المقصد السابع فی الاُصول العملیة

شرائط جریان البراءة الشرعیة

شرائط جریان البراءة الشرعیة

‏ ‏

‏أمّا البراءة الشرعیة فربّما یتوهّم إطلاق أدلّتها ؛ قائلاً بأنّه ظاهر قوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ :‏‎ ‎«رفع عن اُمّتی . . . ما لا یعلمون»‎[1]‎‏ ، و‏«إنّ الناس فی سعة ما لا یعلمون»‎[2]‎‏ هو‏‎ ‎‏الرفع والتوسعة ؛ کان قبل الفحص أو بعده .‏

‏وربّما یجاب بالتقیید بالإجماع‏‎[3]‎‏ ، وهو کما تری . وربّما یتمسّک بالعلم‏‎ ‎‏الإجمالی‏‎[4]‎‏ ، وقد عرفت : أنّ التمسّک به خروج عن موضوع البحث ؛ لأنّ البحث‏‎ ‎‏فی شرائط الجریان بعد الفراغ عن کون المقام مجری لها‏‎[5]‎‏ .‏

والحقّ :‏ إنکار إطلاقها لما قبل الفحص ، وذلک بوجهین :‏

الأوّل :‏ أنّ العقل یحکم بوجـوب اللطف علی الله ببعث الـرسل وإنـزال‏‎ ‎‏الکتب حتّی ینتفع الناس بأحکامـه تعالی عاجـلاً وآجـلاً ، ویصلح حالهم فی‏‎ ‎‏الـدنیا والآخـرة .‏

‏ومع هذا الحکم الباتّ هل یمکن أن یحتمل العقل أنّ من أحکامه تعالی هو‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 452
‏الرفع بقول مطلق ؛ بأن یجوز لهم الإعراض عن سماع قول الأنبیاء وترک التعلّم‏‎ ‎‏والتفحّص عن أحکامه وشریعته ؛ حتّی یتنزّلوا منزلة البهائم والمجانین ؟ حاشا وکلاّ !‏

‏وإن أبیت عن ذلک کلّه ـ لأجل وضوح کثیر من الأحکام ـ فلا مانع من‏‎ ‎‏جریان البراءة فی الباقی : فلا أقلّ من انصراف أدلّتها عمّا قبل الفحص .‏

الثانی‏ ـ وهو الموافق للتحقیق ـ أنّ المراد من عدم العلم المأخوذ موضوعاً‏‎ ‎‏فی لسان أدلّتها لیس العلم الوجدانی حتّی یکون تقدیم أدلّة الأمارات والاُصول‏‎ ‎‏الحاکمة علیها من باب التخصیص ؛ لاستهجان ذلک التخصیص الکثیر ، بل لایخلو‏‎ ‎‏عن استهجان ؛ ولو کان بنحو الحکومة أیضاً .‏

‏بل المراد من العلم هو الحجّة ، ومفادها : أنّه رفع عمّا لا حجّة علیه .‏‎ ‎‏وسیوافیک فی مبحث الاستصحاب : أنّ إطلاق العلم والیقین بهذا المعنی کثیر فی‏‎ ‎‏الأخبار‏‎[6]‎‏ . ومن المعلوم : أنّ الحجّة موجودة فی الکتاب والسنّة ، وقد قامت الحجّة‏‎ ‎‏علی کثیر من الأحکام ، ووصلت إلینا وصولاً متعارفاً ، فمع عدم الفحص یشکّ فی‏‎ ‎‏تحقّق ما هو موضوع البراءة .‏

‏وإن أبیت : فلاحظ لسان أدّلتها ؛ فإنّ قوله تعالی :‏‏«‏وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی‎ ‎نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‎[7]‎‏ من أدلّة البراءة ، وأوضحنا مفاده‏‎[8]‎‏ ، وهو کما تری جعل بعث‏‎ ‎‏الرسول غایةً لرفع التعذیب .‏

‏وقـد عرفت أنّ المراد ـ ولـو بمعونة مناسبـة الحکم والموضوع ـ مـن بعثه‏‎ ‎‏هـو تبلیغ أحکامـه وإیصال شریعته علی النحو الـدائر بین العقلاء ، فیدلّ أنّـه‏‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 453
‏لـو بلّغ الرسول وأتمّ الحجّة لوقع التعذیب علی فرض المخالفة .‏

‏هذا مفاد الآیة ، والمفروض أنّ الرسول قد بلّغ وأتمّ البیان بالکتاب والسنّة ،‏‎ ‎‏فلایجوز الصفح عنهما .‏

‏ومثله قوله تعالی : ‏‏«‏لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها‏»‏‎[9]‎‏ ، بناءً علی دلالتها .‏

