المقصد السابع فی الاُصول العملیة

استقلال العامّی فی القضاء

استقلال العامّی فی القضاء

‏ ‏

‏وقد استدلّ‏‎[1]‎‏ علی صحّة قضائه بوجوه :‏

منها :‏ قوله تعالی : ‏‏«‏إِنَّ الله َ یَأمُرُکُم أَن تُؤدُّوا الأَماناتِ إِلیٰ أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ‎ ‎بَیْنَ النّاسِ أَنْ تَحکُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ الله َ نِعِمّا یَعِظُکُم بِهِ إِنَّ الله َ کانَ سَمِیعاً بَصِیراً‏»‏‎[2]‎‏ .‏

‏بتقریب : أنّ الخطاب شامل للمجتهد والعامّی المقلّد العارف بالعدل ، فإذا‏‎ ‎‏وجب علیه الحکم بالعدل وجب القبول ، وإلاّ لزم لغویة إیجاب الحکم بالعدل ، نظیر‏‎ ‎‏ما قرّروه من الملازمة بین حرمة الکتمان ولزوم القبول‏‎[3]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ المخاطب فی صدر الآیة مَن عنده الأمانة ، وفی ذیلها من له الحکم‏‎ ‎‏والقضاء ، لاعنوان الناس ولا المؤمنین ، فلا إطلاق له من هذه الجهة .‏

‏ویصیر محصّل الآیة : أنّ من عنده الأمانة فلیردّها إلی أهلها ، ومن له الحکم‏‎ ‎‏والقضاء فلیحکم بالعدل .‏

‏وأمّا الحاکم فمن هو ؟ فلابدّ أن یحرز بدلیل آخر .‏

‏وإن شئت قلت : إنّه بصدد بیان لزوم الحکم بالعدل ، لا أصل لزوم الحکم‏‎ ‎‏والقضاء بین الناس ، فلا إطلاق لها من هذه الناحیة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 592
ویؤیّد ما ذکرنا‏ ؛ من أنّ الخطاب متوجّه إلی من له الحکم ، وفرغنا عن کونه‏‎ ‎‏حاکماً : ما رواه الصدوق عن المعلّی بن خنیس عن الصادق ‏‏علیه السلام‏‏ قال : قلت له : قول‏‎ ‎‏الله عزّ وجلّ : ‏‏«‏إِنَّ الله َ یَأمُرُکُمْ أَنْ تُؤدُّوا الأَماناتِ إِلیٰ أَهْلِها وَإِذا حَکَمْتُمْ بَیْنَ النّاسِ‎ ‎أَنْ تَحْکُمُوا بِالْعَدْلِ‏»‏‏ .‏

‏فقال : ‏«عدل الإمام أن یدفع ما عنده إلی الإمام الذی بعده ، وأمر الأئمّة أن‎ ‎یحکموا بالعدل ، وأمر الناس أن یتّبعوهم»‎[4]‎‏ .‏

‏وما ذکره ‏‏علیه السلام‏‏ تفسیر وتوضیح لما یعطیه الآیة بنفس ظهوره . علی أنّ منصبی‏‎ ‎‏القضاء والحکومة لم یکن لمطلق الناس ، منذ هبط الإنسان إلی مهد الأرض ، بل‏‎ ‎‏کان لطبقة مخصوصة من الاُمراء والملوک وهذه السیرة الجاریة تصیر قرینة متصلة‏‎ ‎‏علی کون الخطاب فی قوله : «إذا حکمتم» ، متوجهاً إلیهم دون غیرهم من الطبقات‏‎ ‎‏النازلة التی لم یعهد لهم أمر ولا نهی .‏

‏ومن ذلک یظهر الجواب عن أکثر ما استدل به الفقیه المحقّق صاحب‏‎ ‎‏الجواهر‏‎[5]‎‏ علی جواز استقلال العامّی فی القضاء کالاستدلال بمفهوم قوله تعالی :‏‎ ‎‏«‏وَمَنْ لَمْ یَحْکُمْ بِما أَنزَلَ الله ُ فَأُولَئِکَ هُمْ الْکَافِرُونَ ،‏ أو ‏‏«‏هُمُ الفاسِقُون‏»‏‏ ، أو ‏‏«‏هُمُ‎ ‎الظّالِمُون‏»‏‎[6]‎‏ فإنّ مفهوم وجوب الحکم بما أنزل الله ، وإطلاقه یشمل المجتهد‏‎ ‎‏وغیره علی حذو ما حرّرناه فی الآیة السابقة .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 593
‏والجواب : أنّ الآیات بصدد بیان لزوم الحکم بما أنزل الله وحرمة الحکم بما‏‎ ‎‏لم ینزله ، لا وجوب الحکم فلا إطلاق له من هذه الحیثیة ، علی أنّ الخطاب متوجه‏‎ ‎‏إلی من له الحکم والقضاء بحیث فرغ عن ثبوت هذا المنصب له دون غیره .‏

