المقصد السابع فی الاُصول العملیة

حول الإشکال الآخر علی الاستصحاب

حول الإشکال الآخر علی الاستصحاب

‏ ‏

الوجه الثالث من الإشکالات :‏ ـ وهو أصعب حلّاً ممّا ذکر ـ أنّ المستصحب‏‎ ‎‏یجب أن یکون إمّـا حکماً شرعیاً ، أو موضوعاً لحکم شرعی ؛ حتّی یصحّ النهی‏‎ ‎‏عن النقض .‏

‏وما یمکن استصحابه فی المقام أحد اُمور :‏‏ ‏

‏1 ـ الحجّیة العقلائیة وارتکازهم علی رجوع الجاهل إلی العالم فی فنّه ،‏‎ ‎‏ولزوم الاتّباع عن ذوی الآراء وصحّة الاحتجاج بها عندهم ، وهذا لیس بحکم‏‎ ‎‏شرعی ولا موضوع ذو أثر شرعی ، فهو غیر قابل للاستصحاب .‏

‏2 ـ الحجّیة الشرعیة وجواز العمل علی طبق رأیه ، ولکنّه فرع أن یکون فی‏‎ ‎‏المقام جعل شرعی ؛ سواء کان المجعول هو الحجّیة أو جواز العمل . وقد عرفت‏‎[1]‎‏ ‏‎ ‎‏أنّه لیس فی المقام جعل من الشارع ، بل الموجود إنّما هو تنفیذ الأمر العقلائی ، ولم‏‎ ‎‏نجد بین الأدلّة دلیلاً یصحّ الاتّکال علیه یدلّ علی جعل الشارع لزوم العمل برأی‏‎ ‎‏الفقیه أو جوازه ، فراجع .‏

‏3 ـ استصحاب الأحکام الواقعیة ، ولکنّه أیضاً فرع الشکّ فیها ؛ لأنّ الشکّ‏‎ ‎‏فیها إمّا أن یکون من أجل الشکّ فی طروّ النسخ إلیها ، أو من أجل فقدان شرطه ،‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 667
‏کاحتمال شرطیة حضور الإمام فی صلاة الجمعة ، أو من عروض مانع . ولیس الشکّ‏‎ ‎‏فی المقام مستنداً لإحدی هذه الجهات .‏

‏4 ـ استصحاب الأحکام الظاهریة بناءً علی جعل المماثل عقیب فتوی‏‎ ‎‏المجتهد ، وهو بعد محلّ منع ، ولا دلیل علیه ، بل الدلیل علی خلافه ؛ لأنّ الظاهر هو‏‎ ‎‏إمضاء ما هو الدائر بین العقلاء ؛ من مراجعة کلّ جاهل إلی خبیر فنّه ، بلا تأسیس‏‎ ‎‏ولا جعل مماثل ، کما قیل فی حجّیة الأمارات .‏

فتلخّص :‏ أنّه لیس فی المقام مجعول شرعی ولا موضوع لحکم شرعی ، بل‏‎ ‎‏الموجود هو حجّیة قول أهل الخبرة للجاهل ، ولیس هو موضوعاً لحکم شرعی ،‏‎ ‎‏بل هو موضوع لحکم عقلی ، وهو تنجّز الواقع علی المکلّف إذا کان الشارع راضیاً‏‎ ‎‏بالسیرة ، أو غیر رادع عنها .‏

‏وتوهّم استصحاب بقاء إمضاء الشارع له وارتضائه لما هو المرتکز ، مدفوع‏‎ ‎‏بأنّ الإمضاء والارتضاء لیس حکماً شرعیاً حتّی یستصحب بنفسه .‏

‏اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ رضا الشارع بالعمل وإمضائه وإن لم یکن حکماً شرعیاً‏‎ ‎‏لکن مع التعبّد ببقائه یحکم العقل بجواز العمل ، فهو مثل الحکم فی ذلک ، فتأمّل‏‎[2]‎‏ .‏

لایقال :‏ لازم ما ذکر سدّ باب الاستصحاب  فی الأحکام التی هی مؤدّیات‏‎ ‎‏الأمارات ؛ فإنّ الفتوی کما هو أمارة إلی الحکم الواقعی وهکذا الأمارات القائمة‏‎ ‎‏علی الأحکام ؛ فلو شککنا فی بقاء مؤدّی الأمارة نحکم ببقائه بلا إشکال ، ولیکن‏‎ ‎‏فتوی الفقیه مثله .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 668
لأنّا نقول :‏ فرق واضح بین المقامین ؛ فإنّ الشکّ فی مفاد الأمارات متعلّق‏‎ ‎‏ببقاء نفس الوجوب الذی قامت الأمارة علیه ؛ وهو حکم شرعی قابل للتعبّد‏‎ ‎‏بالبقاء ، وإنّما طرء الشکّ علیه لاحتمال طروّ النسخ علیه أو فقدان شیء نحتمل‏‎ ‎‏شرطیته ، کالحضور فی صلاة الجمعة .‏

