مناط بناء العقلاء فی رجوع الجاهل إلی العالم
والذی یمکن أن یکون مناطاً لرجوعهم أحد اُمور ثلاث :
الأوّل : أن یکون ذلک لأجل انسداد باب العلم فی الموارد التی یری الجاهل نفسه ملزماً لتحصیل الواقع ؛ لما فیه من مصالح ومفاسد یجب استیفاؤها أو الاحتراز عنها ، ولایمکن له العمل بالاحتیاط ؛ لکونه مستلزماً للاختلال أو العسر والحرج ؛ فیحکم عقله بالرجوع إلی أهل الخبرة وعلماء الفنّ ؛ لکونه أقرب الطرق .
وفیه : بطلان مقدّمات الانسداد فی أکثر الموارد ؛ لعدم استلزام الاحتیاط الاختلال والعسر فی موارد کثیرة یرجع الجاهل إلی أهل الخبرة ، وعلی فرض استلزامه فلازمه التبعیض فی الاحتیاط ، لا العمل بقول أهل الخبرة ، کما أوضحناه فی محلّه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 621
الثانی : أنّ رؤوس کلّ فرقة ونحلة قد اجتمعوا ، فرأوا أنّ مصلحة مللهم ونحلهم ـ حفظاً لرغد عیشهم ، وتسهیلاً لأمرهم ـ أن یرجع جاهل کلّ مورد إلی عالمه ، فوصل هذا من السلف إلی الخلف ؛ حتّی دار بینهم أجیالاً وقروناً ، وصار من الاُمور الارتکازیة .
لکنّه بمراحل من الواقع ، بل مقطوع خلافه ؛ لأنّ تصادف القوانین البشریة من باب الاتّفاق بعید ، بل ممتنع عادة ؛ فالاُمم الغابرة المتبدّد شملهم ، المتفرّق جمعهم ، المفقود عندهم عامل الارتباط والاجتماع کیف اجتمعوا ورأوا أنّ مصالح الاُمم ذلک ، مع تفرّقهم فی أصقاع مختلفة وأمکنة متباعدة ؟ !
الثالث : أن یکون ذلک لأجل إلغاء احتمال الخلاف والغلط فی عمل أهل الصنائع والفنون ، وما یلقیه إلیهم العلماء وأصحاب الآراء فی المسائل النظریة ، ووجه ذلک الإلغاء هو ندرة المخالفة وقلّتها ؛ بحیث لایعتنی بها العقلاء ، بل یعملون به ؛ غافلاً عن احتمال المخالفة ؛ بحیث لایختلج فی أذهانهم الریب والشکّ .
وإن أوجدنا عندهم وسائل التشکیک ربّما ینقدح فی قلوبهم ، فهو عندهم علم عرفی یوجب الطمأنینة . وهذا ـ إلغاء احتمال الخلاف ؛ لندرة المخالفة للواقع ـ هو الأساس لأکثر السِیَر الدارجة عندهم ؛ من العمل بالأمارات وأصل الصحّة وقاعدة الید ، وهذا الوجه أقرب الوجوه .
ویرد علیه : أنّ دعوی إلغاء احتمال الخطأ فیما نحن فیه غریب جدّاً مع ما نشاهده ، ویشاهد العقلاء من کثرة الاختلاف بین الفقهاء فی المسائل الفرعیة ، بل الاختلاف الموجود فی کتب فقیه واحد ، ومع ذلک کیف یمکن أن یکون هذا الإلغاء لأجل ندرة المخالفة للواقع ؟ !
اللهمّ إلاّ أن یقال : إنّ رجوع العقلاء إلی أصحاب الفتیا مبنی علی غفلتهم عن
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 622
هذا المعنی ، وتخیّلهم أنّ فنّ الفقه کسائر الفنون یقلّ فیه الخطأ ، أو علی وجود دلیل شرعی وصل من السلف إلی الخلف ، وحینئذٍ یصیر الرجوع أمراً تعبّدیاً لا عقلائیاً .
فإن قلت : إنّ أخطاء الفقهاء وإن کانت کثیرة فی حدّ نفسه ؛ بحیث لو جمعت من أوّل الفقه إلی آخره أمکن تدوین فقه غیر صحیح ، إلاّ أنّ أخطاء کلّ واحد منهم قلیلة بالنسبة إلی آرائه المطابقة للواقع ، فلو لوحظت عامّة فتواه ، وضمّمت الموارد بعضها إلی بعض یری الإنسان قلّة خطأه بالنسبة إلی ما أصاب .