ومنها :‏ ما رواه الصدوق بسند صحیح‏‎[7]‎‏ عن أبی خدیجة سالم بن مکرَم‏‎ ‎‏الجمّال قال : قال أبو عبدالله جعفر بن محمّد الصادق ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إیّاکم أن یحاکم بعضکم‎ ‎بعضاً إلی أهل الجور ولکن انظروا إلی رجل منکم یعلم شیئاً من قضایانا فاجعلوه‎ ‎بینکم فإنّی قد جعلته قاضیاً فتحاکموا إلیه»‎[8]‎‏ ، بتقریب أنّ المراد من العلم لیس هو‏‎ ‎‏العلم الوجدانی بل أعم منه ومن قیام الحجّة علی الحکم والمقلّد عالم بالحکم بهذا‏‎ ‎‏المعنی .‏

وفیه :‏ أنّ المقلّد غیر عالم بشیءٍ من قضایاهم لأنّه إمّا أن یستند إلی فتوی‏‎ ‎‏الفقیه فی الواقعة ، فهو ـ إذن ـ عالم بشیء من قضایا مقلّده ، لا بشیء من قضایاهم .‏

‏وإمّا أن یستند إلی إخباره عن قضایاهم فهو لایتجاوز عن کونه خبراً مرسلاً‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 594
‏لایجوز الرکون إلیه ، ولو صحّح له السند فلا یجوز له العمل ؛ لأنّه یحتاج إلی‏‎ ‎‏الفحص عن المعارض ومخصّصه ومقیّده ، وهو خارج عن حیطة اقتداره .‏

‏والحاصل : أنّ قوله : ‏«یعلم شیئاً من قضایانا»‏ مختصّ بالفقیه أو منصرف‏‎ ‎‏إلیه . ولو استدلّ به علی جواز استقلال المتجزّی فی القضاء لکان له وجه .‏

ومنها :‏ صحیحة الحلبی قال : قلت لأبی عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ : ربّما کان بین الرجلین‏‎ ‎‏من أصحابنا المنازعة فی الشیء ، فیتراضیان برجل منّا .‏

‏فقال : ‏«لیس هو ذاک ، إنّما هو الذی یجبر الناس علی حکمه بالسیف‎ ‎والسوط»‎[9]‎‏ .‏

‏ومرکز الاستدلال أمران :‏

‏إطلاق قول الراوی «رجل منّا» وشموله للفقیه وغیره ، وإن شئت قلت : ترک‏‎ ‎‏الاستفصال من الإمام دلیل العموم .‏

‏وحصر من لایجوز علیه الرجوع فیمن یجبر الناس علی حکمه بالسوط‏‎ ‎‏والسیف ، وغیره من الفقیه ومقلّده یجوز لهم الرجوع .‏

وفیه :‏ أنّ الکلام قد سیق إلی أنّ رفع الأمر إلی قضاة الشیعة لیس من قبیل‏‎ ‎‏رفع الأمر إلی قضاة الجور ، فلا إطلاق لها من جهة اُخری .‏

‏علی أنّ الحصر إضافی بلا إشکال ؛ فإنّه لایجوز الاعتماد علی حکم غیر‏‎ ‎‏الشیعة ؛ وإن لم یکن له سوط ولا سیف .‏

‏علی أنّ الروایة تشعر بوضوح أنّ الحدیث کان مسبوقاً بکلام آخر ؛ حیث‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 595
‏قال ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«لیس هو ذاک»‏ فأسقطه الراوی وحذف ما جری بینهما من الکلام ، ومعه‏‎ ‎‏لایجوز الاعتماد علی هذا الحصر ، ولا علی الإطلاق المدّعی ؛ خصوصاً مع ما‏‎ ‎‏جرت علیه السیرة منذ زمن النبی من تصدّی العلماء والفقهاء منصب القضاء ، وهی‏‎ ‎‏تمنع من انعقاد أیّ إطلاق . ثمّ علی فرض وجوده یقیّد بالمقبولة .‏

ومنها :‏ أنّ الاجتهاد الدائر فی أعصارنا لم یکن موجوداً فی عصر النبی‏‎ ‎‏والأئمّة من بعده ، فحینئذٍ حمل قوله : ‏«ممّن روی حدیثنا . . .»‏ إلی آخره علی من‏‎ ‎‏تحصّل له قوّة الاستنباط وردّ الفروع علی الاُصول بالمعنی الدارج فی أعصارنا ؛ من‏‎ ‎‏قبیل حمل الکلام علی ما لم یکن موجوداً فی عصر صدوره .‏

‏مع أنّه صدر لضرب القاعدة علی عامّة الأعصار ، فلا مناص من حمله علی‏‎ ‎‏المعنی الدارج فی جمیع الأجیال ؛ وهو الوقوف علی الأحکام ، وما هو حلال‏‎ ‎‏وحرام ؛ إمّا بأخذه عن الإمام ، أوعن الفقیه .‏

‏ومثل المقلّدین فی عصرنا مثل المحدّثین فی أعصارهم ، فهم کانوا یفزعون‏‎ ‎‏فی معالمهم إلی أئمّتهم أو تلامذتهم ، واُولئک یرجعون إلی الفقهاء العارفین بحلالهم‏‎ ‎‏وحرامهم ، فلِمَ جاز لهم التصدّی دون اُولئک ؟‏

