الأوّل : الاستدلال بالآیات
منها : قوله تعالی : «وَما أَرْسَلْنا قَبْلَکَ إِلاّ رِجالاً نُوحِی إِلَیْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّکْرِ إِنْ کُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» مدّعیاً أنّ إطلاقها یشمل السؤال عن مطلق أهل الذکر ـ فاضلاً کان أو مفضولاً ، حصل التوافق بینهما أولا ـ خصوصاً مع ندرة التساوی والتوافق .
وفیه أوّلاً : أنّه لایصحّ الاستشهاد بالآیة لما نحن فیه ؛ لا بحکم السیاق إذ لازمه کون المراد من أهل الذکر هو علماء الیهود والنصاری ، ولا بحکم الروایات فإنّ مقتضی المأثورات کون الأئمّة هم أهل الذکر المأمور بالسؤال عنهم .
وثانیاً : أنّ الهدف من السؤال إنّما هو تحصیل العلم ، لا القبول علی وجه التعبّد ، کما یفصح عنه الجملة الشرطیة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 627
ویؤیّده : أنّ الأمر بالسؤال کان لما یختلج فی أذهانهم من الشبهات حول الاُصول والعقائد . فحینئذٍ تختصّ الآیة بالموارد التی یعتبر فیها تحصیل العلم ، ومعلوم أنّ السؤال عن واحد منهم لایفید العلم .
فلا محیص عن القول بنفی الإطلاق عن الآیة ، وأنّها بصدد بیان أنّ طریق تحصیل العلم هو الرجوع إلی أهله ، من دون أن تکون لها إطلاق بالنسبة إلی المسؤول حتّی یکون مقتضاه هو الرجوع إلی المفضول مع وجود الفاضل ، بل وزانها وزان قول القائل للمریض : «ارجع إلی الطبیب واشرب الدواء ؛ لکی تصحّ» فی أنّ طریق تحصیل الصحّة هو الرجوع إلی الطبیب ، فلا إطلاق له ؛ لا من جهة الطبیب ولا الدواء . بل یمکن أن تکون الآیة کالقول المزبور إرشاداً إلی ما هو المرتکز فی أذهان العقلاء ؛ من لزوم الرجوع إلی العالم فقط ، من دون إطلاق ولا تحمیل أمر تعبّدی من کفایة المفضول مع مخالفته للفاضل .
منها : قوله تعالی «وَما کانَ الْمُؤِمنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ وَلِیُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَیْهِمْ لَعَلَّهُمْ یَحْذَرُونَ» .
والاستدلال علی المقام یتوقّف علی تمامیة اُمور :
الأوّل : وجوب النفر .
الثانی : کون التفقّه من الغایات المترتّبة علیه ، لامن الفوائد .
الثالث : انحصار التفقّه فی الدین فی الأحکام الفرعیة .
الرابع : کون ما ینذر به من جنس ما تفقّهوا فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 628
الخامس : کون المنذِر کلّ واحد من النافرین .
السادس : کون المنذَر کلّ واحد من المتخلّفین الباقین .
السابع : إثبات أنّ المراد من الحذر هو الحذر العملی ؛ أی القیام علی العمل علی طبق ما حذروهم .
الثامن والتاسع : لزوم العمل بقول المنذر ؛ حصل العلم من قوله أولا ، خالف قول الغیر أولا .
فلو تمّت هذه المقدّمات أمکن للقائل الاستدلال بها ؛ قائلاً بأنّ مفاد الآیة لزوم الحذر العملی مـن قول المنذر مطلقاً ؛ فاضلاً کان أو غیره ، وافـق قول المفضول قول غیره أولا .
لکن الکلام فی إثباتها ؛ فإنّ أکثرها غیر ثابت ، أو ثبت خلافه :
أمّا الأوّل : فیمکن منعه بمنع کون التفقّه غایة للنفر ؛ بأن یقال : إنّ قوله «وَما کانَ الْمُؤِمنُونَ لِیَنْفِرُوا کَافَّةً» إخبار فی مقام الإنشاء ؛ أی لیس لهم النفر العمومی وإبقاء رسول الله وحده ، فأمر بنفر طائفة للجهاد وبقاء طائفة عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم للتفقّه فی الدین ، فلا یکون التفقّه غایة للنفر .
ولکن الإنصاف : عدم صحّة ما ذکر ؛ لأنّ ظاهرها کون الآیة بصدد الإخبار عن أمر طبیعی ، وهو أنّ نظام الدنیا والمعاش وإن کان یمنع عن نفر الجمیع إلاّ أنّه لماذا لاینفر عدّة منهم للتفقّه ، فظاهرها هو کون الغایة من النفر هو التفقّه . هذا مع قطع النظر عن قول المفسّرین .
نعم ، یمکن الخدشة فی الباقی ؛ فإنّ دعوی کون ما ینذر به مـن جنس ما یتفقّه فیه ممنوعة ؛ لأنّ الإنذار ببیان الأحکام الشرعیة ضمنی ، وهـذا بخلاف الإنذار بإیراد المواعظ وبیان درجات أهل الجنّة ودرکات أهل النار ؛ فإنّ ذلک یزعزع القلوب ، ویملأها من خشیة الله .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 629
فإذا خافوا یرشدهم عقلهم إلی تحصیل المؤمّن من العقاب ، ولیس المؤمّن عنده إلاّ العلم بشرائطه وأحکامه مقدّمةً للعمل بها .
