دفع الإشکالات الواردة علی القول بجواز الاجتماع

دفع الإشکالات الواردة علی القول بجواز الاجتماع

‏ ‏

‏ومن ذلک یظهر حلّ بعض العویصات المتوهّمة فی المقام من :‏

إنّه یلزم علی القول بجواز الاجتماع‏ کون شیء واحد محبوباً ومبغوضاً وذا‏‎ ‎‏صلاح وفساد ومقرّباً ومبعّداً ؛ فإنّ محـطّ الحبّ ومناخ الشوق هـو ما یسعف‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 45
‏حاجتـه ویقضی مراده ، وهـو لیس إلاّ الخـارج ؛ إذ إلیه یشدّ رحـال الآمال ، وعنده‏‎ ‎‏تناخ رکائبها .‏

توضیح الضعف :‏ أنّه إن اُرید الاجتماع فی المراحل المتقدّمة علی الأمر‏‎ ‎‏والنهی ؛ بأن یجتمعا فی مبادئهما الموجودة فی نفس المولی فهو واضح البطلان ؛‏‎ ‎‏لأنّ المتصوّر من کلٍّ غیر المتصوّر من الآخر ، ومورد تصدیق المصلحة غیر مورد‏‎ ‎‏تصدیق المفسدة ، وقس علیهما سائر المراحل ، وکذا العنوان المتعلّق به الحکم من‏‎ ‎‏کلّ ، غیر الآخر ، لو فرض تعلّق البعث والزجر به .‏

‏و إن اُرید کون الموجود الخارجی محبوباً ومبغوضاً فلا محذور فیه ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الحبّ والبغض من الأوصاف النفسانیة ، وتقوّمها إنّما هو بمتعلّقاتها ؛ إذ الحبّ‏‎ ‎‏المطلق والشوق بلا متعلّق لا معنی لهما ، ولکن ما هو المتعلّق إنّما هو صور‏‎ ‎‏الموجودات وعناوینها ؛ إذ الخارج یمتنع أن یکون مقوّماً لأمر ذهنی ، وإلاّ لزم‏‎ ‎‏الانقلاب وصیرورة الذهن خارجاً أو بالعکس .‏

‏أضف إلی ذلک : أنّ الحبّ أو الشوق قد یتعلّق بما هو معدوم ، والمعدوم یمتنع‏‎ ‎‏أن یقع مقوّماً للموجود .‏

‏وبما ذکرنا یظهر : أنّه لا مناص عن القول بأنّ متعلّقی الحبّ والبعض‏‎ ‎‏متغایران حقیقة ؛ لأنّ وعاء الذهن وعاء التحلیل والتجزئة ، فالصورة التی تعلّق بها‏‎ ‎‏الحبّ غیر الصورة التی تعلّق بها البغض ، ولمّا کانت العناوین وجوهاً لمصادیقها فلا‏‎ ‎‏محالة یصیر الخارج محبوباً ومبغوضاً بالعرض وبالواسطة .‏

‏لا یقال : کون الموجود الخارجی محبوباً بالعرض خلاف الوجدان‏‎ ‎‏والإنصاف ، ولا یقال هذا محبوب إلاّ إذا وجد فیه المبدأ حقیقة ، فعلی القول‏‎ ‎‏بالاجتماع یلزم اجتماع مبدأین متضادّین فی واحد شخصی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 46
‏لأنّا نقول : کون الشیء محبوباً ومبغوضاً لا یستلزم کون الخارج متّصفاً‏‎ ‎‏بمبدأین متضادّین ؛ إذ فرق بین الأعراض الخارجیة التی تقع ناعتة لموضوعاتها‏‎ ‎‏کالأبیض والأسود ، وبین الأوصاف النفسانیة التی لها نحو إضافة إلی الخارج ،‏‎ ‎‏کالحبّ والبغض .‏

‏فکون الشیء محبوباً لیس معناه إلاّ وجود حبّ فی النفس مضافاً إلی صورته‏‎ ‎‏أوّلاً ، ثمّ إلی الخارج ثانیاً ، ومع ذلک لا یحصل فی الخارج تغیّر ولا وجود عرض‏‎ ‎‏حالّ فی المحبوب .‏

‏والحاصل : أنّ هذه الأوصاف لیس بحذائها شیء فی الخارج حتّی یلزم‏‎ ‎‏وجود مبدأین متضادّین فی الوجود الواحد ـ أعنی ما تعلّق به الحبّ والبغض ـ بل‏‎ ‎‏حبّ کلّ محبّ قائم بنفسه لا یسری إلی محبوبه ؛ فإنّ الله تعالی محبوب الأولیاء‏‎ ‎‏والمؤمنین ، ولا یمکن حدوث صفة حالّة فیه بعددهم ، بل المحبوبیة والمبغوضیة من‏‎ ‎‏الصفات الانتزاعیة التی یکون لها منشأ انتزاع .‏

‏فلابدّ من لحاظ المنشأ ؛ فإنّ المنتزع تابع لمنشأه فی الوحـدة والکثرة ، بل‏‎ ‎‏فی جمیع الشؤون ، وقـد عرفت أنّ منشأ انتزاعها هی الأوصاف والکیفیات‏‎ ‎‏النفسانیـة القائمـة بذات النفس المتشخّصـة بالصورة الحاصلـة فیها التی اُخـذت‏‎ ‎‏مـرآة للخارج .‏