وفیه :‏ أنّ تمام الموضـوع لجـواز القضاء هـو العلم بحلالهم وحـرامهم ؛‏‎ ‎‏سواء کان زمن الغیبة أو زمـن الحضور ، غیر أنّ العلم بهما فی هذه الأعصار ـ‏‎ ‎‏لأجـل تشتّت الروایات وتضاربها وبُعد العهد وندرة التواتر وانفصال القرائـن‏‎ ‎‏الموجـودة ـ لایحصل إلاّ إذا تحلّی الرجـل بقوّة الاستنباط ؛ حتّـی یعالج بها هـذه‏‎ ‎‏النواحـی العائقـة .‏

‏فالفقهاء فی هذه الأعصار والمحدّثون فی أجیالهم ‏‏علیهم السلام‏‏ مشترکون فی أنّهم‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 596
‏رووا حدیثهم ، وعرفوا حلالهم وحرامهم ، غیر أنّ المحدّثین لقرب عهدهم وتمکّنهم‏‎ ‎‏من الأئمّة کان تحصیل العلم بحلالهم وحرامهم علیهم سهلاً غیر عسیر ، إلاّ أنّ علم‏‎ ‎‏فقهاء الأعصار ووقوفهم علی أحکامهم یحتاج إلی طیّ مقدّمات وتحصیل مبادٍ‏‎ ‎‏یحتاج إلی بذل الجهد واستفراغ الوسع الذی تحصل بهما قوّة الاستنباط والاجتهاد .‏

‏فلو قال أحد بشرطیة الاجتهاد فی جواز القضاء فی هذه الأعصار فلا یقصد‏‎ ‎‏منه دخالته فی الموضوع وتقوّم الموضوع به ؛ ضرورة أنّ الموضوع فی المقبولة‏‎ ‎‏غیره ، بل المقصود منه دخالته فی حصول قیود الموضوع ؛ أعنی ما ساقتها المقبولة‏‎ ‎‏من القیود والحدود علی ما عرفت .‏

‏وأمّا المقلِّد : فقد عرفت بما لا مزید علیه أنّه خارج عن الموضوع من رأس ،‏‎ ‎‏وأنّه لیس ممّن عرف حلالهم وأحکامهم علی ما مرّ‏‎[10]‎‏ .‏

أضف إلی ذلک :‏ ما سیوافیک بیانه‏‎[11]‎‏ من وجود الاجتهاد بالمعنی المعروف‏‎ ‎‏فی أعصارهم بین العامّة والخاصّة : أمّا الخاصّة فسیمرّ علیک بیان ما یدلّ علی‏‎ ‎‏وجوده فیهم .‏

‏وأمّا العامّة : فإنّهم کانوا أصحاب رأی وقیاس ، وکان المنصوبون من الخلفاء‏‎ ‎‏لأمر القضاء ، من الفقهاء وذوی الاستنباط والاجتهاد ، کأبی حنیفة وابن شبرمة وابن‏‎ ‎‏أبی لیلی وأضرابهم .‏

‏هذا کلّه فی استقلال العامّی للقضاء ، وقد عرفت أنّه لاحظّ للعامّی فیه .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 597

  • )) جواهر الکلام 40 : 15 ـ 18 .
  • )) النساء (4) : 58 .
  • )) العدّة فی اُصول الفقه 1 : 113 ، قوانین الاُصول 1 : 438 / السطر6 ، کفایة الاُصول : 344 .
  • )) الفقیه 3 : 2 / 2 ، وسائل الشیعة 27 : 14 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 1 ، الحدیث 6 .
  • )) جواهر الکلام 40 : 15 .
  • )) المائدة (5) : 44 ، 45 ، 47 .
  • )) ودونک السند : روی الصدوق بإسناده المذکور فی المشیخة عن أحمد بن عائذ (وهو ثقة وسنده إلیه صحیح علی الأقوی إذ لیس فیها ما یمکن القدح به إلاّ الحسن بن علی الوشّاء وهو ثقة علی الأقوی ، کیف لقد أطرأه النجاشی بقوله : کان من وجوه هذه الطائفة ، وبقوله کان هذا الشیخ عیناً من عیون الطائفة ، وروی عنه الأجلّة : نظراء ابن أبی عمیر ومحمّد بن عیسی ، والحسین بن سعید واضرابهم) ، عن أبی خدیجة ووثّقه النجاشی بقوله : ثقة ثقة ، ووثّقه الشیخ فی موضع وضعّفه فی الفهرست ، ومع ذلک فهو ثقة للإتقان الذی نشاهده فی روایاته . [منه دام ظلّه]
  • )) الفقیه 3 : 2 / 1 ، وسائل الشیعة 27 : 13 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 1 ، الحدیث 5 .
  • )) تهذیب الأحکام 6 : 223 / 532 ، وسائل الشیعة 27 : 15 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 1 ، الحدیث 8 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 582 .
  • )) یأتی فی الصفحة 612 ـ 620 .