الفرق بین الضرر والضرار
بعد ما عرفت أنّ الضرار بمعنی الضرر لا بمعنی المجازاة ، لکن بینهما فرق من ناحیة اُخری ، وهو : أنّ الضرر والضُرّ والإضرار وما یشتقّ منهما إنّما یستعمل فی الضرر المالی والنفسی ، بخلاف الضرار فإنّ الشائع من استعماله هو استعماله فی التضییق والحرج وإیراد المکروه وإیقاع الکلفة ، والظاهر : أنّ هذا هو المراد من موارده فی الذکر الحکیم ، وإلیک بیانها :
منها : قوله عزّ وجلّ : «لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ» فقد فسّره الإمام بقوله : «لاینبغی للرجل أن یمتنع من جماع المرأة ، فیضارّ بها إذا کان لها ولد مرضع ، ویقول لها : لا أقربک فإنّی أخاف علیک الحَبَل ، فتقتلی ولدی ، وکذلک المرأة لا یحلّ لها أن تمنّع علی الرجل ، فتقول : إنّی أخاف أن أحبل ، فأقتل ولدی ، وهذه المضارّة فی الجماع علی الرجل والمرأة» ، ومثله غیره .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 492
وقد فسّر الإمام أبو عبدالله علیه السلام : المضارّة بالاُمّ فی روایة اُخری بنزع الولد عنها ، وحکاه فی «مجمع البحرین» بقوله : أی لاتضارّ بنزع الرجل الولدَ عنها ، ولاتضارّ الاُمّ الأب فلا ترضعه .
وعنه علیه السلام : «المطلّقة الحبلی ینفق علیها حتّی تضع حملها ، وهی أحقّ بولدها أن تُرضعه بما تقبله امرأة اُخری ، یقول الله عزّ وجلّ : «لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَی الْوارِثِ مِثْلُ ذلِکَ» لا یضارّ بالصبی ولایضارّ باُمّه فی رضاعه» .
فهذه الروایات تعطی : أنّ المضارّة فی الآیة لیست بمعنی الضرر المالی والنفسی ، بل بمعنی إیقاع کلّ من الرجل والمرأة عدیله فی الحرج والمشقّة بترک الجماع ونزع الولد .
وأمّا قوله تعالی : «وَالَّذِینَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَکُفْراً وَتَفْرِیقاً بَیْنَ الْمُؤْمِنِینَ» ، فاللائح منه کون الضرار بهذا المعنی بتفریق شملهم ، وإدخال الشکّ فی قلوبهم ، والتزلزل فی عقائدهم .
وإلیک ما روی فی شأن نزوله : الذی رواه فی «المجمع» وغیره ، قال الطبرسی : «أنّ بنی عمرو بن عوف بنوا مسجد قُباء وصلّی فیه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ،
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 493
فحسدتهم إخوتهم بنو غنم بن عوف ، فبنوا مسجد الضرار ، وأرادوا أن یحتالوا بذلک فیفرّقوا المؤمنین ویوقعوا الشکّ فی قلوبهم ؛ بأن یدعوا أبا عامر الراهب من الشام لیعظهم ویذکر وَهْن دین الإسلام ؛ لیشکّ المسلمون ویضطربوا فی دینهم . فأخبر الله نبیه بذلک ، فأمر بإحراقه وهدمه بعد الرجوع من تبوک» .
ویوضح المقصود ما ذکره الطبرسی : ضراراً ؛ أی مضارّة ، وهو یرید بذلک الضرر بمن بنوا مسجد قُباء ؛ بتفریقهم وتمزیقهم وتشویش عقائدهم ، ولیس هذا إلاّ التضییق وإیقاع المکروه ، لا الضرر المالی والنفسی .
ویشهد لما ذکرنا : قوله عزّ من قائل : «وَلا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» فقد روی الصدوق بإسناده عن أبی عبدالله قال : سألته عن قول الله عزّ وجلّ : «وَلا تُمْسِکُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا» .