والحاصل : أنّ النفر له غایتان : التفقّه فی الدین ، وإنذار القوم وموعظتهم ؛ فللفقیه وظیفتان : فَهْم أحکامه وإنذار قومه بما أنذر الله به . ولا دلیل علی کون ما أنذر من جنس ما تفقّه فیه .
ولعلّ إلزام الفقیه علی إنذار قومه لأجل کون الفقیه أعرف بحدود ما ینذر به وشرائط الأمر بالمعروف والنهی عن المنکر . أضف إلیه : أنّ لکلامه تأثیراً فی القوم ؛ لعلوّ کعبه وعظم مقامه لدیهم .
کما أنّ تخصیص التفقّه فی الدین بالفروع تخصیص بلا جهة ؛ لأنّ الدین یطلق علی اُصوله وفروعه کما فی قوله تعالی : «إِنَّ الدِّینَ عِنْدَ الله ِ الإِسْلامُ» ، ویظهر أیضاً من الروایات عمومیته ، کما سیوافیک . وعلیه فلا یمکن القول بوجوب قبول قوله تعبّداً ؛ لعدم حجّیة قوله فی الاُصول ، إلاّ أن یقال : إنّ الإطلاق مقیّد بإفادة العلم فی الاُصول بحکم العقل والأدلّة .
نعم ، ظاهر الآیة یعطی ثبوت الأمر الخامس ؛ وهو کون المنذر کلّ واحد من النافرین ، إلاّ أنّه یدلّ علی أنّ لکلّ واحد منهم إنذار القوم جمیعاً لابعض القوم ، کما هو مبنی الاستدلال .
فحینئذٍ : یسقط الآیة عن الدلالة ؛ لأنّه ربّما یحصل العلم بإنذار المنذرین جمیع القوم ، ولایدلّ علی وجوب القبول من کلّ واحد تعبّداً ؛ وإن لم ینضمّ إلیه الآخـرون .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 630
کما أنّ حمل الحذر علی قبول قول الغیر والعمل بمقتضاه خلاف الظاهر ؛ فإنّه ظاهر فی الحذر بمعنی الخوف القلبی الحاصل من إنذار الناذرین .
والعمدة : أنّه لا إطلاق للآیة الکریمة ؛ ضرورة أنّها بصدد بیان کیفیة النفر وأنّه إذن لا یمکن للناس النفر العمومی ، فلِم لاینفر طائفة منهم ؟ فإنّه میسور لهم .
وبالجملة : لایجوز لهم سدّ باب التعلّم والتفقّه بعذر الاشتغال باُمور الدنیا ؛ فإنّ أمر الدین کسائر اُمورهم یمکن قیام طائفة به ، فلابدّ من التفقّه والإنذار ، فلا إطلاق لها یدلّ علی وجوب القبول بمجرّد السماع ؛ فضلاً عن إطلاقها لحال التعارض .
والإنصاف : إنّ الآیة أجنبیة عن حجّیة قول المفتی وکذا عن حجّیة قول المخبر ، بل مفادها ـ والعلم عند الله تعالی ـ أنّه یجب علی طائفة من کلّ فرقة التفقّه فی الدین والرجوع إلی قومهم للإنذار بالمواعظ والبیانات الموجبة لحصول الخوف فی قلوبهم لعلّهم یحذرون ، ویحصل فی قلوبهم الخوف من الله تعالی ، فحینئذٍ یدور رحی الدیانة ، ویقوم الناس بأمرها لا محالة .
هذا کلّه إذا قصرنا النظر إلی نفس الآیة .
وأمّا إذا لاحظنا الروایات الواردة فی تفسیرها فالأمر أوضح ؛ فقد استدلّ الإمام فی عدّة منها بها علی لزوم معرفة الإمام ، وأنّ الإمام إذا مات لم یکن للناس عذر فی عدم معرفة الإمام الذی بعده ؛ أمّا من فی البلد فلرفع حجّته ، وأمّا غیر الحاضر فعلیه النفر إذا بلغه .
وفی روایة اُخری : یجب علی الناس الفحص عن الإمام إذا مات بنفر طائفة
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 631
منهم ، وأنّ النافرین فی عذر ماداموا فی الطلب ، والمنتظرین فی عذر حتّی یرجع إلیهم أصحابهم ، ومعلوم أنّ قول النافرین لیس بحجّة فی باب الإمامة .
ثمّ ورد فی تفسیرها روایات اُخر :
منها : ما تمسّک الإمام بهذه الآیة فی بیان منافع الحجّ وأنّ فیه التفقّه ونقل الروایات إلی الناس ، ونشرها فی النواحی .
ومنها : ما استدلّ به الإمام علی لزوم التفقّه : فقد روی علی بن أبی حمزة قال : سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول : «تفقّهوا فی الدین ؛ فإنّ من لم یتفقّه فهو أعرابی . إنّ الله یقول فی کتابه : «لِیَتَفَقَّهُوا فِی الدِّینِ . . .» » إلی آخره .
ومنها : ما فسّر الإمام بها الروایة المأثورة عن النبی : «اختلاف اُمّتی رحمة» .
فقال علیه السلام : «المراد اختلافهم نحو الحدیث ، وإنّ الله تعالی یقول : «فَلَوْلاَ نَفَرَ مِنْ کُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ» » .
وهذه الطائفة من الروایات ـ علی تسلیم إسنادها ـ لا إطلاق ولا دلالة لها علی وجوب قبول قول الراوی بمجرّد السماع ؛ فضلاً عن شمولها لحال اختلاف فاضله ومفضوله ، کما لایخفی .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 632