‏ومثله الروایات المذکورة فی بابها من قوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«إنّما یحتجّ علی العباد بما‎ ‎آتاهم وعرّفهم»‎[10]‎‏ ، وقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی»‎[11]‎‏ ، فتلک‏‎ ‎‏الأدلّة صریحة فی تقیّد البراءة بورود النهی وما فی معناه ، والمفروض ورود النهی‏‎ ‎‏فی مظانّه . ولو فرض هنا إطلاق یقیّد بهذه الأدلّة .‏

‏ومع الغضّ عمّا ذکرنا کلّه : فلا شکّ أنّ ما یدلّ علی وجوب التعلّم والتفقّه فی‏‎ ‎‏الدین حاکم علی إطلاق أدلّة البراءة ، وإلیک نماذج من هذه الروایات :‏

‏مثل قوله ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ : ‏«طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم»‎[12]‎‏ .‏

‏وما فی مرسلة «الکافی» عن علی ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«ألا وإنّ طلب العلم أوجب علیکم‎ ‎من طلب المال»‏ إلی أن قال : ‏«والعلم مخزون عند أهله ، وقد أمرتم بطلبه من‎ ‎أهله ، فاطلبوه»‎[13]‎‏ .‏

‏وما فی «الکافی» عن أبی عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«تفقّهوا فی الدین ؛ فإنّه من لم یتفقّه‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 454
منکم فی الدین فهو أعرابی»‎[14]‎‏ .‏

‏وما فی «الکافی» عن یونس عن بعض أصحابنا قال : سئل أبوالحسن ‏‏علیه السلام‏‎ ‎‏هل یسع الناس ترک مسألة عمّا یحتاجون إلیه ؟ فقال : ‏«لا»‎[15]‎‏ .‏

‏وما فی «الکافی» فی الصحیح قال أبو عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ لحمران بن أعین فی شیء‏‎ ‎‏سأله : ‏«إنّما یهلک الناس لأنّهم لا یسألون»‎[16]‎‏ .‏

‏وما ورد فی تفسیر قوله تعالی : ‏‏«‏فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ‏»‏‎[17]‎‏ .‏

‏وما ورد فیمن أطال الجلوس فی بیت الخلا‏‎[18]‎‏ .‏

‏وما ورد فی غسل المجدور‏‎[19]‎‏ ، إلی غیر ذلک من الروایات .‏

‏ولاشکّ فی حکومة تلک الطائفة علی إطلاقات الباب ؛ فإنّها متعرّضة لما هو‏‎ ‎‏موضوع دلیل البراءة ، وتتعرّض لما لم یتعرّض له أدلّة البراءة .‏

ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر  ‏رحمه الله‏‏ قد استشکل فی صلاحیة تلک الأدلّة لتقیید‏‎ ‎‏مطلقات الباب ؛ قائلاً بأنّها ظاهرة فی الإرشاد إلی حکم العقل بلزوم الفحص لأجل‏‎ ‎‏استقرار الجهل الموجب لعذره ، فعموم أدلّة البراءة واردة علیها ؛ لأنّه بقیام الترخیص‏‎ ‎‏الشرعی قبل الفحص یرتفع حکم العقل .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 455
‏مضافاً إلی إمکان دعوی اختصاصها بصورة العلم الإجمالی ، فتکون إرشادیة‏‎ ‎‏أیضاً ، مع أنّها قاصرة عن إفادة تمام المطلوب ؛ لأنّها ظاهرة فی الاختصاص بصورةٍ‏‎ ‎‏یکون الفحص مؤدّیاً إلی العلم بالواقع ، والمطلوب أعمّ من ذلک‏‎[20]‎‏ ، انتهی کلامه .‏

ولا یخفی ما فی هذه الدعاوی :

‏أمّا الأوّل :‏‏ فلأنّه لو کانت أدلّة البراءة واردة علیها فالتعییر علی عدم العلم‏‎ ‎‏بماذا ؟ وما معنی الهلکة فی ترک السؤال ؟ ولماذا دعا ‏‏علیه السلام‏‏ علی القوم الذین غسّلوا‏‎ ‎‏المجدور بأنّه قاتلهم الله ‏‎[21]‎‏ ؟ فهل بعد ذلک التعبیرات یصحّ لنا أن نقول بورود إطلاق‏‎ ‎‏أدلّتها علی هذه الطائفة من الأخبار ؟ بل یکشف ذلک أنّه لا إطلاق لها من رأس .‏

