الإشکالات المشترکة
فنذکر منها إشکالین :
الأوّل : استلزام کثرة التخصیص ، ولا شکّ فی استهجانها .
وتوضیحه : أنّ الأحکام ـ کما عرفت ـ لیست عللاً تامّة للضرر ، ولا عللاً تولیدیة له ، وإنّما یسند إلیها الضرر إسناد الشیء إلی معدّه ، وإلی ما له دخل فی وجوده بنحو من الإعداد . ولیس للأحکام شأن غیر أنّها محقّقة لموضوع الطاعة .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 510
وأمّا احتمال کونها مبادئ للانبعاث فلیس له من الحقّ مسحة ، بل الانبعاث دائماً من المبادئ الموجودة فی نفوس المکلّفین ؛ من الخوف والطمع وغیرهما ؛ فإنّ الانبعاث خارجاً مستند إلیها أخیراً بعد ما تحقّق المبادئ الاُخر المقرّرة فی محلّه ؛ من التصوّر والتصدیق . . . إلی آخر ما ذکروه .
فعندئذٍ : لا یتصوّر للحکم الاعتباری والإیجاب والزجر التشریعی شأن غیر أنّه محقّق لمرکز الخوف والطمع وغیرهما ، وموضح لموضوع الطاعة والعصیان .
وأمّا الضرر الخارجی فهو مستند إلی نفس المتعلّق الذی یباشر به المکلّف .
وکونه مبدءً له علی أقسام :
فتارة : یکون نفسه ضرریاً ؛ بأن یکون علّة له وسبباً تولیدیاً له .
واُخری : یکون معدّاً وممّا ینتهی إلیه الضرر ، ویکون ذا دخالة فیه بنحو من الدخالة .
وإن شئت فلاحظ العقد اللازم الضرری ؛ فإنّ الحکم الشرعی المتصوّر فی المقام إنّما هو اللزوم ، وهو لیس ضرریاً ، بل البیع الخارجی ضرری .
فربّما یکون بذاته ضرریاً ، وقد یتّصف به لکون الضرر یترتّب علیه ؛ ترتّباً ثانویاً ، أو یترتّب علیه بوسائط کثیرة .
بل ربّما یکون البیع مبدءً لورود الضرر علی غیر المکلّف ، کما فی بیع الشیء بأرخص من قیمته السوقیة ؛ فإنّه یوجب نزول السوق وورود الضرر علی الباقین الواجدین له ، أو بیعه بأغلی من قیمته الفعلیة ؛ فإنّه یستعقب الغلاء والقحط ونزول الضرر علی فاقدیه ، وربّما یتضرّر به الأهل والعیال والجار والشریک .
ففی هذه الأقسام لایتّصف البیع بالضرر بنفسه ، ولا یترتّب علیه ترتّباً ثانویاً ، بل البیع له نحو دخالة فی ورود الضرر علی غیر مباشره .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 511
إذا وقفت علی ما ذکرنا فنقول : لو کانت الأحکام الشرعیة کمتعلّقاتها تارة عللاً تامّة للضرر ، واُخری معدّات له ، أو کانت تارة ممّا یترتّب علیه الضرر ترتّباً أوّلیاً ، واُخری ممّا یترتّب علیها ترتّباً ثانویاً ، أو غیر ذلک من الأقسام لصحّ للقائل أن یدّعی : أنّ قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «لاضرر» یختصّ بنفی الأحکام التی لها العلّیة والسببیة التامّة للضرر ، وأمّا إذا کانت الأحکام من الاُمور التی لها نحو إعداد للضرر ، أو ممّا ینتهی إلیه بوسائط کثیرة فلا .
وقد عرفت عدم کونها عللاً للضرر فی مورد من الموارد ، بل لها نحو دخالة فی وروده ، کدخالة المعدّ وأشباهه .
وعلی ما ذکرنا : فلا مجوّز لهذا القول ، ولا مساغ لاختصاص قوله صلی الله علیه و آله وسلم بحکم دون حکم ؛ فإنّ دخالة الوجوب فی الوضوء الضرری فی الضرر کدخالة لزوم الرهن المفروض کونها غیر ضرری ؛ فإنّ الحکم الشرعی فیهما دائماً معدّ للضرر ؛ سواء کان المتعلّق ضرریاً أولا .
