من یجوز له العمل بفتوی نفسه
أمّا الجهة الثانیة ـ أعنی ما هو الموضوع لجواز العمل برأیه ـ فیجوز لمن استفرغ الوسع فی تحصیل الأحکام الشرعیة من طرقها المألوفة لدی أصحاب الفنّ ، أو بذل جُهده فی تحصیل ما هو العذر بینه وبین ربّه أن یعمل برأیه ، ویستغنی بذلک عن الرجوع إلی الغیر .
غیر أنّ ذلک یتوقّف علی مقدّمات ومبادئ کثیرة ، نشیر إلی أکثرها :
1 ـ الوقوف علی القواعد العربیة ومعرفة مفرداتها علی حدّ یتوقّف علیه فهم الکتاب والسنّة . ولا یحصل ذلک إلاّ بمزاولتها وممارستها علی نحو یقف علی قواعدها ومفرداتها ، والکنایات والاستعارات التی تختصّ بالکتاب والسنّة ، وسائر الخصوصیات التی لا مناص للفقیه عنها .
2 ـ تمییز المعانی العرفیة الدارجة بین الناس علی اختلافهم عن المعانی العقلیة الدقیقة التی لایقف علیها إلاّ ثلّة قلیلة ؛ فإنّ الکتاب والسنّة وردا فی مستوی الأفهام المعمولة والمعانی الدارجة بین عامّة الطبقات .
لا أقول : إنّ کلّ ما بین الدفّتین فی الکتاب والسنّة وارد علی هذا النمط ؛ لأنّ ذلک مجازفة فی القول ؛ فإنّک تری أنّ الکتاب إذا أخذ فی البحث عن المعارف الإلهیة والمطالب العقلیة یأتی بما هو أعلی عن مستوی الأفهام العادیة ؛ بحیث لایقف علی مغزاها إلاّ من صرف أعماراً فی ذلک المضمار .
بل أقول : إنّ ما ورد فیهما لأجل بیان الأحکام الشرعیة والوظائف العملیة ، ورد فی موقف الأفهام الرائجة والمعانی البسیطة التی تقف علی حقیقتها کلّ واحد من الناس . ولأجل ذلک یجب علی الفقیه الاُنس بالمحاورات العرفیة ، وفهم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 568
الموضوعات الدارجة بینهم ، والتجنّب عن المسائل العقلیة الفلسفیة فی فهم المعانی العرفیة والمطالب السوقیة . فقد وقفنا علی أخطاء کثیرة من الأعاظم صدرت من تلک الناحیة .
3 ـ معرفة الأشکال الأربعة وشرائط إنتاجها ، وتمییز عقیمها عن منتجها . ویدخل فی ذلک معرفة العکس المستوی وعکس النقیض ممّا یتوقّف علیه الاستنباط فی بعض المقامات ، وغیرها من المباحث الرائجة منه فی غالب المحاورات . نعم ، لایجب الوقوف علی تفاصیل الشرطیات والاقترانیات وأشباههما ممّا لا توقّف لتحصیل الحکم الشرعی علیه .
4 ـ معرفة مسائل اُصول الفقه ، وتحصیلها بأدقّ وجه . وأعنی بمسائلها ما لها دخالة ومقدّمیة فی استنباط الحکم الشرعی .
فلو أنّ الفقیه لم یتقن ولم یحقّق حجّیة مسألة خبر الواحد ، أو أنّ المحکّم فیما لانصّ علی حرمة شیء أو وجوبه هو البراءة ، أو أنّ المرجع فی تعارض الروایات ماهو ، وغیر ذلک من المسائل الهامّة لتعذّر علیه الاستدلال فی هذه الموارد وأمثالها .
وتوهّم الاستغناء عنها بأنّه لم یکن فی أعصار الأئمّة عین ولا أثر من هذه المسائل المدوّنة سخیف جدّاً ؛ للفرق الواضح بین أعصارهم وأعصارنا . علی أنّ
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 569
بعض ما عدّدناه من المسائل کان منقّحاً عند أهل الاستنباط فی تلک الأعصار ، کما هو واضح علی من سبر أبواب الفقه وفصول الروایات .
والحاصل : أنّ معرفة مسائل اُصول الفقه ـ التی احتلّ فی هذه الأعصار المکانة العظمی ـ من أهمّ ما یتوقّف علیه رحی الاستنباط ؛ إذ لو لم یثبت عندنا حجّیة قول الثقة أو صحّة العمل بالظواهر ، ولم نعلم الوظیفةُ عند فقدان الدلیل أو کیفیة الجمع فلا یمکن لنا الاعتماد علی قول الثقة أو الظواهر عند الاستنباط ، ونصیر متحیّرین عند فقدان الدلیل أو تعارضه .
