شرائط جریان البراءة الشرعیة
أمّا البراءة الشرعیة فربّما یتوهّم إطلاق أدلّتها ؛ قائلاً بأنّه ظاهر قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «رفع عن اُمّتی . . . ما لا یعلمون» ، و«إنّ الناس فی سعة ما لا یعلمون» هو الرفع والتوسعة ؛ کان قبل الفحص أو بعده .
وربّما یجاب بالتقیید بالإجماع ، وهو کما تری . وربّما یتمسّک بالعلم الإجمالی ، وقد عرفت : أنّ التمسّک به خروج عن موضوع البحث ؛ لأنّ البحث فی شرائط الجریان بعد الفراغ عن کون المقام مجری لها .
والحقّ : إنکار إطلاقها لما قبل الفحص ، وذلک بوجهین :
الأوّل : أنّ العقل یحکم بوجـوب اللطف علی الله ببعث الـرسل وإنـزال الکتب حتّی ینتفع الناس بأحکامـه تعالی عاجـلاً وآجـلاً ، ویصلح حالهم فی الـدنیا والآخـرة .
ومع هذا الحکم الباتّ هل یمکن أن یحتمل العقل أنّ من أحکامه تعالی هو
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 452
الرفع بقول مطلق ؛ بأن یجوز لهم الإعراض عن سماع قول الأنبیاء وترک التعلّم والتفحّص عن أحکامه وشریعته ؛ حتّی یتنزّلوا منزلة البهائم والمجانین ؟ حاشا وکلاّ !
وإن أبیت عن ذلک کلّه ـ لأجل وضوح کثیر من الأحکام ـ فلا مانع من جریان البراءة فی الباقی : فلا أقلّ من انصراف أدلّتها عمّا قبل الفحص .
الثانی ـ وهو الموافق للتحقیق ـ أنّ المراد من عدم العلم المأخوذ موضوعاً فی لسان أدلّتها لیس العلم الوجدانی حتّی یکون تقدیم أدلّة الأمارات والاُصول الحاکمة علیها من باب التخصیص ؛ لاستهجان ذلک التخصیص الکثیر ، بل لایخلو عن استهجان ؛ ولو کان بنحو الحکومة أیضاً .
بل المراد من العلم هو الحجّة ، ومفادها : أنّه رفع عمّا لا حجّة علیه . وسیوافیک فی مبحث الاستصحاب : أنّ إطلاق العلم والیقین بهذا المعنی کثیر فی الأخبار . ومن المعلوم : أنّ الحجّة موجودة فی الکتاب والسنّة ، وقد قامت الحجّة علی کثیر من الأحکام ، ووصلت إلینا وصولاً متعارفاً ، فمع عدم الفحص یشکّ فی تحقّق ما هو موضوع البراءة .
وإن أبیت : فلاحظ لسان أدّلتها ؛ فإنّ قوله تعالی :«وَما کُنّا مُعَذِّبِینَ حَتّی نَبْعَثَ رَسُولاً» من أدلّة البراءة ، وأوضحنا مفاده ، وهو کما تری جعل بعث الرسول غایةً لرفع التعذیب .
وقـد عرفت أنّ المراد ـ ولـو بمعونة مناسبـة الحکم والموضوع ـ مـن بعثه هـو تبلیغ أحکامـه وإیصال شریعته علی النحو الـدائر بین العقلاء ، فیدلّ أنّـه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 453
لـو بلّغ الرسول وأتمّ الحجّة لوقع التعذیب علی فرض المخالفة .
هذا مفاد الآیة ، والمفروض أنّ الرسول قد بلّغ وأتمّ البیان بالکتاب والسنّة ، فلایجوز الصفح عنهما .
ومثله قوله تعالی : «لا یُکَلِّفُ الله ُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها» ، بناءً علی دلالتها .
ومثله الروایات المذکورة فی بابها من قوله علیه السلام : «إنّما یحتجّ علی العباد بما آتاهم وعرّفهم» ، وقوله علیه السلام : «کلّ شیء مطلق حتّی یرد فیه نهی» ، فتلک الأدلّة صریحة فی تقیّد البراءة بورود النهی وما فی معناه ، والمفروض ورود النهی فی مظانّه . ولو فرض هنا إطلاق یقیّد بهذه الأدلّة .
ومع الغضّ عمّا ذکرنا کلّه : فلا شکّ أنّ ما یدلّ علی وجوب التعلّم والتفقّه فی الدین حاکم علی إطلاق أدلّة البراءة ، وإلیک نماذج من هذه الروایات :
مثل قوله صلی الله علیه و آله وسلم : «طلب العلم فریضة علی کلّ مسلم» .
وما فی مرسلة «الکافی» عن علی علیه السلام : «ألا وإنّ طلب العلم أوجب علیکم من طلب المال» إلی أن قال : «والعلم مخزون عند أهله ، وقد أمرتم بطلبه من أهله ، فاطلبوه» .
