المقصد السابع فی الاُصول العملیة

الأوّل‏: الاستدلال بالآیات

الأوّل : الاستدلال بالآیات

‏ ‏

منها :‏ قوله تعالی : ‏‏«‏وَما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ‎ ‎الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ‏»‏‎[1]‎‏ مدّعیاً أنّ إطلاقها یشمل السؤال عن مطلق أهل الذکر‏‎ ‎‏ـ فاضلاً کان أو مفضولاً ، حصل التوافق بینهما أولا ـ خصوصاً مع ندرة التساوی‏‎ ‎‏والتوافق .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه لایصحّ الاستشهاد بالآیة لما نحن فیه ؛ لا بحکم السیاق إذ‏‎ ‎‏لازمه کون المراد من أهل الذکر هو علماء الیهود والنصاری ، ولا بحکم الروایات‏‎ ‎‏فإنّ مقتضی المأثورات کون الأئمّة هم أهل الذکر المأمور بالسؤال عنهم‏‎[2]‎‏ .‏

وثانیاً :‏ أنّ الهدف من السؤال إنّما هو تحصیل العلم ، لا القبول علی وجه‏‎ ‎‏التعبّد ، کما یفصح عنه الجملة الشرطیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 627
ویؤیّده :‏ أنّ الأمر بالسؤال کان لما یختلج فی أذهانهم من الشبهات حول‏‎ ‎‏الاُصول والعقائد . فحینئذٍ تختصّ الآیة بالموارد التی یعتبر فیها تحصیل العلم ،‏‎ ‎‏ومعلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لایفید العلم .‏

‏فلا محیص عن القول بنفی الإطلاق عن الآیة ، وأنّها بصدد بیان أنّ طریق‏‎ ‎‏تحصیل العلم هو الرجوع إلی أهله ، من دون أن تکون لها إطلاق بالنسبة إلی‏‎ ‎‏المسؤول حتّی یکون مقتضاه هو الرجوع إلی المفضول مع وجود الفاضل ، بل وزانها‏‎ ‎‏وزان قول القائل للمریض : «ارجع إلی الطبیب واشرب الدواء ؛ لکی تصحّ» فی أنّ‏‎ ‎‏طریق تحصیل الصحّة هو الرجوع إلی الطبیب ، فلا إطلاق له ؛ لا من جهة الطبیب‏‎ ‎‏ولا الدواء . بل یمکن أن تکون الآیة کالقول المزبور إرشاداً إلی ما هو المرتکز فی‏‎ ‎‏أذهان العقلاء ؛ من لزوم الرجوع إلی العالم فقط ، من دون إطلاق ولا تحمیل أمر‏‎ ‎‏تعبّدی من کفایة المفضول مع مخالفته للفاضل .‏

منها :‏ قوله تعالی ‏‏«‏وَما کانَ الْمُؤِمنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ‎ ‎مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ‎ ‎یَحْذَرُونَ‏»‏‎[3]‎‏ .‏

‏والاستدلال علی المقام یتوقّف علی تمامیة اُمور :‏

‏الأوّل : وجوب النفر .‏

‏الثانی : کون التفقّه من الغایات المترتّبة علیه ، لامن الفوائد .‏

‏الثالث : انحصار التفقّه فی الدین فی الأحکام الفرعیة .‏

‏الرابع : کون ما ینذر به من جنس ما تفقّهوا فیه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 628
‏الخامس : کون المنذِر کلّ واحد من النافرین .‏

‏السادس : کون المنذَر کلّ واحد من المتخلّفین الباقین .‏

‏السابع : إثبات أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملی ؛ أی القیام علی العمل‏‎ ‎‏علی طبق ما حذروهم .‏

‏الثامن والتاسع : لزوم العمل بقول المنذر ؛ حصل العلم من قوله أولا ، خالف‏‎ ‎‏قول الغیر أولا .‏

‏فلو تمّت هذه المقدّمات أمکن للقائل الاستدلال بها ؛ قائلاً بأنّ مفاد الآیة‏‎ ‎‏لزوم الحذر العملی مـن قول المنذر مطلقاً ؛ فاضلاً کان أو غیره ، وافـق قول‏‎ ‎‏المفضول قول غیره أولا .‏

لکن الکلام فی إثباتها ؛‏ فإنّ أکثرها غیر ثابت ، أو ثبت خلافه :‏

أمّا الأوّل :‏ فیمکن منعه بمنع کون التفقّه غایة للنفر ؛ بأن یقال : إنّ قوله ‏‏«‏وَما‎ ‎کانَ الْمُؤِمنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً‏»‏‏ إخبار فی مقام الإنشاء ؛ أی لیس لهم النفر العمومی‏‎ ‎‏وإبقاء رسول الله وحده ، فأمر بنفر طائفة للجهاد وبقاء طائفة عند رسول الله  ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‎ ‎‏للتفقّه فی الدین ، فلا یکون التفقّه غایة للنفر .‏

