دلالة النهی علی التکرار

دلالة النهی علی التکرار

‏ ‏

‏ثمّ إنّه لا خلاف بین العقلاء فی النواهی ـ ومنها النواهی الشرعیة ـ فی أنّ‏‎ ‎‏النهی یتمیّـز عن الأمر بأنّ مقتضی النهی لدی العرف هو ترک جمیع الأفراد‏‎ ‎‏ـ عرضیة کانت أو طولیة ـ بخلاف الأمر ؛ فإنّ الغرض منه یحصل بإیجاد فرد واحد‏‎ ‎‏منه ، ویسقط الأمر به دون جمیع الأفراد .‏

‏لکن الکلام فی أنّ ذلک من ناحیة اللغة أو حکم العقل أو العرف :‏

فذهب المحقّق الخراسانی‏ إلی أنّ مقتضی العقل أنّ الطبیعی یوجد بفردٍ ما ،‏‎ ‎‏وینعدم بعدم جمیع الأفراد‏‎[1]‎‏ .‏

‏وأنت خبیر بفساد هذه القاعدة ؛ لأنّ المراد منها إن کان هو الطبیعة المهملة‏‎ ‎‏ـ أی بلا شرط ـ فهی کما توجد بفردٍ ما تنعدم بانعدام فردٍ ما ، وإن اُرید الطبیعة‏‎ ‎‏الساریة فی مصادیقها ـ علی اصطلاح القوم ـ فهی لا توجد إلاّ بوجود جمیع‏‎ ‎‏مصادیقها .‏

‏هذا ، وقد عرّفناک‏‎[2]‎‏ : أنّ الطبیعی متکثّر وجوداً وعدماً ، فکما أنّ له وجودات‏‎ ‎‏کذلک له أعدام بعدد الأفراد ؛ إذ کلّ فردٍ حائز تمام الطبیعی بلا نقصان ، فعدمه یکون‏‎ ‎‏عدماً للطبیعی حقیقة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 11
‏وما قرّر فی المنطق من أنّ نقیض السالبة الکلّیة هو الموجبة الجزئیة لیس‏‎ ‎‏مبنیاً علی أساس عقلی وبرهان علمی ، بل علی الارتکاز العرفی المسامحی ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الطبیعة لدی العرف العامّ توجد بفردٍ ما وتنعدم بعدم جمیع الأفراد .‏

‏فإن قلت : فعلی هذا قد انحلّت العویصة ؛ لأنّ القاعدة المزبورة وإن لم‏‎ ‎‏یساعدها البرهان إلاّ أنّ الارتکاز العرفی یساعدها فی محاوراتهم ، والنواهی‏‎ ‎‏الشرعیة تحمل علی المحاورات العرفیة . فحینئذٍ إذا تعلّق نهی بطبیعة یکون حکمه‏‎ ‎‏العقلائی أنّ امتثاله بترک الأفراد جمیعاً .‏

‏قلت : نعم ، لکنّه یتولّد منه عویصة اُخری ؛ وهو أنّ لازم ذلک أن یکون للنهی‏‎ ‎‏امتثال واحد ومعصیة واحدة ؛ لعدم انحلاله إلی النواهی ، مع أنّ العرف لا یساعده‏‎ ‎‏کما تری ، ولذا لو خولف یری العرف أنّ النهی بحاله . ‏هذا حکم العقل والعرف .

‏وأمّا اللغة :‏‏ فلا دلالة للنهی وضعاً بمادّته وهیئته علیه ؛ ضرورة أنّ ما تعلّق به‏‎ ‎‏هیئة الأمر عین ما تعلّق به هیئة النهی ؛ وهو نفس الطبیعة لا بشرط ، والهیئة لا تدلّ‏‎ ‎‏إلاّ علی الزجر مقابل البعث ، ولیس للمجموع وضع علی حدة .‏