قال : «الرجل یطلّق حتّی إذا کادت أن یخلو أجلها راجعها ، ثمّ طلّقها ، یفعل ذلک ثلاث مرّات ، فنهی الله عزّ وجلّ عن ذلک» .
وقال الطبرسی : أی لا تراجعوهنّ لا لرغبة فیهنّ ، بل لطلب الإضرار بهنّ ؛ إمّا فی تطویل العدّة أو بتضییق النفقة فی العدّة .
ومنها قوله : «وَلا تُضارُّوهُنَّ لِتُضَیِّـقُوا عَلَیْهِنَّ» ؛ فإنّ المقصود ـ کما
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 494
یشهد له صدرها «أَسْکِنُوهُنَّ مِنْ حَیْثُ سَکَنْتُمْ مِنْ وُجْدِکُمْ» ـ هو التضییق علیهنّ بإسکانهنّ فیما لایناسب شأنهنّ ، وما ذکرناه یلوح من الوجهین اللذین ذکرهما الطبرسی ، فقال : لاتدخلوا الضرر بالتقصیر فی السکنی والنفقة والکسوة ، طالبین بالإضرار التضییق علیهنّ لیخرجن .
وقیل المعنی : أعطوهنّ من المسکن ما یکفیهنّ لجلوسهنّ ومبیتهنّ وطهارتهنّ ، ولا تضایقوهنّ حتّی یتعذر علیهنّ السکنی .
ومنها قوله : «وَلا یُضارَّ کاتِبٌ وَلا شَهِیدٌ» .
قال الطریحی : فیه قراءتان :
إحداهما : «لا یُضارِر» بالإظهار والکسر والبناء للفاعل علی قراءة أبی عمرو . فعلی هذا یکون المعنی : لایجوز وقوع المضارّة من الکاتب ؛ بأن یمتنع من الإجابة أو یحرّف بالزیادة والنقصان ، وکذا الشهید .
وثانیتهما : قراءة الباقین : «لا یُضارَّ» بالإدغام والفتح والبناء للمفعول . فعلی هذا یکون المعنی : لایفعل بالکاتب والشهید ضرر ؛ بأن یکلّفا قطع مسافة بمشقّة ، من غیر تکلّف بمؤونتهما أو غیر ذلک .
وقال الطبرسی : نقل عن ابن مسعود ومجاهد : أنّ الأصل فیه «لا یُضارَر» بفتح الراء الاُولی ، فیکون معناه : لا یکلّف الکاتب الکتابة فی حال عذر لا یتفرّغ إلیها ، ولا یضیّق الأمر علی الشاهد ؛ بأن یدّعی إلی إثبات الشهادة وإقامتها فی حال
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 495
عذر ، ولا یعنّف علیهما .
نعم ، الظاهر : أنّ المضارّ فی آیة الوصیة هی الإضرار المالی بالورثة .
والمقصود من هذا التطویل المملّ : إثبات شیوع استعمال الضرار وتصاریفه فی التضییق وإیصال المکروه والحرج والتکلّف وأمثاله ، کما أنّ الشائع فی الضرر والضُرّ والإضرار هو الاستعمال فی الضرر الوارد فی المال والنفس ، کما هو معلوم .
وبذلک یتّضح : أنّ المراد من الضرار فی الحدیث هو التضییق ؛ فإنّ سمرة کان بدخوله فجأة من غیر استیذان یشدّد الأمر علی الأنصاری ، ویوقعه فی أمر مکروه ؛ بالنظر إلی أهله .
کما یتّضح به : ضعف ما تداولته الألسن ؛ من أنّ الضرار إنّما هو تأکید للضرر ؛ إذ لا مجال للتأکید مع ظهور التأسیس ؛ فإنّ الضرر ـ کما وقفت علیه من التبادر العرفی ـ إنّما هو الضرر علی المال والنفس ، والضرار هو التضییق والتشدید ، فلا مجال لهذا التأکید البارد .
