المقصد السابع فی الاُصول العملیة

مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم

مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم

‏ ‏

‏والذی یمکن أن یکون مناطاً لرجوعهم أحد اُمور ثلاث :‏

الأوّل :‏ أن یکون ذلک لأجل انسداد باب العلم فی الموارد التی یری الجاهل‏‎ ‎‏نفسه ملزماً لتحصیل الواقع ؛ لما فیه من مصالح ومفاسد یجب استیفاؤها أو الاحتراز‏‎ ‎‏عنها ، ولایمکن له العمل بالاحتیاط ؛ لکونه مستلزماً للاختلال أو العسر والحرج ؛‏‎ ‎‏فیحکم عقله بالرجوع إلی أهل الخبرة وعلماء الفنّ ؛ لکونه أقرب الطرق .‏

وفیه :‏ بطلان مقدّمات الانسداد فی أکثر الموارد ؛ لعدم استلزام الاحتیاط‏‎ ‎‏الاختلال والعسر فی موارد کثیرة یرجع الجاهل إلی أهل الخبرة ، وعلی فرض‏‎ ‎‏استلزامه فلازمه التبعیض فی الاحتیاط ، لا العمل بقول أهل الخبرة ، کما أوضحناه‏‎ ‎‏فی محلّه‏‎[1]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 621
الثانی :‏ أنّ رؤوس کلّ فرقة ونحلة قد اجتمعوا ، فرأوا أنّ مصلحة مللهم‏‎ ‎‏ونحلهم ـ حفظاً لرغد عیشهم ، وتسهیلاً لأمرهم ـ أن یرجع جاهل کلّ مورد إلی‏‎ ‎‏عالمه ، فوصل هذا من السلف إلی الخلف ؛ حتّی دار بینهم أجیالاً وقروناً ، وصار من‏‎ ‎‏الاُمور الارتکازیة .‏

لکنّه بمراحل من الواقع ،‏ بل مقطوع خلافه ؛ لأنّ تصادف القوانین البشریة من‏‎ ‎‏باب الاتّفاق بعید ، بل ممتنع عادة ؛ فالاُمم الغابرة المتبدّد شملهم ، المتفرّق جمعهم ،‏‎ ‎‏المفقود عندهم عامل الارتباط والاجتماع کیف اجتمعوا ورأوا أنّ مصالح الاُمم‏‎ ‎‏ذلک ، مع تفرّقهم فی أصقاع مختلفة وأمکنة متباعدة ؟ !‏

الثالث :‏ أن یکون ذلک لأجل إلغاء احتمال الخلاف والغلط فی عمل أهل‏‎ ‎‏الصنائع والفنون ، وما یلقیه إلیهم العلماء وأصحاب الآراء فی المسائل النظریة ،‏‎ ‎‏ووجه ذلک الإلغاء هو ندرة المخالفة وقلّتها ؛ بحیث لایعتنی بها العقلاء ، بل یعملون‏‎ ‎‏به ؛ غافلاً عن احتمال المخالفة ؛ بحیث لایختلج فی أذهانهم الریب والشکّ .‏

‏وإن أوجدنا عندهم وسائل التشکیک ربّما ینقدح فی قلوبهم ، فهو عندهم علم‏‎ ‎‏عرفی یوجب الطمأنینة . وهذا ـ إلغاء احتمال الخلاف ؛ لندرة المخالفة للواقع ـ هو‏‎ ‎‏الأساس لأکثر السِیَر الدارجة عندهم ؛ من العمل بالأمارات وأصل الصحّة وقاعدة‏‎ ‎‏الید ، وهذا الوجه أقرب الوجوه .‏

ویرد علیه :‏ أنّ دعوی إلغاء احتمال الخطأ فیما نحن فیه غریب جدّاً مع ما‏‎ ‎‏نشاهده ، ویشاهد العقلاء من کثرة الاختلاف بین الفقهاء فی المسائل الفرعیة ، بل‏‎ ‎‏الاختلاف الموجود فی کتب فقیه واحد ، ومع ذلک کیف یمکن أن یکون هذا الإلغاء‏‎ ‎‏لأجل ندرة المخالفة للواقع ؟ !‏

اللهمّ إلاّ أن یقال :‏ إنّ رجوع العقلاء إلی أصحاب الفتیا مبنی علی غفلتهم عن‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 622
‏هذا المعنی ، وتخیّلهم أنّ فنّ الفقه کسائر الفنون یقلّ فیه الخطأ ، أو علی وجود دلیل‏‎ ‎‏شرعی وصل من السلف إلی الخلف ، وحینئذٍ یصیر الرجوع أمراً تعبّدیاً لا عقلائیاً .‏

فإن قلت :‏ إنّ أخطاء الفقهاء وإن کانت کثیرة فی حدّ نفسه ؛ بحیث لو جمعت‏‎ ‎‏من أوّل الفقه إلی آخره أمکن تدوین فقه غیر صحیح ، إلاّ أنّ أخطاء کلّ واحد منهم‏‎ ‎‏قلیلة بالنسبة إلی آرائه المطابقة للواقع ، فلو لوحظت عامّة فتواه ، وضمّمت الموارد‏‎ ‎‏بعضها إلی بعض یری الإنسان قلّة خطأه بالنسبة إلی ما أصاب‏‎[2]‎‏ .‏