وأفاد بعض الأعیان من المحقّقین ‏رحمه الله‏‏ فی رفع الإشکال : أنّ المنشأ حقیقة‏‎ ‎‏لیس شخص الطلب المتعلّق بعدم الطبیعة کذلک ، بل سنخه الذی لازمه تعلّق کلّ فردٍ‏‎ ‎‏من الطلب بفرد من طبیعة العدم عقلاً ؛ بمعنی أنّ المولی ینشئ النهی بداعی المنع‏‎ ‎‏نوعاً عن الطبیعة بحدّها الذی لازمه إبقاء العدم بحدّه علی حاله ، فتعلّق کلّ فردٍ من‏‎ ‎‏الطلب بفرد من العدم تارة بلحاظ الحاکم ، واُخری بحکم العقل لأجل جعل الملازمة‏‎ ‎‏بین سنخ الطلب وطبیعی العدم بحدّه‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 12
قلت وفیه أمّا أوّلاً‏ ـ فبعد الغضّ عن أنّ النهی لیس طلباً ، والمتعلّق لیس‏‎ ‎‏عدماً ـ أنّه منقوض بمثله ؛ إذ لقائل أن یقول : إنّ الأمر حقیقة فی جعل الملازمة بین‏‎ ‎‏سنخ الطلب وطبیعی الفعل ، مع أنّه باطل .‏

وأمّا ثانیاً :‏ فإنّ ما یدّعی من إنشاء سنخ الطلب إن کان لأجل اتّحاد السنخ‏‎ ‎‏والطبیعی مع الشخص ، فبجعله یصیر مجعولاً ، ففیه : أنّه لا یفید ؛ لأنّ الطبیعی فی‏‎ ‎‏الخارج لیس إلاّ الفرد ، فلا یکون قابلاً للانحلال عقلاً .‏

‏وإن کان لأجل کون جعل طبیعی الطلب القابل للکثرة ملازماً لطبیعی العدم ؛‏‎ ‎‏بحیث یصیر قابلاً للانحلال ، ففیه : أنّ هذا یحتاج إلی لحاظ غیر إنشاء الطلب ،‏‎ ‎‏ویحتاج إلی قرینة وتجوّز .‏

‏ولو التزمنا به فالأهون ماذهب إلیه بعض الأعاظم من الالتزام بالعموم‏‎ ‎‏الاستغراقی فی جانب النهی حتّی ینحلّ النهی بتبعه‏‎[4]‎‏ ؛ وإن کان خلاف التحقیق ؛‏‎ ‎‏لعدم استعمال المادّة فی الأفراد وجداناً ، کما لم تستعمل الهیئة فی الطبیعی علی ما‏‎ ‎‏ادّعاه المدّعی .‏

وبذلک یظهر‏ الخلل فیما یقال من أنّ المصلحة تترتّب غالباً علی صرف‏‎ ‎‏الوجود ، فتکون تلک الغلبة کاشفاً عن تعلّق المصلحة بصرف الوجود المتحقّق‏‎ ‎‏بإیجاد فرد ، کما أنّ المفسدة فی النهی تترتّب علی کلّ فرد ، فتکون قرینة عامّة علی‏‎ ‎‏أنّ النهی متعلّق بکلّ فرد باستقلاله‏‎[5]‎‏ ، انتهی .‏

‏وجه الخلل فیه : أنّه إن أراد من تعلّق النهی بکلّ فرد أنّ المادّة اُخذت مرآة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 13
‏للخصوصیات والزجر تعلّق بکلّ فرد فقد عرفت امتناع مرآتیتها لها ، وضعف‏‎ ‎‏ما یتمسّک به لإثباتها من سریان الطبیعة واتّحادها معها .‏

‏وإن أراد أنّ النهی متعلّق بالطبیعة إلاّ أنّ تلک الغلبة قرینة علی أنّ جدّ المولی‏‎ ‎‏هو الزجر عن کلّ فرد ففیه : أنّ الزجر مفاد النهی الاستعمالی ، فإذا استعملت الهیئة‏‎ ‎‏فی نفس الطبیعة دون الأفراد فلا یرجع کون الزجر عن الأفراد جدّاً إلی محصّل ، إلاّ‏‎ ‎‏أن یرجع إلی التشبّث بالاستعمال المجازی ، وهو کما تری .‏

