القول فی تبدّل الاجتهاد
لو اضمحلّ الاجتهاد السابق وتبدّل إلی اجتهاد آخر یخالفه ، فهل یحتاج إلی الإعادة أو القضاء أو لا ؟
فتارة یقع الکلام فی عمل نفس المجتهد ، واُخری فی عمل مقلِّدیه .
أمّا الکلام فی عمل نفسه : فالأقوی ما اخترناه فی باب الإجزاء من التفصیل بین الأمارات والاُصول ، بالإجزاء فی الثانی دون الأوّل ، وقد أطلنا الکلام فی توضیحه وتفصیله فی الجزء الأوّل عند البحث عن مسألة الإجزاء ، فلا حاجة إلی التکرار بالإعادة .
وقد قام سیّدنا الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ بالبحث عن هذا التفصیل هنا فی کلتا الدورتین ، غیر أنّا أسقطنا هذه المباحث عند الطبع لما أوضحناه فی محلّه ؛ روماً للاختصار والاقتصاد .
وأمّا الکلام فی عمل مقلّدیه : فهل یمکن إجراء هذا التفصیل فیه ؛ بالإجزاء فیما إذا کان مدرک مجتهده الاُصول ، وعدمه فیما إذا کان دلیل حکمه الأمارات ؟
بتقریب : أنّ وظیفة المجتهد تعیین وظائف العباد مطلقاً ؛ واقعاً وظاهراً ، فکما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 687
أنّ العمل بالوظائف الظاهریة یفید الإجزاء بالنسبة إلی عمل نفسه ـ لحکومتها علی الأدلّة ـ فکذلک بالنسبة إلی عمل مقلّدیه بلا تفاوت .
غیـر أنّ الأقـوی : عدم الإجـزاء فی حـقّ المقلّد مطلقاً ؛ سواء استند مقلّده ـ بالفتح ـ إلی الاُصول أم إلی الأمارات ؛ فإنّ مـدرک العامّی فی الحکـم الـذی طبّـق عمله علی وفقه إنّما هـو رأی مرجعـه وحکمه ، وهـو أمارة إلی تکالیفه الشرعیـة ، وقـد أوضحنا فی مسألـة الإجـزاء : أنّ قیام الحجّـة علی تخلّف الأمـارة لایوجب الإجزاء .
وإن شئت قلت : إنّ مدرک حکمه لیست الاُصول الحکمیة ؛ من البراءة والاستصحاب والأمارات والروایات الواردة فی حکم المسألة ؛ إذ هی متوجّهة إلی الشاکّ ، والعامّی لیس بشاکّ ولا بمتیقّن ؛ فلا معنی لتوجّه تلک الخطابات إلیه ؛ إذ هی تقصد من تفحّص عن موارد البیان ، ویئس عن وروده ، والعامّی لیس کذلک ، ومعه کیف یشمله أدلّة الاُصول ؟
فلا یجری فی حقّه الاُصول حتّی تحرز مصداق المأمور به .
وکون الدلیل عند المجتهد فی موارد الشکّ هی الاُصول الجاریة لایوجب رکون المقلِّد إلیها ، بل إنّما هی یرکن إلی رأی المجتهد ؛ للبناء العملی والارتکاز الفطری ، من غیر توجّه إلی مدرکه .
والحاصل : أنّ رجوع العقلاء إلی أهل الخبرة إنّما هو لأجل إلغاء احتمال الخلاف ، کما هو شأن العمل بالأمارات ، وقد أمضاه الشارع علی هذا النعت . فاضمحلال الاجتهاد السابق عند المقلّد یصیر بمنزلة تخلّف الأمارة وتبیّن خطئها عند المجتهد ، فکما لایوجب ذاک الإجزاء فهکذا فی المقام .
وکیف یمکن أن یشمل أدلّة الاُصول العامّی وتکون مستند عمله ، مع أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 688
العامّی لیس بشاکّ ولا بفاحص ولا بآیس عن البیان ، کما هو الحال فی المجتهد ؟ !