وأضعف منه :‏ دعوی اختصاصها بصورة العلم الإجمالی ، وأیّ شاهد علی‏‎ ‎‏هذا الاختصاص مع شمولها علی الشبهة البدویة ؟ !‏

وأمّا الثالث :‏ فلاشکّ فی إطلاقها ، فهی عامّة تشمل صور العلم بالوصول إلی‏‎ ‎‏الحکم وعدمه .‏

‏نعم لو علم بأنّه لایصل إلی الواقع فلا شکّ فی عدم وجوب التعلّم والفحص ؛‏‎ ‎‏لأنّ إیجاب التعلّم لأجل العلم بالواقع ، ومع الیأس عن الوصول لا معنی لإیجابه .‏‎ ‎‏وأمّا مع العلم بالوصول أو الشکّ فیه فلا ریب فی أنّ إطلاقها محکّم وحاکمة علی‏‎ ‎‏إطلاق أدلّة البراءة ، لو قلنا بوجود الإطلاق فیها .‏

‏ثمّ إنّه قد ذکر لجریان البراءة شرطین آخرین‏‎[22]‎‏ ، وبما أنّهما بمکان من‏‎ ‎‏الضعف فقد ضربنا عنهما صفحاً .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 456
‏نعم ، إنّ جمعاً من المحقّقین ـ منهم الشیخ الأعظم وتلامیذه ـ قد استطرفوا‏‎ ‎‏المقام بالبحث عن قاعدة لاضرر ؛ استطراداً لما فیها عظیم فائدة ، وقد آثرناهم فی‏‎ ‎‏موارد کثیرة .‏

‏وبما أنّ مباحث القاعدة طویلة الذیل أفردنا لها رسالة مستقلّة ، وإلی المولی‏‎ ‎‏سبحانه نبتهل ومنه نستمدّ ، وهو ولی التوفیق .‏

‏ ‏

وقد فرغنا عن تسوید هذه المباحث سنة 1375 من شهر شعبان‎ ‎المعظّم فی مدینة قم وحوزتها العلمیة ـ صانها الله عن البلیة ـ‎ ‎وتمّ بید مؤلّفـه الحقیر محمّد جعفر السبحانی ، ابـن الفقیـه‎ ‎الحاجّ میرزا محمّد حسین التبریزی ، عاملهما الله بلطفـه الخفی .

‏وقد فرغنا عن تبییضه عصر یوم السبت فی الرابع والعشرین‏‎ ‎‏من رمضان المبارک من شهور عام 1379 فی قریة «ماهان» من‏‎ ‎‏مصائف کرمـان ، والله ولیّ التوفیق ، نِعم المولی ونِعم النصیر .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 457

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 458

  • )) الخصال : 417 / 9 ، التوحید ، الصدوق : 353 / 24 ، وسائل الشیعة 15 : 369 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحدیث 1 .
  • )) الکافی 6 : 297 / 2 ، وسائل الشیعة 3 : 493 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب 50 ، الحدیث 11 ، و 24 : 90 ، کتاب الصید والذبائح ، أبواب الذبائح ، الباب 38 ، الحدیث 2 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 412 ، اُنظر کفایة الاُصول : 424 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 414 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 428 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 81 ـ 82 و 239 و 241 ـ 242 .
  • )) الإسراء (17) : 15 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 15 .
  • )) الطلاق (65) : 7 .
  • )) الکافی 1 : 162 / 1 و 164 / 4 .
  • )) الفقیه 1 : 208 / 937 ، وسائل الشیعة 27 : 173 ، کتاب القضاء ، أبواب صفات القاضی ، الباب 12 ، الحدیث 67 .
  • )) الکافی 1 : 30 / 1 و 5 .
  • )) الکافی 1 : 30 / 4 .
  • )) الکافی 1 : 31 / 6 .
  • )) الکافی 1 : 30 / 3 .
  • )) الکافی 1 : 40 / 2 .
  • )) الأمالی ، الشیخ الطوسی : 9 / 10 ، تفسیر نور الثقلین 1 : 775 / 330 .
  • )) الفقیه 1 : 45 / 177 ، وسائل الشیعة 3 : 331 ، کتاب الطهارة ، أبواب الأغسال المسنونة ، الباب 18 ، الحدیث 1 .
  • )) راجع وسائل الشیعة 3 : 346 ، کتاب الطهارة ، أبواب التیمّم ، الباب 5 ، الحدیث 1 و 3 و 6 .
  • )) نهایة الأفکار : 474 ـ 475 .
  • )) وسائل الشیعة 3 : 347 ، کتاب الطهارة ، أبواب التیمّم ، الباب 5 ، الحدیث 6 .
  • )) الوافیة فی اُصول الفقه : 193 .