وما فی «الکافی» عن أبی عبدالله علیه السلام : «تفقّهوا فی الدین ؛ فإنّه من لم یتفقّه
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 454
منکم فی الدین فهو أعرابی» .
وما فی «الکافی» عن یونس عن بعض أصحابنا قال : سئل أبوالحسن علیه السلام هل یسع الناس ترک مسألة عمّا یحتاجون إلیه ؟ فقال : «لا» .
وما فی «الکافی» فی الصحیح قال أبو عبدالله علیه السلام لحمران بن أعین فی شیء سأله : «إنّما یهلک الناس لأنّهم لا یسألون» .
وما ورد فی تفسیر قوله تعالی : «فَلِلّٰهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» .
وما ورد فیمن أطال الجلوس فی بیت الخلا .
وما ورد فی غسل المجدور ، إلی غیر ذلک من الروایات .
ولاشکّ فی حکومة تلک الطائفة علی إطلاقات الباب ؛ فإنّها متعرّضة لما هو موضوع دلیل البراءة ، وتتعرّض لما لم یتعرّض له أدلّة البراءة .
ثمّ إنّ بعض محقّقی العصر رحمه الله قد استشکل فی صلاحیة تلک الأدلّة لتقیید مطلقات الباب ؛ قائلاً بأنّها ظاهرة فی الإرشاد إلی حکم العقل بلزوم الفحص لأجل استقرار الجهل الموجب لعذره ، فعموم أدلّة البراءة واردة علیها ؛ لأنّه بقیام الترخیص الشرعی قبل الفحص یرتفع حکم العقل .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 455
مضافاً إلی إمکان دعوی اختصاصها بصورة العلم الإجمالی ، فتکون إرشادیة أیضاً ، مع أنّها قاصرة عن إفادة تمام المطلوب ؛ لأنّها ظاهرة فی الاختصاص بصورةٍ یکون الفحص مؤدّیاً إلی العلم بالواقع ، والمطلوب أعمّ من ذلک ، انتهی کلامه .
ولا یخفی ما فی هذه الدعاوی :
أمّا الأوّل : فلأنّه لو کانت أدلّة البراءة واردة علیها فالتعییر علی عدم العلم بماذا ؟ وما معنی الهلکة فی ترک السؤال ؟ ولماذا دعا علیه السلام علی القوم الذین غسّلوا المجدور بأنّه قاتلهم الله ؟ فهل بعد ذلک التعبیرات یصحّ لنا أن نقول بورود إطلاق أدلّتها علی هذه الطائفة من الأخبار ؟ بل یکشف ذلک أنّه لا إطلاق لها من رأس .
وأضعف منه : دعوی اختصاصها بصورة العلم الإجمالی ، وأیّ شاهد علی هذا الاختصاص مع شمولها علی الشبهة البدویة ؟ !
وأمّا الثالث : فلاشکّ فی إطلاقها ، فهی عامّة تشمل صور العلم بالوصول إلی الحکم وعدمه .
نعم لو علم بأنّه لایصل إلی الواقع فلا شکّ فی عدم وجوب التعلّم والفحص ؛ لأنّ إیجاب التعلّم لأجل العلم بالواقع ، ومع الیأس عن الوصول لا معنی لإیجابه . وأمّا مع العلم بالوصول أو الشکّ فیه فلا ریب فی أنّ إطلاقها محکّم وحاکمة علی إطلاق أدلّة البراءة ، لو قلنا بوجود الإطلاق فیها .
ثمّ إنّه قد ذکر لجریان البراءة شرطین آخرین ، وبما أنّهما بمکان من الضعف فقد ضربنا عنهما صفحاً .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 456
نعم ، إنّ جمعاً من المحقّقین ـ منهم الشیخ الأعظم وتلامیذه ـ قد استطرفوا المقام بالبحث عن قاعدة لاضرر ؛ استطراداً لما فیها عظیم فائدة ، وقد آثرناهم فی موارد کثیرة .
وبما أنّ مباحث القاعدة طویلة الذیل أفردنا لها رسالة مستقلّة ، وإلی المولی سبحانه نبتهل ومنه نستمدّ ، وهو ولی التوفیق .
وقد فرغنا عن تسوید هذه المباحث سنة 1375 من شهر شعبان المعظّم فی مدینة قم وحوزتها العلمیة ـ صانها الله عن البلیة ـ وتمّ بید مؤلّفـه الحقیر محمّد جعفر السبحانی ، ابـن الفقیـه الحاجّ میرزا محمّد حسین التبریزی ، عاملهما الله بلطفـه الخفی .
وقد فرغنا عن تبییضه عصر یوم السبت فی الرابع والعشرین من رمضان المبارک من شهور عام 1379 فی قریة «ماهان» من مصائف کرمـان ، والله ولیّ التوفیق ، نِعم المولی ونِعم النصیر .
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 457
کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث الاستادالاعظم والعلامه الافخم ... الامام الخمینی (س)صفحه 458