ولکن الإنصاف :‏ عدم صحّة ما ذکر ؛ لأنّ ظاهرها کون الآیة بصدد الإخبار‏‎ ‎‏عن أمر طبیعی ، وهو أنّ نظام الدنیا والمعاش وإن کان یمنع عن نفر الجمیع إلاّ أنّه‏‎ ‎‏لماذا لاینفر عدّة منهم للتفقّه ، فظاهرها هو کون الغایة من النفر هو التفقّه . هذا مع‏‎ ‎‏قطع النظر عن قول المفسّرین .‏

‏نعم ، یمکن الخدشة فی الباقی ؛ فإنّ دعوی کون ما ینذر به مـن جنس ما‏‎ ‎‏یتفقّه فیه ممنوعة ؛ لأنّ الإنذار ببیان الأحکام الشرعیة ضمنی ، وهـذا بخلاف‏‎ ‎‏الإنذار بإیراد المواعظ وبیان درجات أهل الجنّة ودرکات أهل النار ؛ فإنّ ذلک‏‎ ‎‏یزعزع القلوب ، ویملأها من خشیة الله .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 629
‏فإذا خافوا یرشدهم عقلهم إلی تحصیل المؤمّن من العقاب ، ولیس المؤمّن‏‎ ‎‏عنده إلاّ العلم بشرائطه وأحکامه مقدّمةً للعمل بها .‏

والحاصل :‏ أنّ النفر له غایتان : التفقّه فی الدین ، وإنذار القوم وموعظتهم ؛‏‎ ‎‏فللفقیه وظیفتان : فَهْم أحکامه وإنذار قومه بما أنذر الله به . ولا دلیل علی کون ما‏‎ ‎‏أنذر من جنس ما تفقّه فیه .‏

‏ولعلّ إلزام الفقیه علی إنذار قومه لأجل کون الفقیه أعرف بحدود ما ینذر به‏‎ ‎‏وشرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر . أضف إلیه : أنّ لکلامه تأثیراً فی القوم ؛‏‎ ‎‏لعلوّ کعبه وعظم مقامه لدیهم .‏

‏کما أنّ تخصیص التفقّه فی الدین بالفروع تخصیص بلا جهة ؛ لأنّ الدین‏‎ ‎‏یطلق علی اُصوله وفروعه کما فی قوله تعالی : ‏‏«‏إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ الله ِ الإِسْلامُ‏»‏‎[4]‎‏ ،‏‎ ‎‏ویظهر أیضاً من الروایات عمومیته ، کما سیوافیک‏‎[5]‎‏ . وعلیه فلا یمکن القول‏‎ ‎‏بوجوب قبول قوله تعبّداً ؛ لعدم حجّیة قوله فی الاُصول ، إلاّ أن یقال : إنّ الإطلاق‏‎ ‎‏مقیّد بإفادة العلم فی الاُصول بحکم العقل والأدلّة .‏

‏نعم ، ظاهر الآیة یعطی ثبوت الأمر الخامس ؛ وهو کون المنذر کلّ واحد من‏‎ ‎‏النافرین ، إلاّ أنّه یدلّ علی أنّ لکلّ واحد منهم إنذار القوم جمیعاً لابعض القوم ، کما‏‎ ‎‏هو مبنی الاستدلال .‏

‏فحینئذٍ : یسقط الآیة عن الدلالة ؛ لأنّه ربّما یحصل العلم بإنذار المنذرین‏‎ ‎‏جمیع القوم ، ولایدلّ علی وجوب القبول من کلّ واحد تعبّداً ؛ وإن لم ینضمّ إلیه‏‎ ‎‏الآخـرون .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 630
‏کما أنّ حمل الحذر علی قبول قول الغیر والعمل بمقتضاه خلاف الظاهر ؛ فإنّه‏‎ ‎‏ظاهر فی الحذر بمعنی الخوف القلبی الحاصل من إنذار الناذرین .‏

والعمدة :‏ أنّه لا إطلاق للآیة الکریمة ؛ ضرورة أنّها بصدد بیان کیفیة النفر‏‎ ‎‏وأنّه إذن لا یمکن للناس النفر العمومی ، فلِم لاینفر طائفة منهم ؟ فإنّه میسور لهم .‏

