المقصد السابع فی الاُصول العملیة

من لا یجوز له الرجوع إلی الغیر

من لا یجوز له الرجوع إلی الغیر

‏ ‏

‏أمّا الجهة الاُولی : فالموضوع لوجوب العمل برأی نفسه وحرمة الرجوع إلی‏‎ ‎‏الغیر هو من کان ذا قوّة وملکة یقتدر بها علی استنباط الحکم الشرعی من مدارکها ؛‏‎ ‎‏وإن لم یستنبط فرعاً من الفروع .‏

‏فلو زاول الرجل مقدّمات الاجتهاد ومارسها ممارسة أکیدة ؛ بحیث حصل‏‎ ‎‏من تلک المزاولة قوّة الاجتهاد ونال المرتبة القدسیة ـ وإن لم یستنبط فرعاً واحداً‏‎ ‎‏ولم یرجع إلی مسألة واحدة ؛ بحیث یصدق فی حقّه فعلاً أنّه جاهل بالأحکام ـ‏‎ ‎‏یحرم علیه تقلید الغیر .‏

‏فیجب علیـه استفراغ الوسـع والبال لتحصیل الحکم الشرعـی ؛ لأنّ الـدلیل‏‎ ‎‏علی جـواز رجـوع الجاهـل إلی الغیر لیس إلاّ بناء العقلاء ، ومـا ورد فی‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 565
‏الکتاب‏‎[1]‎‏ والسنّة‏‎[2]‎‏ من التحریص إلی الرجوع لیس إلاّ إرشاداً إلی الفطرة‏‎ ‎‏المرتکزة ، وهو دلیل لبّی لا إطلاق له حتّی یتمسّک بإطلاقه .‏

‏خصوصاً إذا علم أنّ مؤدّی الأمارات والاُصول عنده قد یکون مخالفاً لرأی‏‎ ‎‏من یرید أن یرجع إلیه ؛ بحیث لو استفرغ الوسع لوقف علی خطأه فی الاجتهاد فلا‏‎ ‎‏یعذّره العقلاء لو رجع وبان خطأه ، والحال هذه .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ المتیقّن أو ما هو الظاهر من بناء العقلاء هو الجاهل الذی‏‎ ‎‏لایتمکّن فعلاً من تحصیل الأحکام الواقعیة من طرقه المألوفة ، فعلیه أن یرجع إلی‏‎ ‎‏المتمکّن . وأمّا القادر علی تحصیلها من طرقها ؛ بحیث لا حاجز بینه وبینها إلاّ‏‎ ‎‏مراجعة الأمارات والاُصول المجتمعة فی الکتاب والسنّة فخارج عنه ، بل یجب‏‎ ‎‏علیه بذل الجُهد فی تحصیل ما هو ضالّته ، وما یدور علیه وظائفه .‏

والحاصل :‏ أنّه لو باشر وقام علی تحصیل الأحکام الشرعیة بنفسه فهو‏‎ ‎‏مأمون من العتاب والعقاب ـ أصاب أو أخطأ ـ لکونه خبیراً فیما باشره ، والخبیر قد‏‎ ‎‏یصیب وقد لایصیب . وأمّا إذا رجع إلی الغیر فلو کان الغیر خاطئاً فی اجتهاده فلا‏‎ ‎‏یعذر فی مراجعته ؛ لأنّه من المحتمل جدّاً عدم خطأه فیما لو باشره بنفسه .‏

فإن قلت :‏ جرت سیرة العقلاء من أصحاب الصنائع وغیرهم علی خلاف‏‎ ‎‏ذلک ؛ فربّما یدفعون کلفة التدبّر والتشخیص فی أمر إلی ذمّة الغیر ، مع کون الدافع‏‎ ‎‏قادراً علی القیام به بنفسه .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 566
قلت :‏ قیاس التکالیف الإلهیة بما جرت السیرة علیه بین الصنّاعین قیاس مع‏‎ ‎‏الفارق ؛ فإنّ رجوعهم إلی الغیر لأجل تقدیم بعض الغایات علی بعض ـ کتقدیم‏‎ ‎‏الاستراحة والعیش علی التعب والوصب ـ أو من باب الاحتیاط والوقوف علی نظر‏‎ ‎‏الغیر ؛ حتّی یطمئنّ قلبه إذا حصل التوافق بین الرأیین ، أو غیر ذلک ممّا لا مساغ لها‏‎ ‎‏فی الأحکام الشرعیة .‏

ومع هـذا کلّه :‏ یمکن تقریب جـواز رجوعـه إلی الغیر بما یلی : إنّ ملاک‏‎ ‎‏رجـوع الجاهل إلی الغیر لیس إلاّ إلغاء احتمال الخطأ والخـلاف فی نظـر الغیر ؛‏‎ ‎‏لکونه غالب الموافقـة وکثیر الإصابـة ، کما أنّ ذلک هـو الملاک فی العمل‏‎ ‎‏بالأمـارات وأمثالها . وهـذا الملاک بعینه موجـود فی الجاهـل القادر علی‏‎ ‎‏الاستنباط ؛ فله أن یـدفع کلفة الاجتهاد عن نفسه .‏

‏نعم ، لو استفرغ الوسع ، وصار مؤدّی نظره مخالفاً لما رآه غیره لایجوز له‏‎ ‎‏الرجوع إلیه ؛ لکونه مخطئاً فی نظره‏‎[3]‎‏ .‏

هذا ،‏ ولکنّه لایخلو عن غموض ؛ فإنّ هذا یصحّ لو کان الاختلاف بین الفقهاء‏‎ ‎‏طفیفاً لاکثیراً ، والجاهل القادر علی بذل الجهد یعلم من نفسه أنّه لو تصدّی‏‎ ‎‏لاستفراغ الوسع لوقف علی خطایا کثیرة فی أنظار من یرید الرجوع إلیه ، ومعه کیف‏‎ ‎‏یجوز له الرجوع ؟ ! ومن المحتمل أن یکون للعجز دخالة فی جواز الرجوع .‏

‏وأمّا سیرة المتشرّعة فالمتیقّن منها غیر ذلک . هذا وللمقال صلة ، فانتظر‏‎[4]‎‏ .‏

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 567

  • )) راجع النحل (16) : 43 ، الأنبیاء (21) : 7 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 27 : 131 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 10 ، الحدیث 20 ، والباب 11 .
  • )) ولایخفی أنّه لو وقف القادر علی الاستنباط أنّ خطأه فی الاجتهاد أکثر من خطأ غیره وأنّ صواب الغیر وإصابته للواقع أکثر من صوابه وإصابته ، کما هو الحال فی العالم والأعلم ، فالرجوع إلی الغیر وجواز ترک الاستنباط قوی جدّاً . [المؤلّف]
  • )) یأتی فی الصفحة 639 .