کما لامساغ لاختصاصها بالأحکام ؛ فإنّ المتعلّقات مثلها حرفاً بحرف .
فلا مناص للقائل إلاّ الالتزام بتخصیصات کثیرة مستهجنة ؛ حتّی یختصّ قوله صلی الله علیه و آله وسلمبعدها بحکم دون حکم ، وضرر دون ضرر ، ومعدّ دون معدّ ؛ حتّی لایلزم تأسیس فقه جدید .
والقول باختصاصها بالأحکام التی یکون متعلّقاتها عللاً تامّة للضرر لامعدّاً له قول بلا برهان .
وقد صار الشیخ الأعظم إلی الجواب عنه : بأنّ الجمیع خرج بعنوان واحد لا بعناوین ، ولا استهجان فیه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 512
وفیه ـ مضافاً إلی أنّ قبح کثرة التخصیص لا یدور مدار کون الخروج بعنوان واحد أو بعناوین إذا کان المخصّص منفصلاً ؛ فلو قال «أکرم کلّ إنسان» ثمّ أخرج عن العموم «کلّ من له رأس واحد» ، وصار العموم مختصّة بمن له رأسان لصار کلاماً بشیعاً ؛ إذ التعبیر عن إکرام من له رأسان بما ذکر من الکبری قبیح جدّاً ـ أنّ إخراج هذه الموارد بعنوان واحد یحتاج إلی جامع عرفی یقف علیه المخاطب عند التخصیص ، ولا أظنّ وجوده .
ولو فرض وجوده الواقعی ، وفرض غفلة المخاطب عنه ، وکان التخصیص بغیر هذا الجامع عنده فلا یخرج الکلام من الاستهجان .
الثانی من الإشکالات المشترکة : أنّ المعروف عندهم هو أنّ قاعدة لاضرر دلیل امتنانی اُرید من وضعه الامتنان علی العباد ، کحدیث الرفع ، ودلیل رفع الحرج وما هو شأنه هذا لیکون آبیاً عن التخصیص ؛ قلّ أو کثر .
مع أنّ هنا أحکاماً کثیرة إلهیة ضرریة مجعولة علی العباد فی الشرع ؛ من زکاتـه وخمسـه وحجّـه وجهاده وکفّارتـه وحـدوده واسترقاقـه ، وغیر ذلک ممّا نجـده فی أبواب المکاسب ؛ من سلبه مالیة اُمـور لها مالیة عند العقلاء ، کالخمر وآلات الطرب والأغانـی ، والأعیان النجسـة ، وما یجیء منه الفساد محضاً فی نظـر الشارع .
فإنّ هذه وأشباهها أحکام ضرریة علی العباد فی عاجلهم ، ومع تشریعها کیف یمکن له أن یدّعی بأنّه لم یجعل حکماً ضرریاً أصلاً مع کون معظمها أو اُصولها أو کثیراً منها ضـرریاً ؟ سواء بلغ التخصیص حـدّ الاستهجـان أم لم یبلـغ .
وما ربّما یقال : من أنّه ناظر إلی الأحکام التی یلزم من إطلاقها الضرر ، دون
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 513
ما یکون مبناه علی الضرر غیر مفید جدّاً ؛ فإنّ قوله : «لاضرر» عامّ یشمل کلا القسمین ، ناظر إلی أنّ الشارع لم یجعل حکماً ضرریاً مطلقاً ، فلو خرج ما کان طبعه علی الضرر لکان ذلک بنحو من التخصیص .
أضف إلیـه : أنّ دخـول مـا یکون طبعـه ضرریاً أولی بأن یکون مشمولاً لـه مـن قرینه .
وما ربّما یقال : من أنّ التخمیس وتطهیر الأموال بإخراج الزکاة لیس ضرر عـرفاً قول بلا برهـان ؛ فإنّ سلب مالکیـة المالک عـن خمس مالـه أوعُشره ضرر جـدّاً . اللهمّ إلاّ أن یتمسّک بذیل الانصراف ، وأنّه منصرف عن هذه العناوین . وهو لیس ببعید ، لکن هذا لا یدفع أصل الإشکال ؛ لورود تخصیصات غیرها علیه ؛ خصوصاً علی ما قرّرناه .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 514