المقصد السابع فی الاُصول العملیة

إشکال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه

إشکال عدم بقاء موضوع الاستصحاب والجواب عنه

‏ ‏

الوجه الثانی من الإشکالات :‏ ـ وهو العمدة فی المقام ـ عدم بقاء الموضوع ؛‏‎ ‎‏فإنّ المشهور عند القوم شرطیة بقاء الموضوع فی جریانه‏‎[1]‎‏ ؛ وإن کان التحقیق‏‎ ‎‏عندنا اتّحاد القضیة المتیقّنة مع القضیة المشکوک فیها‏‎[2]‎‏ .‏

‏وما هو المتیقّن أو ما هو الموضوع للحکم إنّما هو رأی المجتهد وفتواه ، ولا‏‎ ‎‏رأی للمیّت ولا فتوی له ، ولا یتّصف المیّت عند العرف بالعلم ولا بالظنّ ، ومعه‏‎ ‎‏لابقاء للموضوع ولا اتّحاد للقضیتین .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ مدار الفتوی إنّما هو الظنّ الاجتهادی ؛ ولذا یقول‏‎ ‎‏المجتهد : «هذا ما أدّی إلیه ظنّی ، وکلّ ما أدّی إلیه ظنّی یجوز لی الإفتاء به» ، فإذا‏‎ ‎‏مات لم یبق له ظنّ ولا علم ، فلا یبقی له رأی ولا فتوی ، ومعه کیف یجوز‏‎ ‎‏الاستصحاب‏‎[3]‎‏ ؟ !‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 662
وفیه :‏ أنّ ملاک عمل العقلاء بآراء ذوی الفنون وأصحاب الصنائع ومن له‏‎ ‎‏شغل التقویم إنّما هو لکون الرأی بنحو الجزم بوجوده الحدوثی طریقاً إلی الواقع ،‏‎ ‎‏وصفة الطریقیة ثابتة له ، کان صاحبه بعد إبراز رأیه حیّاً أو میّتاً ؛ فإنّ مناط الحجّیة‏‎ ‎‏وملاک الطریقیة عندهم قائم بنفس الإخبار جزماً عن أمر واقعی .‏

‏فلو أفتی الفقیه بأنّه لایصحّ الصلاة فی وبر ما لا یؤکل لحمه فنفس هذا‏‎ ‎‏الفتوی ـ بما هو هو من غیر دخالة أمر ـ کاشف عن الواقع ، طریق إلیه ومنجّز له ،‏‎ ‎‏ولاینسلخ هذه الأوصاف عنه أصلاً ـ لا بموته ولا بنومه ـ إلاّ بنقضه وتبدّل رأیه‏‎ ‎‏والجزم علی خلافه .‏

هذا حال السیرات العقلائیة‏ فی العمل بالأمارات ، وقد عرفت : أنّ الدلیل‏‎ ‎‏الوحید فی باب التقلید إنّما هو السیرة العقلائیة‏‎[4]‎‏ التی عرفت ملاک العمل بها‏‎[5]‎‏ .‏

وأمّا الأدلّة الشرعیة‏ ـ فلو فرض وجودها ـ فهی غیر خارجة عن حدودها ؛‏‎ ‎‏فإذا کانت الحجّیة والطریقیة والتنجیز قائمة بنفس الرأی فقط فلو مات صاحبه‏‎ ‎‏وشکّ فی دخالة الحیاة فی جواز العمل به شرعاً فلا مانع من استصحابه ؛ لبقاء‏‎ ‎‏الموضوع واتّحاد القضیتین المتیقّنة والمشکوکة .‏

‏فإنّ ما هو الموضوع أو ما هو المتیقّن إنّما هو رأی الفقیه وجزمه بالحکم‏‎ ‎‏وإظهاره طریق إلی الواقع بوجوده الحدوثی ، وهو المناط لجواز العمل به فی نظر‏‎ ‎‏العقلاء ، وقد أمضاه الشرع أیضاً بهذا المناط ، لکن نشکّ فی دخالة الحیاة فیه شرعاً‏‎ ‎‏علی وجه التعبّد ، فلا شکّ فی جواز استصحابه ؛ لاتّحاد المتیقّن والمشکوک ، والشکّ‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 663
‏إنّما هو فی دخالة شرط خارج عمّا هو المناط فی نظرهم .‏

