المقصد السابع فی الاُصول العملیة

جواز نصب العامّی للقضاء

جواز نصب العامّی للقضاء

‏ ‏

‏وأمّا نصب العامّی له بعد ما عرف مسائل القضاء تقلیداً فربّما یقال بجوازه‏‎[1]‎‏ ؛‏‎ ‎‏قائلاً بأنّ للنبی والوصی نصب کلّ واحد من الناس للقضاء ـ مجتهداً کان أو مقلّداً ـ‏‎ ‎‏وکلّ ما کان لهم من المناصب فهو ثابت للفقیه إلاّ ما خرج بالدلیل ، فله نصب کلّ‏‎ ‎‏من شاء للقضاء بمقتضی أدلّة الولایة .‏

وربّما یجاب عن الأمر الأوّل :‏ بالشکّ فی جواز نصب النبی والإمام العامّی‏‎ ‎‏للقضاء‏‎[2]‎‏ ، کیف وقد دلّت المقبولة علی أنّ هذا المنصب للفقیه العارف بالحلال‏‎ ‎‏والحرام لا العامّی ؟‏

وفیه :‏ أنّ المقبولة دلّت علی أنّ الفقیه منصوب من ناحیتهم للقضاء ، وأمّا‏‎ ‎‏اختصاص هذا المنصب للفقیه فی نفس الأمر ، ومحرومیة العامّی عنه کذلک ؛ بحیث‏‎ ‎‏کانت الفقاهة من شروطه الشرعیة ، وأنّ ذلک کان بإلزام شرعی إلهی فلا یستفاد‏‎ ‎‏منها .‏

نعم‏ ، یمکن أن یستفاد ما فی الجواب عن صحیحة سلیمان بن خالد قال :‏‎ ‎«اتّقوا الحکومة ؛ فإنّ الحکومة إنّما هی للإمام العالم بالقضاء العادل فی‎ ‎المسلمین ، لنبیّ أو وصیّ نبیّ»‎[3]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 598
‏بتقریب : أنّ ظاهر حصرها اختصاص الحکومة من جانب الله للنبی‏‎ ‎‏وأوصیائه ؛ بحیث لا حظّ للغیر فیه ولا أهلیة له ، خرج عن ذلک الحصر ، الفقیه‏‎ ‎‏بحکم الأدلّة الماضیة ، وبقی الباقون .‏

‏بل یمکن أن یقال : بعدم ورود تخصیص علیه أصلاً ، ببیان أنّ الفقیه وصی‏‎ ‎‏النبی ؛ لما مرّ‏‎[4]‎‏ من أنّهم الخلفاء والاُمناء علی حلال الله وحرامه ، وأنّهم کأنبیاء بنی‏‎ ‎‏إسرائیل ، فیکون الحصر ضابطاً حاصراً . وظاهره اختصاص ذلک المقام من الله ،‏‎ ‎‏لنبیه ووصیه‏‎[5]‎‏ ، ولا أهلیة لغیره‏‎[6]‎‏ .‏

وعلی أیّ حال :‏ فالصحیحة ظاهرة فی اختصاص ذلک المنصب بالأنبیاء‏‎ ‎‏وأوصیائهم ، والفقهاء إمّا داخل تحت قوله : ‏«أو وصی نبی»‏ بحکم الروایات ، أو‏‎ ‎‏خرجوا عن الحصر بالأدلّة الماضیة ، وبقی الباقون تحت المنع .‏

‏علی أنّ الشکّ فی جواز نصب النبی العامّی کافٍ فی عدم جواز نصب الفقیه‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 599
‏إیّاه للقضاء ؛ إذ من الممکن اشتراط الفقاهة مع عدم إطلاق یصحّ الاتّکال علیه .‏

وربّما یردّ الأمر الثانی‎[7]‎‏ بأنّه إذا سلّمنا أنّ للنبی نصب العامّی العارف‏‎ ‎‏بالأحکام للقضاء ، لکن لا نسلّم أنّ کلّ ما للنبی من الشأن ثابت للفقیه ؛ فإنّ أقوی‏‎ ‎‏الأدلّة مقبولة عمر بن حنظلة ، لکن لا دلالة لها علی عموم الولایة للفقیه ، بل‏‎ ‎‏صدرها وذیلها یدلّ علی أنّ للفقیه القضاء بین الناس وبیان الحلال والحرام ، ویجب‏‎ ‎‏علی الناس الاتّباع لهم ، وأین ذلک من القول بعموم الولایة وثبوت کلّ ما للنبی من‏‎ ‎‏الشأن للفقیه ؟ ! وهکذا غیرها من الأدلّة .‏

‏ولو فرض دلالتها یجب حملها علی ذلک ؛ حذراً من التخصیص الأکثر ؛ إذ‏‎ ‎‏للنبی والأئمّة من بعده شؤون کثیرة تختصّ بهم ولا نتجاوز غیرهم ، فکیف یمکن‏‎ ‎‏التفوّه بعموم المنزلة والولایة ؟‏

‏بل لایمکن التمسّک فی الموارد المشکوکة بأدلّة الولایة إلاّ بعد تمسّک‏‎ ‎‏جماعة من الأصحاب ؛ حتّی یرتفع غبار الشکّ ، ولم یتمسّک فی المقام إلاّ القلیل من‏‎ ‎‏المتأخّرین‏‎[8]‎‏ .‏