لایقال : لو کان المقلّد خارجاً عن مصبّ أدلّة الاُصول فلماذا یفتی المجتهد بمضمونها ، ویقول للمقلِّد : أعمل بنتائجها ، مع أنّها أحکام مترتّبة علی الشاکّ ، ولایتعدّی إلی غیره ، والمقلّد لیس بشاکّ ولا بمتیقّن .
فکما لا یجوز للمجتهد الذی تمّ عنده البیان العمل بالاُصول باعتبار أنّه لیس بشاکّ ، فهکذا لایجوز للمقلِّد العمل بنتائجها ؛ لخروجه عن الموضوع .
وتوهّم : أنّ الخطاب عامّ ، والمجتهد نائب عنه فی فهم الخطاب وبیانه ، مدفوع ـ مضافاً إلی أنّه لایرجع إلی معنیً محصّل ـ بأنّه یستلزم الإجزاء ، وهو خلاف المطلوب .
لأنّا نقول : بأنّ الخطاب وإن کان خاصّاً للشاکّ إلاّ أنّ المجتهد إذا کان متیقّناً بحکم الله تعالی الکلّی المشترک بین جمیع العباد ، ثمّ شکّ فی نسخه فما هو المشکوک لیس هو الحکم الاختصاصی ، بل حکم الله المشترک بین عباده .
وعلیه : فما هو المستصحَب إنّما هو ذاک الحکم المشترک الغیر المختصّ ، فیجوز له أن یطبّق عمله علی وفقه ـ وأن یفتی بمضمونه ـ لکون ما أدرک إنّما هو حکم الله المشترک ، وما استصحبه حکم کلّی راجع إلی جمیع العباد ، ومعه کیف لایجوز له أن یفتی بمضمونه ؟
فکما یجوز إذا قامت الأمارة علی حکم الله المشترک الإفتاء بمضمونه من دون غمض ، فکذا إذا استصحب حکم الله المشترک ، أو دلّت الاُصول علی عدم فعلیة ذلک الحکم المشترک ، وإذا أفتی لا مناص للمقلِّد عن الأخذ به ؛ للفطرة المرتکزة من رجوع الجاهل إلی العالم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 689
وقد بان بما أوضحناه : أنّ مقتضی القاعدة الإجزاء بالنسبة إلی نفس المجتهد دون مقلّدیه ، إذا استند إلی الاُصول ؛ لکون مستنده الاُصول الحاکمة علی الواقع دون مقلِّدیه ، فهم مستندون إلی الأمارة ؛ أعنی رأی الغیر وإدراکه .
فهاهنا نجعجع بالقلم عن الإفاضة ، حامدین شاکرین لله عزّ وجـلّ ، وقـد بقی أبحـاث طفیفة لم یتعرّض لها سیّدنا الاُستاذ ، دام ظلّـه . وقـد لاح بدر تمام تلک الرسالة ، وبتمامها تمّت الـدورة الاُصولیـة فی منتصف شهر شعبان المعظّم من شهور عام ألف وثلاثمائة وسبعین ـ 1370 ـ فی مدینـة قم ، عاصمـة العلم والـدین ، عند جـوار الحضرة الفاطمیة علیهاالسلام . ثمّ أعـدنا النظر علیه ثانیاً فی الـدورة الأخیـرة ، وأضفنا إلیـه مـا أفـاده سیّدنا الاُستـاذ ـ دام ظلّـه ـ فـی تلک الـدورة ، وذلک فی مختتم عام ألف وثلاثمائة وسبعـة وسبعین ، وتمّ تألیفها وتبییضها وتهذیبها بید مؤلّفه محمّد جعفر السبحانی التبریزی فی الیوم الثالث من شهر شعبان ، یوم میلاد الإمـام الطاهـر السبط علیه السلام فی عام 1382 ، والحمد لله أوّلاً وآخـراً وظـاهـراً وبـاطناً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 690