قلت :‏ هذا غیر صحیح ؛ إذ نری بالوجدان کثرة اختلافهم فی باب واحد من‏‎ ‎‏أبواب الفقه ، فلا محالة یکون الآراء جمیعاً أو غیر واحد منها مخالفاً للواقع ، وکثرة‏‎ ‎‏الاختلاف دلیل علی کثرة الخطأ .‏

وربّما یقال ما هذا محصّله :‏ إنّ المطلوب للعقلاء فی باب الاحتجاجات بین‏‎ ‎‏الموالی والعبید إنّما هو قیام الحجّة وسقوط التکلیف والعقاب بأیّ وجه اتّفق ،‏‎ ‎‏والرجوع إلی الفقهاء موجب لذلک ؛ لأنّهم مع اختلافهم فی الرأی مشترکون فی عدم‏‎ ‎‏الخطأ فی الاجتهاد .‏

‏ولا ینافی ذلک الاختلاف فی الرأی ؛ لإمکان عثور أحدهما علی حجّة فی‏‎ ‎‏غیر مظانّها ، أو علی أصل من الاُصول المعتمدة ، ولم یعثر الآخر علیهما ، مع بذله‏‎ ‎‏الجهد . فلا یکون واحد منهما مخطئاً فی اجتهاده ، بل له ولغیره العمل برأیه .‏‎ ‎‏ورجوع العقلاء إلیهما لأجل قیام الحجّة والعذر لهم ، لا لأجل إصابتهم الواقع .‏‎ ‎‏وأوضح من ذلک : لو قلنا بجعل المماثل فی مفاد الأمارات‏‎[3]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 623
وفیه أوّلاً :‏ أنّه إن أراد من عدم خطأهما عدم تقصیرهما فی تحصیل الحکم‏‎ ‎‏الشرعی فمسلّم لکن لایجدیه . وإن أراد منه عدم خطأهما فی نفس الحکم الشرعی‏‎ ‎‏فواضح الخطأ ؛ لأنّ واحداً منهما مخالف للواقع .‏

‏فإذا اتّسع نطاق الخلاف ووقفنا علی اختلافهما فی موارد کثیرة من المسائل‏‎ ‎‏لایصحّ الرجوع إلی کلّ واحد ؛ حتّی فیما اتّفقا علیه من الفتاوی ؛ للاعتداد باحتمال‏‎ ‎‏الخطأ حینئذٍ ، وانقداح الشکّ والریب فی عامّة ما أفتی به . ولا یتحقّق بناء العقلاء‏‎ ‎‏علی إلغاء الخلاف واحتمال الخطأ عندئذٍ ، فلا یکون ذلک الفتیا مع ذلک معذّراً .‏

وثانیاً :‏ أنّه لو سلّمنا أنّ غرض العقلاء تحصیل الحجّة والعذر لا الإصابة‏‎ ‎‏بالواقع ، لکنّهما یتوقّفان علی إلغاء احتمال الخطأ فی الاجتهاد واستنباط الأحکام‏‎ ‎‏الشرعیة الواقعیة ؛ حتّی یجعل مع هذا الإلغاء فی عداد سائر الأمارات العقلائیة فی‏‎ ‎‏تحصیل الحجّة والعذر ، وهو مع هذا الاختلاف الفاحش فی الفتاوی غیر ممکن .‏

‏ولو کان الخطأ فی الاجتهاد مستنداً إلی خطأ الأمارة فما هو المعذور إنّما هو‏‎ ‎‏المجتهد لا المقلِّد ؛ لأنّ مبنی عمله إنّما هو فتواه لا الأمارة التی تبیّن خطأها ، ولا‏‎ ‎‏یکون فتواه معذّراً له إلاّ إذا وقع فی عداد سائر الأمارات العقلائیة ؛ بأن یکون قلیل‏‎ ‎‏الخطأ ، کثیر الإصابة عندهم . وکیف یکون کذلک مع تخطئة کلّ مجتهد مخالفه ، وأنّه‏‎ ‎‏مخطئ غیر مقصّر ؟‏

اللهمّ إلاّ أن یقال :‏ ما أوضحناه سابقاً من أنّ عدم ردع الشارع هذا البناء من‏‎ ‎‏المتشرّعة ـ مع علمه بأنّ الاُمّة سوف ترجع إلی الفقهاء الذین یقوم الاختلاف‏‎ ‎‏والتشاجر بینهم علی ساقیه ـ دلیل علی إمضائه وارتضائه .‏

‏لکن جعل ذلک بناءً عقلائیاً ، وجعل العمل به کالعمل بسائر الأمارات المعتبرة‏‎ ‎‏عندهم لایخلو عن غموض .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 624
‏إلاّ أن یقال : إنّ عمل المتشرّعة بالفتاوی من باب الطریقیة والأماریة ، مع‏‎ ‎‏عدم کونها حائزاً لشرائطها ، لکن سکوته وعدم ردعه عن هذه السنّة العملیة کاشف‏‎ ‎‏عن رضاه ، وملازم لجعل الشارع إیّاها أمارة شرعیة مجعولة ، فتأمّل جیّداً .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 625

  • )) تقدّم فی الصفحة 606 .
  • )) البیع ، رسالة الاجتهاد والتقلید (تقریرات المحقّق الحائری) الأراکی 2 : 409 .
  • )) نفس المصدر 2 : 411 ـ 412 .