مقتضی التحقیق هو القول بجواز الاجتماع
إذا عرفت ما ذکرنا : فالتحقیق هو الجواز ، ویتّضح بترتیب مقدّمات :
الاُولی : أنّ الحکم ـ بعثاً کان أو زجراً ـ إذا تعلّق بعنوان مطلق أو مقیّد یمتنع أن یتجاوز عن متعلّقه إلی مقارناته الاتّفاقیة ولوازمه الوجودیة حتّی یقع الخارج من المتعلّق تحت الأمر أو النهی ؛ فإنّ تجاوزه عنه إلی ما لا دخالة له فی تحصیل غرضه جزاف بلا ملاک .
وبالجملة : أنّ الإرادة التشریعیة کالتکوینیة فی ذلک ، فکما أنّ الثانیة تابعة لإدراک الصلاح ولا تتعلّق إلاّ بما هو دخیل بحسب اللبّ فی تحصیل الغرض ولا تسری من موضوعه إلی ما لا دخالة له فی وعاء من الأوعیة ، فکذلک الاُولی .
وإن شئت قلت : تعلّق الأمر بالصلاة لا یمکن إلاّ إذا کانت الخصوصیات المأخوذة فیها دخیلة فی تحصیل المصلحة ، فکما لا یمکن تعلّقه بالفاقد منها کذلک لا یمکن تعلّقه بالخصوصیة غیر الدخیلة فی تحصیلها . وقس علیه تعلّق النهی بعنوان الغصب أو التصرّف فی مال الغیر بلا إذن منه .
فالمقارنات الاتّفاقیة والملازمات الوجودیة للمأمور به فی الوجود الخارجی أو الذهنی کلّها خارجة من تحت الأمر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 39
الثانیة : أنّ الإطلاق ـ کما أوعزنا إلیه وسیوافیک فی محلّه ـ لیس إلاّ کون ما وقع تحت الأمر تمام الموضوع للحکم .
وأمّا ما ربّما یتوهّم من أنّ الإطلاق عبارة عن لحاظ المطلق ساریاً فی أفراده دارجاً فی مصادیقه أو مرآة لحالاته فضعیف غایته ؛ لأنّ سریان الطبیعة فی أفراده أمر ذاتی ، علی ما حرّر فی محلّه ، هذا أوّلاً . وعدم إمکان کون الماهیة آلة للحاظ تلک الخصوصیات ثانیاً ، بل لابدّ هنا من دالّ آخر یدلّ علی الکثرة وراء الطبیعة من لفظة «کلّ» أو «اللام» المفیدة للاستغراق ، ومعه یصیر عموماً لا إطلاقاً .
وبه یظهر أنّ ما ربّما یقال : من أنّ معنی الإطلاق هو کون الشیء بتمام حالاته ولواحقه موضوعاً للحکم ، وأنّ معنی قوله : «إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة» هو أنّه یجب علیک عتقها ؛ سواء کانت عادلة أم فاسقة ، عالمة أم جاهلة .
ممّا لا أصل له ؛ إذ الدخیل فی الغرض هو ذات الطبیعة لا حالاتها وقیودها المتصوّرة ؛ ولذلک قد ذکرنا فی محلّه : أنّ الإطلاق واقع فی عداد الدلالات العقلیة ؛ أی دلالة فعل المتکلّم بما هو فاعل مختار بحسب العقل علی أنّ ما أفاده هو تمام مقصوده ومحصّل غرضه .
فعلی ما ذکرنا : فإطلاق قوله سبحانه «أَقِمِ الصَّلاةَ . . . » إلی آخره ـ علی فرض إطلاقه ـ عبارة عن تعلّق الحکم بها بلا دخالة لشیء آخر فی الموضوع ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 40
وإطلاق قوله «لا یجوز التصرّف فی مال الغیر بلا إذنه» عبارة عن کون ذاک العنوان تمام الموضوع للحرمة ، فلا یمکن أن یکون الأوّل ناظراً إلی الصلاة فی الدار المغصوبة ، ولا الثانی إلی التصرّف بمثل الصلاة .
الثالثة : أنّ اتّحاد الماهیة اللابشرط مع ألف شرط فی الوجود الخارجی لا یلزم منه حکایة المعروض عن عارضه إذا کان خارجاً من ذاتها ولاحقاً بها ؛ لأنّ حکایة اللفظ دائرة مدار الوضع منوطة بالعُلقة الاعتباریة ، وهو منتفٍ فی المقام . وأمّا المعنی والمفهوم اللابشرط فیمتنع أن یکون کاشفاً عن مخالفاته بحسب الذات والمفهوم ؛ وإنّ اتّحد معها وجوداً .