‏وأمّا المقام فالشکّ لم یتعلّق بنفس الوجوب الذی أفتی به المفتی ، بل هو‏‎ ‎‏علی تقدیر وجوده من أوّل الأمر باقٍ قطعاً ، وإنّما الشکّ تعلّق بمقدار حجّیة رأیه‏‎ ‎‏وفتواه .‏

‏وإن شئت قلت : تعلّق الشکّ بمقدار حجّیة الأمارة وکاشفیته شرعاً عن‏‎ ‎‏الواقع ، وأنّها هل هو حجّة مطلقاً ـ حیّاً کان أو میّتاً ـ أو یختصّ بحال حیاته .‏

نعم‏ ، لو کان الشکّ فی الأمارات فی مورد مثل الشکّ فی مقدار حجّیة فتوی‏‎ ‎‏المفتی منعنا الاستصحاب فیه أیضاً .‏

إن قلت :‏ علی القول بلزوم الجزم فی النیة فی أجزاء العبادات وشرائطها یلزم‏‎ ‎‏القول بجعل المماثل فی الأمارات ـ ومنها فتوی الفقیه ـ وإلاّ یلزم إتیان کثیر منها‏‎ ‎‏رجاءً ؛ لعدم قیام الدلیل القطعی علی جزئیتها وشرطیتها ، فلا مناص عن القول‏‎ ‎‏باستتباع الأمارات أحکاماً علی طبق مؤدّیاتها .‏

قلت‏ ـ مضافاً إلی منع لزومه فی العبادات وقد أوضحنا سبیله غیر مرّة ، وقلنا :‏‎ ‎‏إنّ المسألة عقلیة ، لا مجال لدعوی الإجماع فیها‏‎[3]‎‏ ـ إنّ الجزم حاصل من غیر‏‎ ‎‏احتیاج إلی القول باستتباع الأمارات أحکاماً مماثلاً لمؤدّیاتها ؛ وذلک لأنّ احتمال‏‎ ‎‏الخلاف والخطأ مغفول عنه للعقلاء عند العمل بالأمارات الدارجة بینهم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 669
‏وما ذکرنا من أنّ بنائهم علی العمل بها بإلغاء احتماله لیس معناه أنّهم‏‎ ‎‏یحتملونه ثمّ یلغونه عملاً ، بل معناه غفلتهم عن هذا الاحتمال ، ولکن لو نبّههم أحد‏‎ ‎‏علیه لتنبّهوا ، لکنّهم عند عدم التنبیه یعاملون معه بصرافة ارتکازهم معاملة العلم‏‎ ‎‏الجازم .‏

‏ودونک معاملاتهم السوقیة ؛ فهم یبیعون ویشترون علی وجه الجزم ، مع أنّ‏‎ ‎‏أساسه علی کون البایع مالکاً ، ولا طریق لهم غالباً علی الملکیة إلاّ الید التی هی‏‎ ‎‏أمارتها ، ولیس ذلک إلاّ لعدم انقداح احتمال الخطأ فی أذهانهم ، ‏هذا أوّلاً‏ .‏

وثانیاً :‏ أنّ استتباعها للحکم الظاهری فی خصوص فتوی الفقیه لیس محصّلاً‏‎ ‎‏للجزم ؛ فإنّ عمل العامّی بفتوی الفقیه إنّما هو لأجل کونها طریقاً إلی الواقع وکاشفاً‏‎ ‎‏عنه ، کعملهم علی آراء أهل الخبرة فی سائر الفنون .‏

‏فإذا کان هذا مبنی عملهم فاستتباع فتواه للحکم الظاهری أمر مغفول عنه‏‎ ‎‏للمقلّدین ، فکیف یکون مناطاً لحصول الجزم ؟‏

وبالجملة :‏ مناط عمل العامّی له کونه کاشفاً عن الحکم الواقعی ، وکون‏‎ ‎‏صاحبه عالماً بأحکام الله الواقعیة . وأمّا استتباعها لحکم ظاهری موافق لمؤدّی‏‎ ‎‏الأمارة ممّا لاینقدح فی أذهانهم ، ومعه کیف یکون محصّلاً للجزم .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 670

  • )) تقدّم فی الصفحة 609 ـ 610 و 620 ـ 621 .
  • )) وجهه : أنّ لازم ما ذکر انهدام الضابطة المقرّرة فی باب الاستصحاب ؛ من لزوم کون المستصحب حکماً شرعیاً أو موضوعاً لحکم شرعی ، بل هنا شقّ ثالث ؛ وهو کونه موضوعاً لحکم عقلی ، کالمقام . [المؤلّف]
  • )) تقدّم فی الصفحة 421 .