور مدار الأمر أو الرجحان الذاتی والخلوّ عن الملاک ینفی کلا الأمرین .
ثانیهما : عدم مغلوبیة ملاک الصحّة فی الصلاة بملاک أقوی ؛ إذ الغالب من الملاک یوجب خلوّ الآخر من الملاک فعلاً ، والصحّة موقوفة علی الأمر وهو منتفٍ بالفرض ، أو علی الملاک ، وقد زاحمه الملاک الغالب .
وحینئـذٍ : فلو اخترنا أنّ الامتناع لأجل کونـه تکلیفاً محالاً لا تکلیفاً بالمحال فالشرطان مفقودان ؛ لأنّ القائل به لابدّ أن یعتقد أنّ متعلّق الأمر والنهی
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 64
واحـد ؛ بحیث یکون الشیء الواحد بحیثیة واحدة محبوباً ومبغوضاً ؛ حتّی یصیر نفس التکلیف محالاً ؛ إذ لا یعقل حینئذٍ وجود ملاکی البعث والزجر فی شیء واحـد بحیثیة واحدة .
وأمّا علی القول بأنّه تکلیف بالمحال فلا بأس به ؛ لأنّ ملاک الغصب لا یزیل ملاک الأمر فی مقام تعلّق الأحکام بالعناوین ؛ لکونها فی ظرف تعلّق التکالیف مختلفة غیر مختلطة ؛ وإن امتنع الاجتماع لأجل اُمور اُخر .
وما تقدّم عن بعض الأعاظم مـن الکسر والانکسار ـ لو صـحّ ـ فإنّما یصـحّ علی القول بکون الامتناع لأجـل التکلیف المحال ؛ حتّی یکون المتعلّق واحـداً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 65
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 66