وأمّا ما عن بعض الأکابر‏ ـ أدام الله أظلاله ـ من أنّ الأمر لمّا کان متعلّقاً‏‎ ‎‏بالطبیعة فیکون تمام المتعلّق له هو الطبیعة ، فبتحقّق فرد منها یتحقّق تمام‏‎ ‎‏المطلوب ، فیسقط الأمر ؛ لأنّ بقائه مع تحقّق تمام المطلوب جزاف .‏

‏وأمّا النهی فلمّا کان حقیقته الزجر عن الوجود لا طلب الترک یکون حکمه‏‎ ‎‏العقلائی هو دفع الطبیعة والزجر عنها بتمام حقیقتها ، فلا یکون المطلوب حاصلاً مع‏‎ ‎‏انتهاء المکلّف فی زمان ، ولا النهی ساقطاً مع الإتیان بفرد ، فإنّ العصیان لا یعقل أن‏‎ ‎‏یکون مسقطاً ؛ لا فی الأمر ولا فی النهی ، فإنّ السقوط إمّا بحصول المطلوب أو رفع‏‎ ‎‏الموضوع أو موت المکلّف أو عدم قابلیته للتکالیف ؛ لنقصان عارض له ، أو خروج‏‎ ‎‏الوقت فی الموقّتات ، فلا یکون السقوط مستنداً إلی المعصیة فی شیء من الموارد .‏‎ ‎‏فتحصّل ممّا ذکر : أنّ مفاد النهی لمّا کان هو الزجر فلازم ذلک ماذکرنا ، بخلاف ما لو‏‎ ‎‏کان طلب الترک‏‎[6]‎‏ .‏

غیر تامّ ،‏ بل ما أفاده لا یزید إلاّ عن دعوی کون حکم العرف ذلک ، من غیر‏‎ ‎‏إقامة برهان مقنع علی سرّه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 14
‏ومجرّد کون مفاد النهی هو الزجر لا یوجب الفرق فی الحکم العقلائی ؛‏‎ ‎‏ضرورة أنّ المولی إذا قال «اترک شرب الخمر» أو صرّح بـ «أنّی أطلب منک ترک‏‎ ‎‏شرب الخمر» یکون حکمه العقلائی هو لزوم الترک مطلقاً ، ومع الترک فی زمان‏‎ ‎‏والإتیان فی الآخر عدّ مطیعاً وعاصیاً .‏

‏فهذا الافتراق لیس من جهة کون مفاد النهی هو الزجر ، بل لو فرض تعلّق‏‎ ‎‏الزجر بصرف الوجود ـ أی ناقض العدم ـ فمع المخالفة یسقط النهی بالضرورة ؛‏‎ ‎‏لانتهاء اقتضائه ، کما لو نهاه عن ذکر اسمه فی الملأ ؛ لغرض عدم معروفیته ، فمع‏‎ ‎‏ذکره یسقط النهی ، لا لأجل تعلّقه بأوّل الوجود ـ کما توهّم ـ بل لأجل تعلّقه‏‎ ‎‏بصرف الوجود ، فیسقط ما ذکر : أنّ العصیان لا یوجب السقوط فی شیء من‏‎ ‎‏الموارد .‏

‏فالأولی أن یتشبّث فی جانب النهی بذیل فهم العرف المتّبع فی تلک المقامات‏‎ ‎‏فی کلتا المرحلتین ؛ أی مرحلة أنّ الطبیعی ینعدم بعدم جمیع الأفراد ، ومرحلة أنّ‏‎ ‎‏النهی إذا تعلّق بالطبیعة ینحلّ إلی النواهی ، من غیر أن تستعمل الطبیعة فی الأفراد ،‏‎ ‎‏ومن غیر فرق بین کون النهی زجراً أو طلب ترک ، فتأمّل .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 15

کتابتهذیب الاصول (ج. ۲): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 16

  • )) کفایة الاُصول : 182 ـ 183 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 27 و 496 .
  • )) نهایة الدرایة 2 : 291 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 1 : 395 .
  • )) أجود التقریرات 1 : 328 ، الهامش 1 .
  • )) لمحات الاُصول : 208 ـ 210 .