وإن شئت قلت :‏ إنّ رأی الفقیه وإبرازه بصورة الجزم جعل کتابه طریقاً إلی‏‎ ‎‏الواقع لدی العقلاء وجائز العمل فی زمان حیاته ، ونشکّ فی بقاء جواز العمل علی‏‎ ‎‏طبقه بعد موته ، والأصل بقاؤه .‏

‏فإن قلت : إنّ الطریقیة والحجّیة والتنجیز أوصاف إیجابیة وأحکام فعلیة ،‏‎ ‎‏فیحتاج إلی وجود الموضوع ، فکیف یصلح أن یکون الرأی بوجوده الحدوثی‏‎ ‎‏موضوعاً لهذه الأحکام الفعلیة ، بعد مضی زمان طویل ؟ ! ولو قیل : إنّ الرأی‏‎ ‎‏بوجوده الحدوثی أوجب أن یکون کتابه الموجود فعلاً طریقاً وحجّة ومنجّزاً ، فهو‏‎ ‎‏خروج عن طور البحث الدائر بینهم .‏

‏قلت : قد قلنا إنّ الرأی والجزم بوجودهما الحدوثی جعلا الکتاب أو الرأی‏‎ ‎‏ـ بمعنی حاصل المصدر ـ جائز العمل وحجّة وطریقاً إلی الواقع ، ومع الشکّ‏‎ ‎‏یستصحب جواز العمل والحجّیة والطریقیة ونحوها ، والرأی الذی عدم هو الرأی‏‎ ‎‏القائم بنفسه لا الرأی بمعنی حاصل المصدر .‏

ثمّ إنّ الشیخ الأعظم ‏رحمه الله‏‏ قد تسلّم جریان الاستصحاب وبقاء الموضوع‏‎ ‎‏بتقریب : أنّه إذا قلنا بأنّ الفتوی هی عبارة عن نقل الحدیث علی وجه المعنی ـ علی‏‎ ‎‏ما یدّعیه الأخباری ـ لکنّه خلاف الواقع‏‎[6]‎‏ ، انتهی کلامه .‏

وفیه :‏ أنّ مناط الحجّیة فی الفتوی والإخبار أمر واحد ؛ فإنّ الکاشف عند‏‎ ‎‏العقلاء فی إخبار الثقة إنّما هو إخباره جزماً عمّا سمعه ورآه ، فلو أخبر بلا جزم لا‏‎ ‎‏یصیر طریقاً ولا یتّصف بالکاشفیة ، ولا یجوز العمل به عندهم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 664
‏ولو أخبر عن جزم یتّصف بهذه الأوصاف ، حتّی بعد موته وعـدم بقاء‏‎ ‎‏جزمـه ؛ لأنّ إخباره علی وجه الجزم إنّما جعله حجّة إلی الأبد ، ما لم ینقضه نفسه‏‎ ‎‏أو حجّة اُخری .‏

‏فلو شکّ فی بقاء أوصافه وأحکامه بعد موت الراوی ـ لاحتمال دخالة حیاته‏‎ ‎‏تعبّداً ـ یستصحب بقاؤها بلا إشکال ؛ لاتّحاد القضیتین ، أو لبقاء الموضوع عندهم .‏

‏وما ذکرنا من الإشکال والجواب فی الفتوی جارٍ فیه ؛ حذو النعل بالنعل .‏

ثمّ إنّه ‏قدس سره‏‏ قد منع جریان الاستصحاب وحکم بعدم بقاء موضوعه بقوله : إنّ‏‎ ‎‏الظنّ فی الأحکام الظاهریة إنّما یکون موضوعاً لما یترتّب علی المظنون ؛ فإنّه هو‏‎ ‎‏المقصود من حجّیة الظنّ فی الاُمور الشرعیة والأحکام الفرعیة ؛ فإنّه یکون وسطاً‏‎ ‎‏فی القیاسات التی یطلب فیها ترتیب آثار متعلّقات تلک الظنون .‏

‏مثلاً إنّ شرب الخمر المظنون حرمته بواسطة أمارة ظنّیة معتبرة إنّما یستفاد‏‎ ‎‏الحکم فیه فی مقام العمل والظاهر بواسطة الظنّ .‏

‏کأن یقال : إنّ شرب الخمر ممّا یظنّ حرمته بواسطة أمارة کذائیة ، وکلّ ما‏‎ ‎‏یظنّ حرمته فیجب ترتیب آثار الحرمة الواقعیة التی کان الظنّ طریقاً إلیه علی ذلک‏‎ ‎‏المظنون ؛ فینتج وجوب ترتیب الآثار علی هذه الحرمة المظنونة ؛ من لزوم‏‎ ‎‏الاجتناب عنها وغیرها من الأحکام‏‎[7]‎‏ ، انتهی بنصّ عبارته .‏

