ذکر مناصب الفقیه
قال دام ظلّه : إنّ دین الإسلام من أثبت الطرق دعائمه ، وأوضح المذاهب شوارعه ، عزّز جامعة البشر ـ فی أحوج أوقاتها إلی مصلح یهدیها بعلمه الجمّ إلی طریق الصلاح ، ویضمّن لها نتائج النجاح ـ بوضع قوانین کلّیة ودستورات واضحة ، یحصل بها حیاتها وتتکفّل سعادتها الفردی والاجتماعی .
ثمّ إنّ من أهمّ ما یحتاج إلیه البشر فـی حفظ نوامیسه ونفوسه واجتماع شتات اُمـوره ومتفرّقاته هو جعل قائد بینهم یجـب علی الکـلّ إطاعة قوله وتبعیـة فعله ؛ وهو الذی یعبّر عنه فی لسان الشرع والمتشرّعة بـ «الحاکم والسائس» .
فللحرص علی هذا النظام البشری والترتیب المدنی أصدرت حکومة الشرع العالیة قانون الحکومة ، فعیّنت لاُمّهات المناطق حکّاماً کباراً یضمّنون سیاسة المنطقة فی داخلها وخارجها ، ویحفظون توازن الجمعیة فی کافّة حرکاتها ؛ حفظاً لها عن التلف والاندحار وسفک الدماء وقتل النفوس وتطرّق اللصوص إلیها من داخل وخارج ؛ حتّی ینتظم اُمورهم وینضبط کیانهم ومدنیتهم .
کما أنّ من مقتضیات القوی النفسانیة المیل والتوجّه إلی القوی النفسانیة ، والاحتـراز والتباعـد عـن المضارّ . وذلک یوجب نـزاعاً فی الحقـوق والأمـوال ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 563
وربّما ینجرّ إلی الحرب والاحتدام .
فلدفع هذه المفسدة عیّن الشارع الصادق فی کلّ صقع وجیل مَن یتّبع قوله فی حلّ خصوماتهم ومرافعاتهم ؛ لیکون قوله نافذاً وأمره قاضیاً . وهذا ما یعبّر عنه فی لسان الشرع وأئمّة الدین بـ «القاضی» .
وکلّ من هذین الأمرین راجع إلی کیفیة معاشهم فی أدوار حیاتهم ؛ لیخرجوا عن الوحشیة إلی المدنیة ؛ حتّی یتمّ نظامهم بأحسن صورة وأدقّ معانیه .
وهاهنا مقام ثالث وراء ما تقدّم ؛ أعنی به مقام الإفتاء ؛ فإنّ الأحکام الشرعیة بأبوابه الأربعة ـ من عبادات ومعاملات وإیقاعات وسیاسات ـ لمّا کان أمراً نظریاً محتاجاً إلی التعلّم والتعلیم ، ولایمکن لکلّ واحد منّا عرفانها عن مآخذها العلمیة ومدارکها المتقنة ـ فإنّ ذلک یعوّق الإنسان عن مهامّ اُموره الدنیویة ـ أرجع نظام الإفتاء إلی فقیه عالم بشرائع دینه ومذهبه ؛ وهذا هو الذی یدور فی ألسنة المتشرّعة بـ «المفتی» ؛ لیکون مرجعاً لأخذ الأحکام .
ولمّا لم یکن کلّ فرد لائقاً للجلوس علی منصّة هذه المناصب الخطیرة والمقامـات المهمّـة حـدّد الشارع هـذا المقام بحـدود وقیود ، بحث عنها الأساطیـن فـی کتبهم .
ولا یناسب البحث عن عامّتها وضع الرسالة ، إلاّ البحث عن شرطیة الاجتهاد لمن یتکفّل هذه المناصب ، وأمّا بیان سائرها ـ من عدالة وحرّیة ورجولیة ـ فموکولة إلی محلّها .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 564