ألا تری أنّ الوجود متّحد مع الماهیة ، ولا تکشف الماهیة عن الوجود ، والأعراض کلّها متّحدة مع معروضاتها ، ولکن البیاض لا یکشف عن الإنسان .
وأمّا الانتقال من أحد المتلازمین إلی الآخر أو من أحد الضدّین إلی الآخر فقد مرّ أنّ ذلک من باب تداعی المعانی الذی یدور مدار الموافاة الوجودیة أو وقوع المطاردة بینهما فی محلّ واحد ، ومثل ذلک لا یسمّی کشفاً ودلالة .
وعلیه : فالصلاة وإن اتّحدت أحیاناً مع التصرّف فی مال الغیر بلا إذنه فی الخارج ، لکن لا یمکن أن تکون مرآة له وکاشفة عنه ، فالاتّحاد فی الوجود غیر الکشف عمّا یتّحد به .
الرابعة : ـ وهو الحجر الأساسی لإثبات جواز الاجتماع ـ أنّ متعلّق الأحکام هو الطبیعة اللابشرط المنسلخة عن کافّة العوارض واللواحق ، لا الوجود الخارجی أو الإیجاد بالحمل الشائع ؛ لأنّ تعلّق الحکم بالموجود لا یمکن إلاّ فی ظرف
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 41
تحقّقه ، والبعث إلی إیجاد الموجود بعث إلی تحصیل الحاصل . وقس علیه الزجر ؛ لأنّ الزجر عمّا تحقّق خارجاً أمر ممتنع . ولا الوجود الذهنی الموجود فی ذهن الآمر ؛ لأنّه بقید کونه فی الذهن لا ینطبق علی الخارج .
بل متعلّق الأحکام هی نفس الطبیعة غیر المتقیّدة بأحد الوجودین ، بل ذات الماهیة التی تعرّضه الکلّیة وتنطبق علی کثیرین ، ولها عوارض ولوازم بحسب حالها . ولکن لمّا کان تعلّق الحکم متوقّفاً علی تصوّر الموضوع ، والتصوّر هنا هو الوجود الذهنی فلا محالة یکون ظرف تعلّق الحکم بها هو الذهن .
فالطبیعة متعلّقة للحکم فی الذهن لا بما هی موجودة فیه ولا بما هی موجودة فی الخارج ، بل بما هی هی ، مع قطع النظر عن تحصّلـه فی الذهن وتنوّرها بـه . والاحتیاج إلی تصوّرها لیس إلاّ لأجـل توقّف جعل الحکم علی تصوّر الموضوع .
وبالجملة : أنّ وزان الحکم بالنسبة إلی متعلّقه وزان لوازم الماهیة إلی نفسها ؛ فإنّ لزوم الإمکان لها والزوجیة للأربعة وإن کان لا یتوقّف علی وجودهما خارجاً أو ذهناً إلاّ أنّ ظهور اللزوم یتوقّف علی وجود المعروض فی أحد الموطنین ؛ ولذا ذکر الأکابر : أنّ وجود المعروض ذهناً أو خارجاً فی لوازم الماهیة دخیل فی حصول اللزوم لا فی لزومه .
فحینئذٍ : فمتعلّق الهیئة فی قوله «صلّ» هو الماهیة اللا بشرط ومفاد الهیئة هو البعث إلی تحصیلها ، والوجود والإیجاد خارجان من تحت الأمر .
فإن قلت : الماهیة من حیث هی لیست إلاّ هی ، لا محبوبة ولا مبغوضة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 42
ولا تکون مؤثّرة فی تحصیل الغرض ، فکیف یبعث إلیها مع کونها کذلک ؟
قلت : قد ذکرنا تحقیق الحال فی الکلمة المعروفة بین المحقّقین ، فلا حاجة إلی الإطناب ، بل قد عرفت أنّه لا مناص عن القول بتعلّق الأحکام بنفس الطبائع ؛ لبطلان تعلّقها بالوجود الخارجی أو الذهنی ، ولیس هنا شیء ثالث یصلح لأن یقع متعلّق الأمر والزجر ، سوی ذات الماهیة اللابشرط ؛ حتّی یتوصّل به إلی تحقّق الصلاة خارجاً .
وبعبارة أوضح : أنّ المولی لمّا رأی أنّ إتیان الصلاة ووجودها خارجاً محصّل للغرض فلا محالة یتوصّل إلی تحصیله بسبب ؛ وهو عبارة عن التشبّث بالأمـر بالطبیعة ، والغایة منه هـو انبعاث العبد إلی إیجادها . فمتعلّق الأمـر هـو الطبیعـة ، والهیئة باعثة وضعاً نحو إیجادها ، إمّا لأجل حکم العقل به کما هـو المختار ، أو لأجل دلالته علی طلب الوجود ؛ أی العنوانی منه لیحصل الخارجی ، لکن قد مرّ ضعفه .
