المقصد السابع فی الاُصول العملیة

مقتضی الأصل الأوّلی وجوب تقلید الأعلم

مقتضی الأصل الأوّلی وجوب تقلید الأعلم

‏ ‏

‏وقبل الخوض فیما یسوقنا إلیه الأدلّة لابدّ من تأسیس الأصل فنقول : الأصل‏‎ ‎‏حرمة العمل بغیر العلم ، کما أوضحنا سبیله فی مبحث حجّیة الظنّ‏‎[1]‎‏ ، ولا خفاء فی‏‎ ‎‏أنّ الرجوع إلی الغیر لأخذ الفتوی وتطبیق العمل علی قوله عمل بما لا یعلم العامل‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 605
‏کونه مطابقاً للواقع ، من غیر فرق بین أن یکون مدرک جوازه السیرة العقلائیة أو‏‎ ‎‏الإجماع أو غیرهما من الروایات .‏

‏خرج عنه ـ بضرورة الفقه والدین ـ العمل بقول الأعلم ؛ لامتناع قیام الناس‏‎ ‎‏کلّهم علی الاجتهاد وبطلان وجوب العمل بالاحتیاط ، أو التبعیض فیه ، وبقی الباقی‏‎ ‎‏تحت المنع المسلّم ، فلا یخرج عنه إلاّ بالدلیل . هذا هو مقتضی الأصل الأوّلی .‏

وربّما یقرّر الأصل علی وجه آخر :‏ وهو أنّ العلم الضروری حاصل لکلّ واحد‏‎ ‎‏من المکلّفین بوجود تکالیف فی الوقائع ؛ فلا یجوز له الإهمال لوجود العلم‏‎ ‎‏بالتکالیف الجدّیة ، ولا الاحتیاط لاستلزامه العسر والحرج ، بل الاختلال فی النظام ،‏‎ ‎‏ولا الرجوع إلی قول المفضول لاستلزامه ترجیح المفضول علی الفاضل وهو قبیح ،‏‎ ‎‏ولا یمکن تحصیل الاجتهاد لقضاء الضرورة علی خلافه ؛ فتعیّن العمل بقول الفاضل‏‎ ‎‏وهو المطلوب .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ العلم الإجمالی بوجود تکالیف فی الوقائع والحوادث منحلّ‏‎ ‎‏بالرجوع إلی فتاوی الأحیاء من المجتهدین ، ولیس له فیما ورائها علم أصلاً ،‏‎ ‎‏فیحکم العقل عندئذٍ الأخذ بأحوط الأقوال منهم ، ولایلزم العسر ولا الحرج ؛ فضلاً‏‎ ‎‏عن الاختلال .‏

وثانیاً :‏ أنّ الأخذ برأی غیر الأعلم لیس من قبیل ترجیح المرجوح علی‏‎ ‎‏الراجح ؛ إذ ربّما یتّفق کثیراً مطابقة قوله مع فتوی میّت هو أعلم من الأحیاء عامّةً .‏‎ ‎‏علی أنّ الرجوع إلی فتوی الغیر من قبیل الرجوع إلی الأمارات ، وربّما یحتفّ فتوی‏‎ ‎‏المفضول بقرائن أو یوجد فیه خصوصیات یصیر أقرب إلی الواقع .‏

أضف إلیه :‏ أنّ لازم ما ساقه من المقدّمات هو التبعیض فی الاحتیاط علی‏‎ ‎‏حدٍّ لا یستلزم العسر ، لا الرجوع إلی الأعلم .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 606
وربّما یقال :‏ إنّ مقتضی الأصل کون المفضول والفاضل متساوی الأقدام فی‏‎ ‎‏جواز التقلید ، بتقریب : أنّه إذا فرضنا مجتهدین متساویین من جمیع الجهات ،‏‎ ‎‏لایفضل واحد منهما علی الاُخری حَکم العقل بالتخییر بینهما ـ بعد الفراغ عن عدم‏‎ ‎‏جواز طرحهما أو الأخذ بأحوطهما ـ ویصیر حکم العقل بالتخییر مصدراً‏‎ ‎‏لاستکشاف حکم شرعی علی طبقه ، ثمّ إذا صار أحدهما بعد ردح من الزمن أعلم‏‎ ‎‏من الآخر فالأصل بقاء التخییر الشرعی المستکشف ، ویتمّ فی غیره بعدم القول‏‎ ‎‏بالفصل‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ ما هو الموضوع لحکم العقل هو الموضوع للحکم الشرعی‏‎ ‎‏المستکشف ، فلا یعقل بقاؤهما بعد ارتفاع الموضوع وانقلابه ، وأنّ حکم العقل‏‎ ‎‏بالتخییر کان بمناط قبح الترجیح بغیر مرجّح ، وکان حکم الشرع المستکشف به‏‎ ‎‏أیضاً بهذا المناط ، فلا یعقل بقاء هذا ولا ذاک بعد حدوث الترجیح وصیرورة‏‎ ‎‏أحدهما أعلم .‏