‏وبهذا یظهر صحّة انتساب المحبوبیة بنحو إلی ما لیس موجوداً فی الخارج ،‏‎ ‎‏ولو کان مناط الانتساب قیام صفة خارجیة بالموضوع لامتنع الانتساب قطعاً ،‏‎ ‎‏ونظیره العلم والقدرة ؛ فإنّ الشیء یصیر قبل تحقّقه معلوماً ومقدوراً ؛ إذ لیس المناط‏‎ ‎‏قیام صفة خارجیة بالموضوع .‏

إذا عرفت ذلک فنقول :‏ یمکن أن یتعلّق الحبّ بعنوان والبغض بعنوان آخر ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 47
‏فیکون الموجـود الخارجی محبوباً ومبغوضاً ، مع کـون العنوانین موجـودین‏‎ ‎‏بوجود واحد .‏

‏ألا تری : أنّ البسائط الحقیقیة معلومة لله تعالی ومقدورة ومرضیة ومعلومة‏‎ ‎‏وهکذا ، ولا یلزم من ذلک تکثّر فی البسائط ؛ إذ التکثّر فی ناحیة الإضافة ،‏‎ ‎‏ولا إشکال فی تکثّر الإضافات بالنسبة إلی شیء واحد بسیط ، من غیر حصول‏‎ ‎‏تکثّر فیه ، کما فی الإضافات إلی الباری سبحانه .‏

ویرشدک إلی ما ذکرنا :‏ أنّه یمکن أن یکون شیء بسیط معلوماً ومجهولاً‏‎ ‎‏بجهتین ، کالحرکـة الخاصّة الرکوعیـة فی الـدار المجهولـة غصبیتها ؛ فإنّها مـع‏‎ ‎‏وحدتها معلومة بوصف الرکوع ومجهولة بوصف التصرّف فی مال الغیر ، فلو کانت‏‎ ‎‏المعلومیة والمجهولیة کالبیاض والسواد من الصفات الخارجیة لامتنع اجتماعهما‏‎ ‎‏فی واحد .‏

‏والسرّ فی اجتماعهما وکذا فی اجتماع غیرهما : هو کونهما من الاُمور‏‎ ‎‏الانتزاعیة ؛ فإنّ المعلومیة أو المحبوبیة منتزعان من تعلّق العلم والحبّ بالصورة‏‎ ‎‏الحاکیة عن الخارج ، بلا حدوث صفة فی الخارج ، فتدبّر .‏

وأمّا حدیث‏ قیام المصلحة والمفسدة بشیء واحد فهو أیضاً لا محذور فیه ؛‏‎ ‎‏لأنّهما أیضاً لا یجب أن تکونا من الأعراض الخارجیة القائمة بفعل المکلّف ؛ لأنّ‏‎ ‎‏معنی کون التصرّف فی مال الغیر ظلماً وقبیحاً وذا مفسدة هو کونه مستلزماً للهرج‏‎ ‎‏والمرج ، وموجباً لاختلال نظام العباد ، من غیر أن یکون هذه العناوین أوصافاً‏‎ ‎‏خارجیة قائمة بالموضوع .‏

‏وقس علیه الخضوع لله والرکوع له ؛ فإنّ کلّ واحد قیام بأمر العبودیة وله‏‎ ‎‏حسن ومصلحة ، من دون أن یکون هذه العناوین أعراضاً خارجیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 48
ومن ذلک یظهر :‏ أنّه لا استحالة فی کون المقرّب مبعّداً والمبعّد مقرّباً ؛ لأنّ‏‎ ‎‏المراد منها لیس هو القرب والبعد المکانیین حتّی لا یمکن اجتماعهما ، بل المعنوی‏‎ ‎‏من ذلک ، وهو لیس أمراً حقیقیاً بل اعتباریاً عقلائیاً یدور مدار الجهات الموجبة له‏‎ ‎‏عندهم .‏

‏ولذلک یری العقل والعقلاء الفرق بین مَن ضرب ابن المولی فی الدار‏‎ ‎‏المغصوبة ومن أکرمه فیها ؛ فحرکة الید لإکرام ابن المولی من جهة أنّها إکرام محبوبة‏‎ ‎‏وصالحة للمقرّبیة ، ومن جهة أنّها تصرّف فی مال الغیر عدواناً مبغوضة ومبعّدة .‏‎ ‎‏ومسّ رأس الیتیم فی الدار المغصوبة من جهة أنّه الرحمة علیه حَسَن وذو مصلحة ،‏‎ ‎‏ومن جهة أنّه تصرّف فی مال الغیر قبیح وذو مفسدة . والصلاة فی الدار المغصوبة‏‎ ‎‏من جهة أنّها مصداق الصلاة محبوبة ومقرّبة ، ومن جهة أنّها مصداق الغصب‏‎ ‎‏مبغوضة ومبعّدة‏‎[1]‎‏ .‏

‏وقد عرفت : أنّ الشیء الواحد ـ حتّی البسیط منه ـ یجوز أن یتّصف بمثل‏‎ ‎‏هذه الانتزاعیات . ولو أمکن أن یکون الشیء الواحد محبوباً لجهة ومبغوضاً لجهة‏‎ ‎‏أمکن أن یکون مقرّباً ومبعّداً من جهتین ، من غیر لزوم تضادّ وامتناع .‏

وأظنّ :‏ أنّک لو تدبّرت فیما هو الملاک فی کون الشیء مقرّباً ومبعّداً عند‏‎ ‎‏العقلاء ، وأنّ التقرّب والتبعّد فی هاتیک المقامات یدوران مدار الاعتبار یسهّل لک‏‎ ‎‏تصدیق ما ذکرنا .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 49

  • )) کفایة الاُصول : 193 .