قلت : هذا غیر صحیح ؛ إذ نری بالوجدان کثرة اختلافهم فی باب واحد من أبواب الفقه ، فلا محالة یکون الآراء جمیعاً أو غیر واحد منها مخالفاً للواقع ، وکثرة الاختلاف دلیل علی کثرة الخطأ .
وربّما یقال ما هذا محصّله : إنّ المطلوب للعقلاء فی باب الاحتجاجات بین الموالی والعبید إنّما هو قیام الحجّة وسقوط التکلیف والعقاب بأیّ وجه اتّفق ، والرجوع إلی الفقهاء موجب لذلک ؛ لأنّهم مع اختلافهم فی الرأی مشترکون فی عدم الخطأ فی الاجتهاد .
ولا ینافی ذلک الاختلاف فی الرأی ؛ لإمکان عثور أحدهما علی حجّة فی غیر مظانّها ، أو علی أصل من الاُصول المعتمدة ، ولم یعثر الآخر علیهما ، مع بذله الجهد . فلا یکون واحد منهما مخطئاً فی اجتهاده ، بل له ولغیره العمل برأیه . ورجوع العقلاء إلیهما لأجل قیام الحجّة والعذر لهم ، لا لأجل إصابتهم الواقع . وأوضح من ذلک : لو قلنا بجعل المماثل فی مفاد الأمارات .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 623
وفیه أوّلاً : أنّه إن أراد من عدم خطأهما عدم تقصیرهما فی تحصیل الحکم الشرعی فمسلّم لکن لایجدیه . وإن أراد منه عدم خطأهما فی نفس الحکم الشرعی فواضح الخطأ ؛ لأنّ واحداً منهما مخالف للواقع .
فإذا اتّسع نطاق الخلاف ووقفنا علی اختلافهما فی موارد کثیرة من المسائل لایصحّ الرجوع إلی کلّ واحد ؛ حتّی فیما اتّفقا علیه من الفتاوی ؛ للاعتداد باحتمال الخطأ حینئذٍ ، وانقداح الشکّ والریب فی عامّة ما أفتی به . ولا یتحقّق بناء العقلاء علی إلغاء الخلاف واحتمال الخطأ عندئذٍ ، فلا یکون ذلک الفتیا مع ذلک معذّراً .
وثانیاً : أنّه لو سلّمنا أنّ غرض العقلاء تحصیل الحجّة والعذر لا الإصابة بالواقع ، لکنّهما یتوقّفان علی إلغاء احتمال الخطأ فی الاجتهاد واستنباط الأحکام الشرعیة الواقعیة ؛ حتّی یجعل مع هذا الإلغاء فی عداد سائر الأمارات العقلائیة فی تحصیل الحجّة والعذر ، وهو مع هذا الاختلاف الفاحش فی الفتاوی غیر ممکن .
ولو کان الخطأ فی الاجتهاد مستنداً إلی خطأ الأمارة فما هو المعذور إنّما هو المجتهد لا المقلِّد ؛ لأنّ مبنی عمله إنّما هو فتواه لا الأمارة التی تبیّن خطأها ، ولا یکون فتواه معذّراً له إلاّ إذا وقع فی عداد سائر الأمارات العقلائیة ؛ بأن یکون قلیل الخطأ ، کثیر الإصابة عندهم . وکیف یکون کذلک مع تخطئة کلّ مجتهد مخالفه ، وأنّه مخطئ غیر مقصّر ؟
اللهمّ إلاّ أن یقال : ما أوضحناه سابقاً من أنّ عدم ردع الشارع هذا البناء من المتشرّعة ـ مع علمه بأنّ الاُمّة سوف ترجع إلی الفقهاء الذین یقوم الاختلاف والتشاجر بینهم علی ساقیه ـ دلیل علی إمضائه وارتضائه .
لکن جعل ذلک بناءً عقلائیاً ، وجعل العمل به کالعمل بسائر الأمارات المعتبرة عندهم لایخلو عن غموض .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 624
إلاّ أن یقال : إنّ عمل المتشرّعة بالفتاوی من باب الطریقیة والأماریة ، مع عدم کونها حائزاً لشرائطها ، لکن سکوته وعدم ردعه عن هذه السنّة العملیة کاشف عن رضاه ، وملازم لجعل الشارع إیّاها أمارة شرعیة مجعولة ، فتأمّل جیّداً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 625