فإن قلت :‏ یمکن أن یکون حکم الشرع بالتخییر بملاک آخر قائم مقام الأوّل‏‎ ‎‏عند ارتفاعه ، فإذا احتملنا قیام مناط آخر مقامه فقد احتملنا بقاء الحکم الشرعی ،‏‎ ‎‏والحکم الشرعی المستکشف وإن کان مقطوع الارتفاع ـ لارتفاع موضوعه ـ‏‎ ‎‏والحکم الشرعی القائم بمناط آخر وإن کان مشکوک الحدوث ، إلاّ أنّه لا بأس‏‎ ‎‏باستصحاب التخییر الجامع بینهما ، علی حذو ما قرّروه فی استصحاب الکلّی .‏

قلت :‏ إنّ المجعول هو الحکم الشرعی الشخصی لا الجامع بینهما ؛ فالحکم‏‎ ‎‏بالتخییر بالمناط الأوّل مجعول ، کما أنّ الحکم به القائم بالمناط الآخر ـ علی فرض‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 607
‏ثبوته فی الواقع ـ مجعول مثله . وأمّا الجامع بینهما فهو أمر انتزاعی لا یتعلّق به‏‎ ‎‏الجعل ویمتنع وجوده فی الخارج ، وقد أوضحناه غیر مرّة‏‎[3]‎‏ ؛ فالتخییر بهذا الجامع‏‎ ‎‏لا حکم شرعی مجعول ، ولا موضوع لحکم شرعی .‏

لایقال :‏ إنّ ذلک إنّما یتمّ فیما إذا کان الحکم الثانی المحتمل قائماً بملاک‏‎ ‎‏مبائن لملاک الحکم الأوّل ، وأمّا إذا کان الحکم الشرعی الواقعی فی نفس الأمر‏‎ ‎‏قائماً بملاک أوسع ممّا أدرکه العقل فلا بأس لاستصحاب الحکم الشرعی‏‎ ‎‏المستکشف ابتداءً ؛ لأنّ المستکشف حکماً وملاکاً غیر مبائن مع الحکم الواقعی‏‎ ‎‏النفس الأمری .‏

‏فیعدّ الحکم المنکشف مرتبة من مراتب الحکم الواقعی ، وملاکه مرتبة من‏‎ ‎‏الملاک الواقعی ، فیکون نفس الحکم الشخصی محتمل البقاء ، مع عدم العلم بارتفاع‏‎ ‎‏موضوعه .‏

لأنّا نقول :‏ لا معنی للملاک الأوسع من ملاک حکم العقل ـ أی قبح الترجیح‏‎ ‎‏بلا مرجّح ـ فلابدّ وأن یکون بإزائه ملاک آخر ، لاملاک أوسع من قبح الترجیح .‏

‏نعم ، یمکن أن یقال : إنّ مقارن ملاک حکم العقل یحتمل أن یکون ملاک‏‎ ‎‏مستقلّ آخر ، فإذا ارتفع ملاک حکم العقل بقی شخص الحکم بذلک الملاک المستقلّ‏‎ ‎‏المجامع مع الملاک العقلی . فشخص الحکم قبل زوال ملاک حکم العقل کان معلولاً‏‎ ‎‏لهما أو لجامعهما ، وبعد زواله صار باقیاً ببقاء الملاک الآخر . فالشخص محفوظ ؛‏‎ ‎‏وإن کان العلّة له ملاکین فی زمان وملاک واحد فی زمان آخر ، واختلاف العلّة‏‎ ‎‏لایوجب اختلاف الشخص عرفاً .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 608
ثمّ‏ لو صحّ ما ذکر مـن التقریب أمکـن تقریب ما یعارضـه ؛ بأن یقال :‏‎ ‎‏لو انحصر الاجتهاد فی شخص واحد ، ثمّ بلغ الفرد الآخر مقام الاجتهاد ـ وإن‏‎ ‎‏لم یبلغ مرتبته ولم یدرک شأوه ـ فنشکّ عندئذٍ فی جواز الرجوع من الفاضل إلی‏‎ ‎‏المفضول ، فیستصحب عدم جوازه أو تعیّن قوله فی الحجّیة الفعلیة ، ویتمّ فی غیره‏‎ ‎‏بما ذکره من عدم القول بالفصل ، فتأمّل‏‎[4]‎‏ .‏

‏وهاهنا اُصول اُخر لهم ضربنا عنها صفحاً ؛ لوضوح ضعفها‏‎[5]‎‏ .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 609

  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 401 .
  • )) اُنظر مطارح الأنظار : 273 / السطر 19 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 169 و 399 .
  • )) وجهه واضح ؛ فإنّ المستصحب ـ کما فی التقریب السابق ـ لامجعول ولا موضوع لأثر مجعول . [المؤلّف]
  • )) وبما حقّقه ـ دام ظلّه ـ یظهر ما هو الأصل فی اشتراط الاجتهاد المطلق وعدمه . [المؤلّف]