فإن قلت : إنّ هنا أمراً رابعاً یصلح لأن یقع متعلّق الأحکام ؛ وهو أخذ الماهیة مرآة للخارج ، ولا یلزم المحذورات السابقة .
قلت : إنّ المراد من المرآتیة إن کان هو التوصّل به إلی وضع الحکم علی المعنون الخارجی فواضح بطلانه ؛ إذ هو بعد غیر موجود ، فلا معنون حین الحکم حتّی یقع متعلّق الحکم ، ولو فرضنا وجوده یلزم تحصیل الحاصل .
علی أنّ الطبیعة لا یمکن أن تکون مرآة للوجود ؛ لما عرفت من أنّ الاتّحاد فی الوجود غیر الکاشفیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 43
وإن کان المراد هو وضع الحکم علی الطبیعة وجعله علیها بداعی إیجادها فی الخارج فهو راجع إلی ما حقّقناه .
وبذلک یسقط ما أفاده المحقّق الخراسانی فی المقدّمة الثانیة ـ التی هی الأساس للقول بالامتناع ـ من أنّ متعلّق الأحکام هو فعل المکلّف ، وما یصدر عنه . . . إلی آخره .
کما یسقط ما أفاده بعض الأعاظم بترتیب مقدّمات ؛ عصارتها کون الخارج مؤلّفاً من مقولتین ، والترکیب بینهما انضمامی لا اتّحادی ، فمتعلّق الأمر غیر متعلّق النهی خارجاً ؛ إذ الترکیب الانضمامی ـ لو صحّ فی الاعتباریات ـ لا یفکّ به العقدة ؛ لکون الخارج غیر مأمور به ولا منهی عنه ، وتعدّده لا یجدی ما لم یرفع الغائلة فی متعلّق الأمر والنهی . علی أنّک قد وقفت علی وجوه من الضعف فی کلامه .
والحاصل : أنّه مبنی علی القول بتعلّق الأحکام بالوجود الخارجی وما هو فعل المکلّف بالحمل الشائع ، لکن مع بطلان هذا البناء لا محیص عن القول بالامتناع ؛ کان الترکیب انضمامیاً أو لا ، مع أنّ الترکیب الانضمامی بین الصلاة والغصب والتصرّف العدوانی لا وجه صحیح له ، کما تقدّم .
ثمّ إنّ تسمیة ما ذکر بالترکیب الانضمامی والاتّحادی مجرّد اصطلاح ، وإلاّ فلیس انطباق العناوین علی شیء من قبیل الترکیب .
إذا عرفت ما رتّبناه من المقدّمات یظهر لک : أنّ الحقّ هو جواز الاجتماع ؛
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 44
لأنّ الواجب هو نفس عنوان الصلاة دون ما یقارنها من اللواحق واللوازم ، ولا یمکن أن یتجاوز الأمر عن متعلّقه إلی ما هو خارج منه ، ومثله النهی بحکم الاُولی من المقدّمات .
ولیس معنی الإطلاق فی قوله «صلّ» هو وجوب الصلاة ؛ سواء اتّحدت مع الغصب أم مع غیره ؛ بحیث یکون الملحقات والمتّحدات معها ملحوظة ومتعلّقة للحکم والوجوب ، وذلک بحکم ثانیتها ، کما أنّ اتّحـاد الصلاة مع الغصب فی الخارج بسوء اختیار المکلّف لا یوجب أن تکون کاشفة عنه حتّی یسری من المتعلّق إلی غیره بحکم ثالثتها ، وأنّ محطّ نزول الأحکام ومتعلّقاتها هی نفس العناوین ؛ وإن کانت الغایة إیجادها فی الخارج ، لا الوجود الخارجی ، ولا الذهنی بحکم الرابعة منها .
فحینئـذٍ : فکیف یمکن أن یسری حکم أحـد العنوانین إلی العنوان الآخـر ، بل کلّ حکم مقصور علی موضوعه لا یتخطّی عنه ، فعند الوجـود الخارجی وإن کـان العنوانان متّحدین کمال الاتّحاد إلاّ أنّ المجمع الخارجی لیس متعلّقاً للبعث والزجر .
وأمّا ظرف ثبوت الحکمین ففیه یکون العنوانان متعدّدین ومتخالفین ؛ إذ عنوان الصلاة غیرعنوان الغصب مفهوماً وذاتاً ، فأین اجتمع الحکمان حتّی نعالجه؟!
کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 45