فیما استدلّ به للقول بالامتناع

فیما استدلّ به للقول بالامتناع

‏ ‏

‏استدلّ القائلون بالامتناع بوجوه ؛ أسدّها ماذکره المحقّق الخراسانی ، ورتّبه‏‎ ‎‏علی مقدّمات ؛ عمدتها هو کون الأحکام الخمسة متضادّة فی مقام فعلیتها وبلوغها‏‎ ‎‏إلی مرتبة البعث والزجر ؛ لعدم المنافاة بین وجوداتها الإنشائیة قبل البلوغ إلیها‏‎[1]‎‏ .‏

وأنت خبیر :‏ بأنّ ما أحکمناه کافٍ فی إثبات المطلوب ؛ سواء ثبت التضادّ بین‏‎ ‎‏الأحکام أم لا .‏

‏ولمّا انجرّ الکلام إلی هنا لا بأس بتوضیح الحال فیها ، فنقول :‏

‏عُرّف الضدّان بأ نّهما أمران وجودیان لا یتوقّف تعقّل أحدهما علی الآخر ،‏‎ ‎‏یتعاقبان علی موضوع واحـد بینهما غایة الخلاف‏‎[2]‎‏ ، وقالوا : إنّ من شرط التضادّ‏‎ ‎‏أن یکون الأنواع الأخیرة التی توصف به داخلة تحت جنس واحد قریب‏‎[3]‎‏ ،‏‎ ‎‏فلا یکون بین الأجناس ولا بین صنفین من نوع واحد ولا شخصین منه تضادّ . وما‏‎ ‎‏ذکرناه هو المختار عند الأکابر .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 50
فالتعریف المذکور لا ینطبق علی الأحکام :

‏أمّا‏‏ علی القول المختار بأنّ الأحکام عبارة ـ مثلاً ـ عن البعث والزجر‏‎ ‎‏المنشأیـن بالآلات والأدوات فواضح جـدّاً ؛ لأنّ البعث والزجـر بالهیئـة الدالّـة‏‎ ‎‏علیهما إنّما هـو بالمواضعة والاعتبار ، وهما لیسا مـن الاُمـور الوجودیـة الحالّـة‏‎ ‎‏فی موضوعها الخارجی ، بل اُمـور اعتباریـة عقلائیة ، وهم یرون البعث بالهیئـة‏‎ ‎‏مکـان البعث التکوینی ، لکـن بحسب الوضع والاعتبار القائمین بنفس المعتبر ؛‏‎ ‎‏قیاماً صدوریاً .‏

وأمّا‏ علی القول بکونها عبارة عن الإرادات أو عن الإرادات المظهرة ـ کما‏‎ ‎‏اختاره بعض محقّقی العصر  ‏‏رحمه الله‏‎[4]‎‏ ، وقد أوعزنا إلی دفعه سابقاً‏‎[5]‎‏ ـ فکذلک أیضاً ؛‏‎ ‎‏لأنّ الشرط ـ کما أسمعناک ـ کون الأمرین الوجودیین داخلین تحت جنس قریب .‏‎ ‎‏وعلیه لابدّ أن یکونا نوعین مستقلّین ، مع أنّ إرادة البعث والزجر داخلتین تحت‏‎ ‎‏نوع واحد ، ومعه کیف تصیران متضادّتین ؟‏

‏فإن قلت : إنّ مبدأ الأمر ـ وجوبیاً أو ندبیاً ـ وإن کان هو إرادة البعث ، علی ما‏‎ ‎‏هو التحقیق من أنّ الإرادة التشریعیة لا تتعلّق إلاّ بالبعث والتحریک ، لا بصدور الفعل‏‎ ‎‏من الغیر ، إلاّ أنّ مبدأ النهی هو الکراهة ، وهما لیستا من نوع واحد .‏

‏قلت : الکراهـة لیست بمبدأ قریب للنهی ، بل المبدأ القریب هو إرادة الزجر ؛‏‎ ‎‏وذلک لأنّ الکراهة والاستقباح فی مقابل الشوق والاستحسان ، فکما أنّ اشتیاق‏‎ ‎‏صدور شیء من المکلّف ربّما یصیر مبدأ لحدوث إرادة البعث نحو المطلوب ، کذلک‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 51
‏الکراهة وتنفّر الطبع عنه ربّما تصیر مبدأ لإرادة الزجر التشریعی عن العمل .‏

فظهر :‏ أنّ ما یقابل الاشتیاق هو الکراهة ، وأ نّهما من مبادئ الإرادة‏‎ ‎‏التشریعیة أحیاناً ، والمبدأ القریب للنهی هو نفس الإرادة لا الاستکراه ، والإرادتان‏‎ ‎‏من نوع واحد ، فاختلّ ماهو الشرط للتضادّ .‏

