هل التخییر بدوی أو استمراری ؟
علی القول بتخییر العامّی فی تقلید أحد المجتهدین المتساویین ، فهل تخییـره هـذا بـدوی أو استمراری ؟ فلو قلّد أحـدهما فهل یجـوز لـه العدول منـه إلی الآخـر أو لایجوز ؟
یظهر مـن تقریر بحث شیخنا العلاّمـة ـ أعلی الله مقامـه ـ أنّ هـاهنا صـوراً ثلاثـة :
الاُولی : إذا عمل بفتوی من رجع إلیه فی واقعة شخصیة ، ثمّ أراد العدول فی نفس تلک الواقعة إلی الآخر ـ کما لو صلّی صلاة الظهر بلا سورة ، فأراد تکریر نفس هذه الصلاة معها ؛ جریاً علی رأی الآخر ـ فحکم بعدم الجواز فی هذه الصورة مطلقاً ؛ قائلاً بأنّه لامجال للعدول بعد العمل بالواجب المخیّر ؛ لعدم إمکان تکرّر صرف الوجود وامتناع تحصیل الحاصل .
ولیس کلّ زمان قیداً للأخذ بالفتوی حتّی یقال : لیس باعتبار الزمان المتأخّر تحصیلاً للحاصل ، بل الأخذ بالمضمون أمر واحد ممتدّ یکون الزمان ظرفاً له بحسب الأدلّة .
نعم ، یمکن إفادة التخییر فی الأزمنة المتأخّرة بدلیل آخر یفید التخییر فی الاستدامة علی العمل الموجود ورفع الید عنه والأخذ بالآخر ، لکنّه لیس فیما بأیدینا ما یدلّ علی التخییر فی الأزمنة المتأخّرة . وعلیه فلا یمکن الحکم بالتخییر .
وإفادته بأدلّة التخییر فی إحداث الأخذ بهذا أو ذاک ممتنع ؛ للزوم الجمع بین لحاظین متنافیین ، نظیر الجمع بین الاستصحاب والقاعدة بدلیل واحد .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 653
ولا یجری الاستصحاب ؛ لأنّ التخییر بین الإحداثین غیر ممکن الجرّ إلی الزمان الثانی ، وبالنحو الثانی لا حالة سابقة له ، والاستصحاب التعلیقی لفتوی الآخر غیر جارٍ ؛ لأنّ الحجّیة المبهمة السابقة قد صارت معیّنة فی المأخوذ ، وزالت قطعاً کالملکیة المشاعة إذا صارت مفروزة .
الصورة الثانیة : العدول فی الوقائع المستقبلة التی لم تعمل .
الصورة الثالثة : العدول قبل العمل وبعد الالتزام والأخذ ؛ فلو قلنا بأنّ التقلید عبارة عن نفس الالتزام والأخذ فلا یجوز العدول ؛ لعین ما مرّ من البیان السابق ، لأنّ المأمور به فی مثل قوله : «فارجعوا إلی رواة أحادیثنا» وغیره هو العمل الجوانحی ـ أعنی الالتزام والبناء القلبیین ـ ولو قلنا بأنّه العمل فلا إشکال فی بقاء الأمر التخییری فی کلتا الصورتین ، ومع فقد الإطلاق فلا مانع من الاستصحاب ، انتهی کلامه علی ما فی تقریر بحثه .
قلت : الذی یصلح أن یکون محلاًّ للنزاع فی أوّل الصور هو جواز تکرار العمل مطابقاً لفتوی الآخر ، وأمّا البحث عن التخییر أو جواز العدول فواضح الإشکال ؛ إذ لا معنی للتخییر بین العمل الموجود فعلاً وغیره .
وإن شئت قلت : التخییر بین الإتیان بما أتی والعمل بقول الآخر ممّا لا معنی له ؛ فإنّ التخییر إنّما یتصوّر بین الأمرین اللذین لم یوجدا أصلاً ، وأمّا إذا وجد أحد الطرفین فیرتفع موضوعه . وما أتی به من العمل فهو موجود فی ظرفه ، وطرحه وإعدامه بعد الوجود غیر معقول حتّی یتحقّق موضوع التخییر .
ومنه یظهر : أنّه أیضاً لا معنی لجواز العدول بعد العمل ، وعلی ذلک لابدّ من
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 654
تغییر مصبّ البحث إلی ما عرفت ، وتمحّضه فی جواز تکریر العمل بالعمل بقول الآخر بعد العمل بقول الأوّل :
ونقول : فربّما یقال بعدم الجواز فی الصورة الاُولی ـ کما قد یستظهر من شیخنا العلاّمة ـ لأنّ الإتیان بأحد شقّی الواجب التخییری موجب لسقوطه ، فلا یجوز الإتیان به بعده بداعویة الأمر الأوّل باحتمال داعویته أو بداعویة المحتمل ؛ إذ هی فرع عدم العلم بالسقوط .