ویمکن أن یجاب عنه :‏ بأنّ جواز نصب العامّی للقضاء لایتوقّف علی عموم‏‎ ‎‏الولایة بالمعنی الذی ذکر ؛ بأن نقول بثبوت کلّ ما للنبی من الشؤون للفقیه .‏

‏بل یکفی فی ذلک أن یقال : بأنّ المستفاد من المقبولة هو إعطاء منصب‏‎ ‎‏الحکومة للفقیه علی وجه الإطلاق ، وجعلهم حکّاماً شرعیاً فی مقابل حکّام‏‎ ‎‏الجور ، وأنّ لهم التولّی والتصدّی لکلّ ما کان تولّیه من شؤون الحکّام فی ذلک‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 600
‏الزمان ، وقد کان نصب القاضی من شؤون الحکّام والسلاطین ، کما کان نصب‏‎ ‎‏الاُمراء من شؤونهم فی تلک الأزمنة .‏

‏وعلیه : فجعل الفقیه حاکماً مستلزم لجواز نصب القضاة ، بلا احتیاج إلی‏‎ ‎‏إثبات أمر آخر ، وهذا لائح لمن سبر حالات الخلفاء والحکّام والقضاة فی الإسلام ،‏‎ ‎‏ویکشف ذلک عن أنّه کان علیه السیرة من بدء الإسلام .‏

وما فسّر به الأدلّة :‏ من أنّه بصدد بیان أنّ وظیفة الفقیه بیان الأحکام ساقط‏‎ ‎‏جدّاً ؛ إذ لیس بیان الأحکام منصباً من المناصب حتّی یحتاج إلی الجعل ، کما أنّ‏‎ ‎‏القول باختصاصها بالقضاء خالٍ عن الدلیل ؛ فإنّ موردها وإن کان القضاء إلاّ أنّ‏‎ ‎‏صدرها وذیلها کاشف عن عموم الجعل ، وأنّه ‏‏علیه السلام‏‏ جعل الفقیه حاکماً بقول مطلق ،‏‎ ‎‏لا قاضیاً فقط ، وقد أوضحنا سبیل استفادة العموم منها ومن المشهورة‏‎[9]‎‏ ، فراجع .‏

وأمّا حدیث تخصیص الأکثر :‏ فإن أراد ما یرجع إلی شؤون الحکومة والولایة‏‎ ‎‏والسیاسات الإسلامیة والاُمور الحسبیة فالتخصیص لیس بأکثر ، بل قلیل جدّاً ، وإن‏‎ ‎‏أراد غیر ما یرجع إلی تلک الشؤون من خصائص النبی وآله ‏‏علیهم السلام‏‏ ـ التی جمعها‏‎ ‎‏العلاّمة فی کتاب النکاح من «التذکرة»‏‎[10]‎‏ ـ فلم یشملها عموم أدلّة الجعل حتّی‏‎ ‎‏یخرج بالتخصیص .‏

فتلخّص من ذلک :‏ عدم جواز نصب الفقیه العامّی العارف لمنصب القضاء ؛ لما‏‎ ‎‏عرفت فی الأمر الأوّل من أنّ ظاهر الصحیحة اختصاص ذلک من قبل الله بالنبی‏‎ ‎‏والوصی ، خرج الفقیه تخصیصاً أو تخصّصاً ، وبقی الباقون تحت المنع .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 601

  • )) جواهر الکلام 40 : 18 ـ 19 .
  • )) القضاء ، الآشتیانی : 12 / السطر 27 .
  • )) الکافی 7 : 406 / 1 ، وسائل الشیعة 27 : 17 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 3 ، الحدیث 3 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 580 .
  • )) ویؤیّده أنّ أمیر المؤمنین خاطب شریحاً بقوله : «جلست مجلساً لایجلسه إلاّ نبی أو وصی نبی أو شقی» ، وقد خاطب به علیه السلام إیّاه حین نصبه قاضیاً . فلو أراد أنّه داخل تحت قوله «شقی» لما صحّ له علیه السلام نصبه مع اقتداره علی العزل ونصب الآخر مکانه . [المؤلّف]
  • )) یرد علی هذا الوجه : أنّ الفقهاء لو کانوا أوصیاء الأنبیاء علیهم السلام فهم عندئذٍ منصوبون للقضاء من جانب الله . ولا معنی لنصب الإمام إیّاهم علی القضاء والحکومة ؛ فإنّ هذا المنصب علی هذا الوجه اُعطی لهم من جانبه تعالی ، کما اُعطی لنبیه .     ویمکن أن یجاب عنه : بأنّ نصبهم یمکـن أن یکون کاشفاً عـن نصب الله تعالی إیّاهم ، کما أنّ نصب النبی علیاً علیه السلام مع أنّـه منصوب مـن قبل الله تعالی کذلک . أو یقال : صیرورة الفقهاء وصـی النبی إنّما هـو بجعلهم وصیاً وحـاکماً ، فالجعـل المذکـور أدخلهم فـی الوصایـة موضوعـاً . [منه دام ظلّه]
  • )) القضاء ، الآشتیانی : 13 / السطر 7 .
  • )) جواهر الکلام 40 : 18 ـ 19 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 581 ـ 585 و 589 .
  • )) تذکرة الفقهاء 2 : 565 / السطر 29 (ط ـ حجری) .