کما لا مجال لما ربّما یقال من أنّ الضرار هو الإصرار علی الضرر ، ولا المجازاة ، مع أنّ المضارّ فی الحادثة هو نفس سمرة فقط ، فکیف یکون بمعنی المفاعلة والمجازاة ؟
ولا أظنّک بعد التأمّل فیما ذکرناه ، والفحص عن موارد استعمال الکلمتین فی الکتاب والحدیث ، والتدبّر فی قضیة سمرة وإطلاق خصوص المضارّ علیه أن تتأمّل
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 496
فی تصدیق ما ذکرناه ، وأنّ المنطبق علی المورد هو الضرار لا الضرر .
نعم ، الکلمات الواصلة إلینا من أساتذة اللغة ومهرتها هو أنّ الضرار بمعنی المفاعلة ؛ أی المجازاة ، وإلیک نقل عبائرهم :
فعن ابن منظور فی «لسانه» : معنی قوله «لاضرر» ؛ أی لایضرّ الرجل أخاه وهو ضدّ النفع ، وقوله «لاضرار» أی لایضارّ کلّ واحد منهما صاحبه .
وعن ابن الأثیر فی «نهایته» : معنی قوله «لاضرر» أی لایضرّ الرجل أخاه ، فینقصه شیئاً من حقّه ، و«الضرار» ـ فعال ـ من الضرّ ؛ أی لایجازیه علی إضراره بإدخال الضرر علیه ، والضرر فعل الواحد والضرار فعل الاثنین ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء علیه . وقیل : الضرر ما تضرّ به صاحبک وتنتفع أنت به ، والضرار أن تضرّه ، من غیر أن تنتفع أنت به . وقیل : هما بمعنی واحد ، والتکرار للتأکید .
ونقل هذه العبارة بعینها الطریحی فی «مجمعه» .
وعن جلال الدین السیوطی و«تاج العروس» : لایضرّ الرجل أخاه فینقصه شیئاً من حقّه ، ولا ضرار ؛ أی لایجازیه علی إضراره بإدخال الضرر علیه .
غیر أنّه یمکن أن یقال : إنّ هؤلاء الأعلام ـ مع الإذعان بفضلهم ـ قد فسّروه ؛ أخذاً بحکم مفاد الباب ؛ فإنّ الأصل فی باب المفاعلة إنّما هو المجازاة ، والضرار مصدر من هذا الباب ؛ ففسّروه بما هو الأصل فی مفاد هذه المصادر ، من غیر فحص
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 497
ولا تتبّع عن مظانّ استعماله فی الکتاب والسنّة .
والشاهد علیه : اتّحاد عبائرهم فی تفسیره ـ کما عرفت من «التاج» وما نقله السیوطی ـ وقد مرّ أنّ «المجمع» اکتفی بنقل ما أفاده ابن أثیر ، ولعلّ الأساس هو ابن أثیر فی «نهایته» وابن منظور فی «لسانه» ، وتبعهما الباقون .
ویشهد لضعف ما أفاداه : وقوع کلمة «مضارّ» فی حدیث سمرة ؛ فإنّ قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «ما أراک یا سمرة إلاّ مضارّاً» لا یصحّ بمعنی المجازاة علی الضرر ، أو بمعنی إضرار کلّ علی صاحبه ، وهذه الجملة صغری لقوله : «ولا ضرر ولا ضرار» ، فیلزم اتّحاد الکلمتین فی المعنی .
وقد أوضحنا فیما مرّ : عدم ثبوت ورود قوله : «لا ضرر ولا ضرار» مستقلّاً، ولم یثبت عندنا صدوره إلاّ فی ذیل حدیث سمرة .
أضف إلی ذلک : ما تلوناه من الشواهد ؛ فإنّک لاتجد فیها مورداً استعمل فیما یدّعیه الأساتذة ومهرة اللغة .
فتحصّل : أنّ الضرر فی المقام ما هو المفهوم عرفاً منه ؛ من النقص فی الأموال والأنفس ، والضرار بمعنی الحرج والتضییق ، ولیس من حدیث التأکید والمجازاة عین ولا أثر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 498