ومنه یظهر : عدم جواز الاستصحاب ؛ لا استصحاب الوجوب التخییری لسقوطه قطعاً ، ولا جواز العمل علی طبق فتوی الآخر لعدم احتمال وجود أمر آخر غیر ما عرفت من الأمر التخییری الذی علم سقوطه .
وفیه : أنّ التخییر فی المسألة الفرعیة غیره فی المسألة الاُصولیة ؛ فإنّ الإتیان بأحد شقّی الواجب یوجب سقوط الحکم التخییری فی الفرعیة من التخییر ، دون الاُصولی منه ؛ وذلک أنّ التخییر فی المسألة الاُصولیة لانفسیة له ، وإنّما هو لأجل إحراز الواقع حسب الإمکان ، بعد عدم لزوم الاحتیاط ؛ فلو أتی بأحد الفردین ـ کالعمل بأحد الفتوائین أو الأمارتین ـ یبقی معه المجال للإتیان بالفرد الآخر ؛ تحصیلاً للقطع والیقین ؛ وإن کان المکلّف غیر ملزم علی تحصیله .
نعم ، لو قلنا بحرمة الاحتیاط أو بالإجزاء فی موارد الطرق ؛ وإن لم تکن موافقة للواقع کان لما ذکره وجه .
ومنه یظهر : صحّة استصحاب جواز الإتیان بما لم یأته علی نحو الاستصحاب التنجیزی . نعم التعلیقی منه غیر صحیح ؛ لکون التعلیق غیر شرعی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 655
وأمّا الصورتان الباقیتان : فالظاهر کون التخییر استمراریاً ؛ وإن لم نقل به فی الاُولی ، وقیاسهما علی الاُولی قیاس مع الفارق .
توضیحه : أنّ التقلید وإن کان یتحقّق بالأخذ والالتزام وعقد القلب ، إلاّ أنّه یمکن إعدامه بالرجوع عمّا التزم ، ومع الإبطال یتحقّق موضوع الأمر بإحداث الأخذ بأحدهما .
ولا یلزم ما استشکله من لزوم الجمع بین اللحاظین ؛ فإنّ ذلک فرع بقاء التقلید حتّی یکون نتیجة أدلّة التخییر الإبقاء بالنسبة إلی الأوّل والإحداث بالنسبة إلی الثانی .
لکنّک قد عرفت : أنّ الرجوع مبطل ومعدم للأوّل ، ومعه یکون المقام کالتخییر بلا سبق تقلید أصلاً .
أضف إلی ذلک : أنّ الکلام إنّما هو فی إمکان التخییر بعد الفراغ عن الإطلاق ، لا فی وجود إطلاق الدلیل وإهماله .
وعلیه : فلا یصحّ الاستدلال علی منع التخییر بأنّه یستلزم الجمع بین اللحاظین ؛ إذ هو إنّما یناسب البحث الإثباتی دون الثبوتی .
وبه یظهر الإشکال فیما أفاده : من أنّ الالتزام وعقد القلب أمر وحدانی ممتدّ إذا حصل فی زمان لایعقل حدوثه ثانیاً . وجه الإشکال : أنّ الالتزام الثانی التزام حادث ، وقد بطل الالتزام الأوّل بالرجوع ، ومعه کیف یکون الثانی بقاءً للأوّل ؟ ! هذا کلّه حسب الثبوت .
وأمّا الإثبات : فقد عرفت عدم دلیل لفظی یصحّ الاعتماد علیه فی أصل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 656
التقلید ؛ فضلاً عن وجود إطلاق یشمل حالة تعارض الفتوائین . وقد التجأنا إلی التخییر فی الفتوائین لأجل الإجماع والشهرة المنقولین ، والمتیقّن منهما إنّما هو التخییر الابتدائی ـ أی فیما إذا لم یسبق منه التزام أصلاً ـ وشمولهما لغیر هذه الصورة مورد شکّ وریب .
والتمسّک باستصحاب التخییر ضعیف جدّاً ؛ لکون التخییر البدوی مبایناً للتخییر الاستمراری موضوعاً ومحمولاً . هذا کلّه إذا کان المستصحب شخص الحکم .
وأمّا استصحاب الجامع بین التخییرین أو جامع الجوازین : فقد أوضحنا حاله فیما سبق ؛ بأنّ الجامع أمر انتزاعی لیس بحکم شرعی . علی أنّ ترتیب أثر الجامع علی المصداق لایخرج عن الاُصول المثبتة ، فراجع .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 657
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 658