فلابدّ للفقیه تنقیح هذه المسائل ، وما یقع فی موقفها ؛ من البحث فی عموم الألفاظ أو خصوصها ، مطلقها ومقیّدها ، وما یشبهها من البحث فی مفاد الأوامر والنواهی ، کلّ ذلک علی نحو الاجتهاد ، علی حسب ما یسوقه الدلیل .
ولیت شعری ما الدلیل علی الاستغناء عن تنقیح هذه المباحث ؟ ! مع أنّ أکثر مدارک هذه المسائل موجود فی الذکر الحکیم والروایات المأثورة والمرتکزات الفطریة العرفیة العقلائیة ، کما أنّ بعض مسائلها ممّا یستدلّ علیه من طریق العقل ، کاجتماع الأمر والنهی ؛ فإنّ مرجع البحث فیه إلی أنّه هل یلزم علی القول بالاجتماع اجتماع الضدّین أو النقیضین الذی أجمع العقلاء ؛ حتّی الأخباری علی امتناعه .
وأمّا تدوینها فی کتاب مستقلّ فلیس من البِدَع المحرّمة والمحدثات المذمومة ؛ إذ کلّ علم إذا کثر البحث حوله تشعّب فنونه ، وصار لائقاً لأن یدوّن فی کتاب مستقلّ .
وما تمسّک به الأخباری فی الاستغناء عنه : من أنّ الروایات المأثورة مقطوعة الصدور ، ممّا لایسمن ولایغنی مـن جـوع ؛ فإنّه علی فرض صحّتـه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 570
لایثبت ما رامه ، ولایوجب الغناء عن کثیر من مسائل اُصول الفقه . وبالجملة : فدعوی الغناء مجازفة .
نعم ، لابدّ مـن الاکتفاء علی المباحث التی تعـدّ مقدّمة واقعیـة علی الاستنباط ؛ بحیث لولاها لاختلّ نظامه وانفصم عقـده ، وأمّا ما لا دخالـة لها فی تحصیلـه فالاشتغال به ضیاع للعمر وانحـراف عـن الهدف .
ولولا خوف الإطالة لعدّدت علیک مسائل بحث عنها الاُصولیون من قدیم وحدیث بحثاً ضافیاً ، مع أنّه لایتوقّف علیه الاستنباط فی واحدة من المسائل . فطالب السعادة الربّانیة لامناص له عن أن یرجع إلی مسائلها علی نحو الطریقیة والمقدّمیة .
فلا یخوض فی مسألة إلاّ ولها دخالة فی فروعه واستنباطه ، ولاینظر إلیه علی أنّه علم برأسه ، وأنّ الوقوف علی مسائلها ـ خطیرها وحقیرها ودقیقها ـ کمال نفسانی یطلب لأنفسها ، أو أنّ لها دخالة فی جودة الذهن وتشحیذه ، کما أنّه ربّما یروم به الألسن روماً .
ویمکن أن یکون هذا التطویل مصدراً لطعن الأخباریین فی تدوین مسائل اُصول الفقه .
کما أنّه هاهنا مصدر آخر لطعنهم ؛ فإنّهم لاحظوا بعض ما ألّفه أصحابنا فی اُصول الفقه ، فرأوا أنّ المسائل المدوّنة فیها وطریق الاستدلال علیها یشبه أو یتّحد مع طریق العامّة ، فزعموا أنّ مبانی استدلالهم فی الفقه عین ما حرّروه فی کتب اُصولهم . مع أنّ الواقف علی طریق استدلالهم علی الأحکام الفرعیة جدّ علیم
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 571
بأنّهم لم یتجاوزوا عن الکتاب والسنّة قدر أنملة .
وأمّا الاستدلال علی بعض الفروع ببعض الطرق التی لایرضی بها إلاّ العامّة فلأجل مصالح لا یکاد یخفی علی القارئ عرفانها ؛ فإنّ تحکیم المسألة من الطرق التی یرضی بها الخصم من فنون البحث والجدل ، وهذا لایستلزم جواز الطعن علی رؤساء المذهب وعمد الدین .
5 ـ معرفة علم الرجال وتمییز الثقة عن غیرها ؛ حتّی یتّضح عنده سند الروایة وحالها ، وأنّه داخل فی أیّ واحد من أقسامها ؛ من المقبول والمردود .
ویدخل فی ذلک معرفة المشایخ فی الروایة وتلامذتها ؛ حتّی یتّضح عنده المرسل من الروایة عن مسندها ، کما هو واضح لدی أهلها .
وتوهّم الاستغناء عنه ؛ بأنّ الروایات مقطوعة الصدور کما تری .
