حول الإشکال الآخر علی الاستصحاب
الوجه الثالث من الإشکالات : ـ وهو أصعب حلّاً ممّا ذکر ـ أنّ المستصحب یجب أن یکون إمّـا حکماً شرعیاً ، أو موضوعاً لحکم شرعی ؛ حتّی یصحّ النهی عن النقض .
وما یمکن استصحابه فی المقام أحد اُمور :
1 ـ الحجّیة العقلائیة وارتکازهم علی رجوع الجاهل إلی العالم فی فنّه ، ولزوم الاتّباع عن ذوی الآراء وصحّة الاحتجاج بها عندهم ، وهذا لیس بحکم شرعی ولا موضوع ذو أثر شرعی ، فهو غیر قابل للاستصحاب .
2 ـ الحجّیة الشرعیة وجواز العمل علی طبق رأیه ، ولکنّه فرع أن یکون فی المقام جعل شرعی ؛ سواء کان المجعول هو الحجّیة أو جواز العمل . وقد عرفت أنّه لیس فی المقام جعل من الشارع ، بل الموجود إنّما هو تنفیذ الأمر العقلائی ، ولم نجد بین الأدلّة دلیلاً یصحّ الاتّکال علیه یدلّ علی جعل الشارع لزوم العمل برأی الفقیه أو جوازه ، فراجع .
3 ـ استصحاب الأحکام الواقعیة ، ولکنّه أیضاً فرع الشکّ فیها ؛ لأنّ الشکّ فیها إمّا أن یکون من أجل الشکّ فی طروّ النسخ إلیها ، أو من أجل فقدان شرطه ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 667
کاحتمال شرطیة حضور الإمام فی صلاة الجمعة ، أو من عروض مانع . ولیس الشکّ فی المقام مستنداً لإحدی هذه الجهات .
4 ـ استصحاب الأحکام الظاهریة بناءً علی جعل المماثل عقیب فتوی المجتهد ، وهو بعد محلّ منع ، ولا دلیل علیه ، بل الدلیل علی خلافه ؛ لأنّ الظاهر هو إمضاء ما هو الدائر بین العقلاء ؛ من مراجعة کلّ جاهل إلی خبیر فنّه ، بلا تأسیس ولا جعل مماثل ، کما قیل فی حجّیة الأمارات .
فتلخّص : أنّه لیس فی المقام مجعول شرعی ولا موضوع لحکم شرعی ، بل الموجود هو حجّیة قول أهل الخبرة للجاهل ، ولیس هو موضوعاً لحکم شرعی ، بل هو موضوع لحکم عقلی ، وهو تنجّز الواقع علی المکلّف إذا کان الشارع راضیاً بالسیرة ، أو غیر رادع عنها .
وتوهّم استصحاب بقاء إمضاء الشارع له وارتضائه لما هو المرتکز ، مدفوع بأنّ الإمضاء والارتضاء لیس حکماً شرعیاً حتّی یستصحب بنفسه .
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ رضا الشارع بالعمل وإمضائه وإن لم یکن حکماً شرعیاً لکن مع التعبّد ببقائه یحکم العقل بجواز العمل ، فهو مثل الحکم فی ذلک ، فتأمّل .
لایقال : لازم ما ذکر سدّ باب الاستصحاب فی الأحکام التی هی مؤدّیات الأمارات ؛ فإنّ الفتوی کما هو أمارة إلی الحکم الواقعی وهکذا الأمارات القائمة علی الأحکام ؛ فلو شککنا فی بقاء مؤدّی الأمارة نحکم ببقائه بلا إشکال ، ولیکن فتوی الفقیه مثله .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 668
لأنّا نقول : فرق واضح بین المقامین ؛ فإنّ الشکّ فی مفاد الأمارات متعلّق ببقاء نفس الوجوب الذی قامت الأمارة علیه ؛ وهو حکم شرعی قابل للتعبّد بالبقاء ، وإنّما طرء الشکّ علیه لاحتمال طروّ النسخ علیه أو فقدان شیء نحتمل شرطیته ، کالحضور فی صلاة الجمعة .
وأمّا المقام فالشکّ لم یتعلّق بنفس الوجوب الذی أفتی به المفتی ، بل هو علی تقدیر وجوده من أوّل الأمر باقٍ قطعاً ، وإنّما الشکّ تعلّق بمقدار حجّیة رأیه وفتواه .
وإن شئت قلت : تعلّق الشکّ بمقدار حجّیة الأمارة وکاشفیته شرعاً عن الواقع ، وأنّها هل هو حجّة مطلقاً ـ حیّاً کان أو میّتاً ـ أو یختصّ بحال حیاته .
نعم ، لو کان الشکّ فی الأمارات فی مورد مثل الشکّ فی مقدار حجّیة فتوی المفتی منعنا الاستصحاب فیه أیضاً .
إن قلت : علی القول بلزوم الجزم فی النیة فی أجزاء العبادات وشرائطها یلزم القول بجعل المماثل فی الأمارات ـ ومنها فتوی الفقیه ـ وإلاّ یلزم إتیان کثیر منها رجاءً ؛ لعدم قیام الدلیل القطعی علی جزئیتها وشرطیتها ، فلا مناص عن القول باستتباع الأمارات أحکاماً علی طبق مؤدّیاتها .
قلت ـ مضافاً إلی منع لزومه فی العبادات وقد أوضحنا سبیله غیر مرّة ، وقلنا : إنّ المسألة عقلیة ، لا مجال لدعوی الإجماع فیها ـ إنّ الجزم حاصل من غیر احتیاج إلی القول باستتباع الأمارات أحکاماً مماثلاً لمؤدّیاتها ؛ وذلک لأنّ احتمال الخلاف والخطأ مغفول عنه للعقلاء عند العمل بالأمارات الدارجة بینهم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 669
وما ذکرنا من أنّ بنائهم علی العمل بها بإلغاء احتماله لیس معناه أنّهم یحتملونه ثمّ یلغونه عملاً ، بل معناه غفلتهم عن هذا الاحتمال ، ولکن لو نبّههم أحد علیه لتنبّهوا ، لکنّهم عند عدم التنبیه یعاملون معه بصرافة ارتکازهم معاملة العلم الجازم .
ودونک معاملاتهم السوقیة ؛ فهم یبیعون ویشترون علی وجه الجزم ، مع أنّ أساسه علی کون البایع مالکاً ، ولا طریق لهم غالباً علی الملکیة إلاّ الید التی هی أمارتها ، ولیس ذلک إلاّ لعدم انقداح احتمال الخطأ فی أذهانهم ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّ استتباعها للحکم الظاهری فی خصوص فتوی الفقیه لیس محصّلاً للجزم ؛ فإنّ عمل العامّی بفتوی الفقیه إنّما هو لأجل کونها طریقاً إلی الواقع وکاشفاً عنه ، کعملهم علی آراء أهل الخبرة فی سائر الفنون .
فإذا کان هذا مبنی عملهم فاستتباع فتواه للحکم الظاهری أمر مغفول عنه للمقلّدین ، فکیف یکون مناطاً لحصول الجزم ؟
وبالجملة : مناط عمل العامّی له کونه کاشفاً عن الحکم الواقعی ، وکون صاحبه عالماً بأحکام الله الواقعیة . وأمّا استتباعها لحکم ظاهری موافق لمؤدّی الأمارة ممّا لاینقدح فی أذهانهم ، ومعه کیف یکون محصّلاً للجزم .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 670