وببیان أوضح :‏ أنّ الإرادات لیست أنواعاً مختلفة تحت جنس قریب ؛ أمّا‏‎ ‎‏الـواجب والمستحبّ وکـذا الحـرام والمکروه فواضح ؛ لأنّ الإرادة الوجوبیـة‏‎ ‎‏والاستحبابیة مشترکتان فی حقیقة الإرادة ومتمیّزتان بالشدّة والضعف ، فإذا أدرک‏‎ ‎‏المولی مصلحة ملزمة تتعلّق به الإرادة الشدیدة وینتزع منها الوجوب ، أو أدرک‏‎ ‎‏مصلحة غیر ملزمة تتعلّق به الإرادة لا بنحو الشدّة ، بل علی نحو یستظهر منها‏‎ ‎‏الترخیص فی الترک ، وینتزع منها الاستحباب .‏

‏وقس علیهما الحـرام والمکروه ؛ فإنّ المبدأ القریب للنهی ـ تحریماً کان أو‏‎ ‎‏تنزیهاً ـ إنّما هو الإرادة فیما إذا أدرک أنّ فی الفعل مفسدة ، فیتوصّل لسدّ بابها‏‎ ‎‏بزجـر العبد تشریعاً ، فیرید الزجر التشریعی فیزجرهم .‏

‏فإرادة الزجر المظهرة إذا کانت إلزامیة ینتزع منها التحریم ، وإن کانت غیر‏‎ ‎‏الزامیة ینتزع منها الکراهة .‏

فتلخّص :‏ أنّ ماهو المبدأ الأخیر هو الإرادة ، وعلی القول بانتزاع الأحکام‏‎ ‎‏من الإرادات المظهرة لا یتفاوت فیه الوجوب وغیره ، وقد عرفت أنّ الإرادة هی‏‎ ‎‏المبدأ القریب للإظهار ، فلا تکون الأحکام أنواعاً مختلفة مندرجة تحت جنس‏‎ ‎‏قریب ، علی ما هو المناط فی الضدّین .‏

‏ثمّ إنّ عدم اجتماع الوجوب والحرمة ، لا یعدّ دلیلاً علی اندراجهما تحت‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 52
‏التضادّ ، لأنّ عدم الاجتماع أعمّ منه سواء أقلنا بأنّ الأحکام اُمور اعتباریة أم هی‏‎ ‎‏إرادات مظهرة :‏

‏أمّا علی الأوّل فعدم الاجتماع ـ مع تسلیم إمکان الجعل ـ هو لغویة جعل‏‎ ‎‏حکمین مختلفین فی شیء واحد فی زمن واحد ، لا یمکن امتثالهما.‏

‏بل یمکن أن یقال : إنّ الوجه، هو امتناع الجعل الجدّی عندئذٍ ؛ لأنّ الغایة من‏‎ ‎‏جعل الحکم هو انبعاث العبد من الإنشاء ، ولازم الانبعاث من الأمر هو الفعل ،‏‎ ‎‏ولازم الانبعاث من النهی هو الترک ، وهما لا یجتمعان.‏

‏وکـذا علی القول بکونها عبارة عن الإرادات ؛ لامتناع تعلّق الإرادة بالبعث‏‎ ‎‏إلی العمل والزجر عـن الفعل ، کتعلّق الإرادة بالطیـران إلی الهواء ، فعدم الاجتماع‏‎ ‎‏أعمّ من التضادّ.‏

‏وأیضاً لو اعتبرنا فی تحقّق التضادّ کون الأمرین ممّا بینهما غایة الخلاف‏‎ ‎‏لا یتحقّق التضادّ فی جمیع الأحکام ؛ لأنّ الوجوب والاستحباب لیس بینهما غایة‏‎ ‎‏الخلاف ، وقس علیه الحرمة والکراهة . بل تخرج الأحکام عن تقابل التضـادّ بقولنا‏‎ ‎‏یتعاقبان علی موضوع واحد ؛ لأنّ المراد من الموضوع هو الموضوع الشخصی لا‏‎ ‎‏الماهیة النوعیة ، وقد مرّ‏‎[6]‎‏ أنّ متعلّقاتها لا یمکن أن یکون الموجود الخارجی ، فلا‏‎ ‎‏معنی للتعاقب وعـدم الاجتماع فیه .‏

فظهـر :‏ أنّ حدیث التضادّ بین الأحکام ـ وإن اشتهر بین المتأخّرین‏‎[7]‎‏ ـ ممّا‏‎ ‎‏لا أساس له ، کما علیه بعض أهل التحقیق قدّس الله سرّه‏‎[8]‎‏ .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 53

  • )) کفایة الاُصول : 193 .
  • )) الحکمة المتعالیة 2 : 112 ـ 113 ، شرح المنظومة ، قسم الحکمة : 41 .
  • )) التحصیل : 37 ، الحکمة المتعالیة 2 : 113 .
  • )) نهایة الأفکار 1 : 302 ، بدائع الأفکار (تقریرات المحقّق العراقی) الآملی 1 : 345 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 320 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 489 ـ 490 .
  • )) قوانین الاُصول 1 : 142 / السطر14 ، هدایة المسترشدین 3 : 93 ، کفایة الاُصول : 193 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 308 .