وبالجملة :‏ لایجوز لهم سدّ باب التعلّم والتفقّه بعذر الاشتغال باُمور الدنیا ؛‏‎ ‎‏فإنّ أمر الدین کسائر اُمورهم یمکن قیام طائفة به ، فلابدّ من التفقّه والإنذار ، فلا‏‎ ‎‏إطلاق لها یدلّ علی وجوب القبول بمجرّد السماع ؛ فضلاً عن إطلاقها لحال‏‎ ‎‏التعارض .‏

والإنصاف :‏ إنّ الآیة أجنبیة عن حجّیة قول المفتی وکذا عن حجّیة قول‏‎ ‎‏المخبر ، بل مفادها ـ والعلم عند الله تعالی ـ أنّه یجب علی طائفة من کلّ فرقة التفقّه‏‎ ‎‏فی الدین والرجوع إلی قومهم للإنذار بالمواعظ والبیانات الموجبة لحصول الخوف‏‎ ‎‏فی قلوبهم لعلّهم یحذرون ، ویحصل فی قلوبهم الخوف من الله تعالی ، فحینئذٍ یدور‏‎ ‎‏رحی الدیانة ، ویقوم الناس بأمرها لا محالة .‏

‏هذا کلّه إذا قصرنا النظر إلی نفس الآیة .‏

وأمّا إذا لاحظنا الروایات الواردة فی تفسیرها‏ فالأمر أوضح ؛ فقد استدلّ‏‎ ‎‏الإمام فی عدّة منها بها علی لزوم معرفة الإمام ، وأنّ الإمام إذا مات لم یکن للناس‏‎ ‎‏عذر فی عدم معرفة الإمام الذی بعده ؛ أمّا من فی البلد فلرفع حجّته ، وأمّا غیر‏‎ ‎‏الحاضر فعلیه النفر إذا بلغه‏‎[6]‎‏ .‏

‏وفی روایة اُخری : یجب علی الناس الفحص عن الإمام إذا مات بنفر طائفة‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 631
‏منهم ، وأنّ النافرین فی عذر ماداموا فی الطلب ، والمنتظرین فی عذر حتّی یرجع‏‎ ‎‏إلیهم أصحابهم‏‎[7]‎‏ ، ومعلوم أنّ قول النافرین لیس بحجّة فی باب الإمامة .‏

ثمّ ورد فی تفسیرها روایات اُخر :

‏منها :‏‏ ما تمسّک الإمام بهذه الآیة فی بیان منافع الحجّ وأنّ فیه التفقّه ونقل‏‎ ‎‏الروایات إلی الناس ، ونشرها فی النواحی‏‎[8]‎‏ .‏

ومنها :‏ ما استدلّ به الإمام علی لزوم التفقّه : فقد روی علی بن أبی حمزة‏‎ ‎‏قال : سمعت أبا عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ یقول : ‏«تفقّهوا فی الدین ؛ فإنّ من لم یتفقّه فهو‎ ‎أعرابی . إنّ الله یقول فی کتابه : ‏«‏‏لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ . . .‏‏»‏‏ »‏‎[9]‎‏ إلی آخره .‏

ومنها :‏ ما فسّر الإمام بها الروایة المأثورة عن النبی : ‏«اختلاف اُمّتی رحمة»‏ .‏

‏فقال ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«المراد اختلافهم نحو الحدیث ، وإنّ الله تعالی یقول : ‏«‏‏فَلَوْلاَ نَفَرَ‏‎ ‎‏مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ‏‏»‏‏ »‏‎[10]‎‏ .‏

‏وهذه الطائفة من الروایات ـ علی تسلیم إسنادها ـ لا إطلاق ولا دلالة لها‏‎ ‎‏علی وجوب قبول قول الراوی بمجرّد السماع ؛ فضلاً عن شمولها لحال اختلاف‏‎ ‎‏فاضله ومفضوله ، کما لایخفی .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 632

  • )) الأنبیاء (21) : 7 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 62 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 7 .
  • )) التوبة (9) : 122 .
  • )) آل عمران (3) : 19 .
  • )) یأتی فی الصفحة 634 ـ 639 .
  • )) الکافی 1 : 378 / 2 و 3 .
  • )) الکافی 1 : 378 / 1 ، البرهان فی تفسیر القرآن 2 : 579 / 1 .
  • )) عیون أخبار الرضا علیه السلام 2 : 119 ، علل الشرائع : 273 / 9 ، وسائل الشیعة 27 : 96 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 8 ، الحدیث 65 .
  • )) الکافی 1 : 31 / 6 .
  • )) معانی الأخبار : 157 / 1 ، علل الشرائع : 85 / 4 ، وسائل الشیعة 27 : 140 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 11 ، الحدیث 10 .