أو أنّ المیزان فی حجّیة الروایة عمل الفقهاء بها ؛ فما عمل به المشهور نعمل به وإن کان ضعیفاً ، وما أعرض عنه لا نعمل ؛ وإن بلغ من الصحّة بمکان .
ضعیف جدّاً ؛ فإنّ مورد الاستنباط ربّما یشتمل علی صنفین من الروایات ، وقد عمل بهما عدّة من الأعلام ، فلا مناص فی ترجیح واحد من الصنفین من الرجوع إلی أحوال رواتهما .
علی أنّـه ربّما لایحـرز الإعـراض ولا العمل ، فلا وجـه لرفع الید عـن إطلاق ما دلّ علی حجّیـة قول الثقـة فی هـذا المورد ، ولایحـرز کـون الـراوی ثقـة إلاّ بالمراجعة إلیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 572
6 ـ معرفة الکتاب والسنّة ، وهی أهمّ المقدّمات ، وعلیها یدور رحی الاستنباط فی عامّة الأعصار ، فلا منتدح عن الفحص عن مفرداتهما لغةً وعرفاً ، والقرائن الحافّة ومعارضاتهما بقدر الإمکان ، وما یمکن أن یصرفهما عن ظاهرهما .
ویلحق بذلک : الوقوف علی شأن نزول الآیات ؛ فربّما یوجد فیه قرائن یصرف الکلام عن ظاهره ، والاُنس بنفس الروایات ؛ حتّی یقف الفقیه علی کیفیة محاورتهم مع الناس وطریق استدلالهم علی الأحکام ، فیحصل بالاُنس ملکة یقتدر بها علی فهم مقاصدهم . ولا یحصل ذلک إلاّ بالتدبّر والتدقیق فی الروایات علی نحو لایخرج عن مستوی الأفهام العرفیة .
وإلی ذلک أشار الإمام الصادق علیه السلام فیما رواه الصدوق فی «معانی أخباره» عن داود بن فرقد ، سمعت أبا عبدالله علیه السلام یقول : «أنتم أفقه الناس إذا عرفتم معانی کلامنا ، إنّ الکلمة لتنصرف علی وجوه ؛ فلو شاء إنسان لصرف کلامه کیف شاء ، ولایکذب» .
وروی أیضاً فی «عیونه» بإسناده عن الرضا علیه السلام قال : «من ردّ متشابه القرآن إلی محکمه فقد هدی إلی صراط مستقیم» ، ثمّ قال : «إنّ فی أخبارنا محکماً کمحکم القرآن ، ومتشابهاً کمتشابه القرآن ؛ فردّوا متشابهها إلی محکمها ، ولا تتّبعوا متشابهها دون محکمها ؛ فتضلّوا» .
7 ـ الممارسة بالفروع الفقهیة وتفریعها علی اُصولها ؛ حتّی یحصل بذلک
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 573
ملکة الاستنباط ؛ فإنّ الاستنباط من العلوم العملیة التی لاینالها طالبها إلاّ بالعمل مرّة بعد اُخری ، وهکذا .
8 ـ معرفة الشهرات المحقّقة الفتوائیة ، وما أجمع علیه أساطین الفقه منذ دوّن الفقه ؛ فإنّ العدول عنها خطأ محض ، ولا قیمة للروایة إذا أعرض عنه مدوّنها وافتوا بخلافها . فلأجل ذلک یجب الفحص عن کلمات القوم والبحث عن فتاوی قدمائهم الذین أخذوا الفقه والأحکام والأحادیث والروایات عن الحجج الطاهرة ، أو عن تلامیذهم أو مقاربی أعصارهم ؛ فإنّ لفتاواهم وإجماعاتهم قیمةً لا یوزن بها فتاوی من تأخّر عنهم ؛ فإنّ أکثر الاُصول المصحّحة کانت موجودة عندهم ، وقد کان دأبهم الإفتاء بمتون الروایات من دون تغییر . فلا غنی للفقیه عن مراجعة ما دوّنه الصدوقان والشیخان ؛ خصوصاً شیخنا الطوسی ، شیخ الطائفة الحقّة ؛ حتّی یقف علی المشهور والنادر .
9 ـ معرفة فتاوی العامّة الدارجة فی أعصار الأئمّة ؛ فإنّ معرفة الموافق لهم ، وتمییزه عن مخالفها یتوقّف علی الخُبرویة فی هذا المجال . فإذا استنبط حکماً شرعیاً علی تلک الموازین وبذل جهده واستفرغ باله یجوز له العمل بما استنبط ، فیکون مثاباً لو أصاب ، ومعذوراً لو أخطأ ، بل هو مثاب علی کلّ حال .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 574