وفیه :‏ أنّ ما ذکره ‏‏قدس سره‏‏ عبارة عن الحجّة المنطقیة ، ولیست معنی الحجّیة فی‏‎ ‎‏الأمارات وقوعها حدّاً وسطاً لإثبات الحکم الشرعی ، بل المراد من الحجّیة فیها‏‎ ‎‏لیس إلاّ تنجیز الواقع علی فرض صدقها وصحّة عقوبة المکلّف لو تخلّفت ، والحجّیة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 665
‏بهذا المعنی لا تختصّ بالأمارات ، بل یصحّ إطلاقه علی القطع ، بل وبعض الشکوک .‏

وعلیه :‏ فالحکم الشرعی إنّما هو مترتّب علی موضوعه الواقعی دون ما قام‏‎ ‎‏علیه الأمارة ، ولا المظنون بما هو مظنون ، کما یفیده ظاهر کلامه .‏

وأمّا ما ربّما یقال فی حلّ الإشکال :‏ من أنّ الموضوع للحجّیـة إنّما هو الرأی‏‎ ‎‏الموجود فی موطنه وزمن حیاته ، فهذا الظنّ المتحقّق فی ظرفه وزمن حیاته حجّة‏‎ ‎‏مطلقاً ـ حتّی الیوم الذی مات صاحبه وزال رأیه ـ لکن نفی وجوده المقیّد لایوجب‏‎ ‎‏ارتفاع وجوده المطلق عن صحیفة الواقع .‏

ضعیف ؛‏ لأنّ إثبات الحجّیة الفعلیة وجواز العمل کذلک لأمر معدوم فعلاً غیر‏‎ ‎‏صحیح ، فالمحمول الفعلی الإیجابی یحتاج إلی موضوع مثله .‏

وبعبارة اُخری :‏ ما هو الموضوع للحجّیة وجواز العمل إنّما هو الظنّ الموجود‏‎ ‎‏بقید أنّه موجود ، ومع ارتفاعه لا معنی لاستصحابه .‏

نعم‏ ، لو کانت القضیة حینیة مطلقة ؛ بأن کان الموضوع هو الظنّ فی حال‏‎ ‎‏الوجود أمکن استصحابه ؛ خصوصاً علی ما حقّقنا من عدم شرطیة بقاء الموضوع ،‏‎ ‎‏وإنّما الشرط اتّحاد القضیتین‏‎[8]‎‏ . ولکنّه لایخلو عن منع وتأمّل ، بل الظاهر : أنّ‏‎ ‎‏الموضوع هو الظنّ الموجود بین العقلاء . ولو سلّمنا فالإشکال المتقدّم بحاله ؛ لأنّ‏‎ ‎‏حمل الحجّیة الفعلیة علی أمر معدوم غیر صحیح‏‎[9]‎‏ .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 666

  • )) الوافیة فی اُصول الفقه : 210 ، فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 26 : 289 ، کفایة الاُصول : 486 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 203 ـ 204 .
  • )) مطارح الأنظار : 259 ـ 260 ، کفایة الاُصول : 545 ـ 546 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 609 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 621 .
  • )) مطارح الأنظار : 260 / السطر 6 .
  • )) مطارح الأنظار : 260 / السطر 2 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 203 .
  • )) إنّ الحجّیة وجواز العمل وتطبیق العمل علیه من الاُمور الاعتباریة الدارجة بین العقلاء ، ولیست من الحقائق الخارجیة الأصلیة التی یحتاج ثبوتها الفعلی إلی الموضوع الفعلی ، وأیّ محذور أن یکون الظنّ الموجود فی محلّه موضوعاً لجواز الاحتجاج علی نحو الإطلاق ؟ !     وقد عرفت : أنّ رفع الوجود المقیّد لا یلازم سلب وجوده المطلق فی الواقع ، علی ما قرّر فی محلّه . ثمّ أیّ فرق بین ما ذکره القائل وما اختار الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ من أنّ الرأی الجزمی بوجوده الحدوثی طریق وکاشف عن الواقع ؟ ! مع أنّ ما ذکره ـ دام ظلّه ـ وارد علی مختاره ، فتأمّل . [المؤلّف]