المقصد السابع فی الاُصول العملیة

أجوبة المحقّقین عن إشکال التنافی

أجوبة المحقّقین عن إشکال التنافی

‏ ‏

‏ولقد أجـاب عـن هـذه العویصة ثلّـة مـن المحقّقین لا بأس بالإشارة إلی‏‎ ‎‏تلک الأجوبة :‏

الأوّل :‏ ما أفاده المحقّق الخراسانی : من احتمال کون الناقص واجداً لمصلحة‏‎ ‎‏ملزمة مضادّة فی مقام الاستیفاء مع المصلحة القائمة بالتامّ ، والتامّ بما هو تامّ‏‎ ‎‏مشتمل علی مصلحة ملزمة ، ویکون مأموراً به لا الناقص ، لکن مع الإتیان بالناقص‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 446
‏یستوفی مقدار من المصلحة المضادّة لمصلحة التامّ ، فیسقط أمر التامّ لأجله ،‏‎ ‎‏ویکون الصلاة صحیحة لأجل استیفاء تلک المصلحة‏‎[1]‎‏ ، انتهی .‏

‏وهذا الجواب یدفع الإشکال بحذافیره :‏

‏أمّا صحّة الصلاة المأتی بها : فلعدم توقّفها علی الأمر واشتمالها علی‏‎ ‎‏المصلحة الملزمة .‏

‏وأمّا العقاب : فلأنّه ترک المأمور به عن تقصیر والإتیان بالناقص أوجب‏‎ ‎‏سقوط أمره قهراً ، وعدمَ إمکان استیفاء الفائت من المصلحة ؛ لأجل عدم اجتماعها‏‎ ‎‏مع المستوفاة .‏

‏وأورد علیه بعض أعاظم العصر : بأنّ الخصوصیة الزائدة من المصلحة القائمة‏‎ ‎‏بالفعل المأتی به فی حال الجهل إن کان لها دخل فی حصول الغرض من الواجب‏‎ ‎‏فلا یعقل سقوطه بالفاقد لها ؛ خصوصاً مع إمکان استیفائها فی الوقت ، کما لو علم‏‎ ‎‏بالحکم فی الوقت . ودعوی عدم إمکان اجتماع المصلحتین فی الاستیفاء ؛ لأنّ‏‎ ‎‏استیفاء إحداهما یوجب سلب القدرة عن استیفاء الاُخری واضحة الفساد ؛ لأنّ‏‎ ‎‏القدرة علی الصلاة المقصورة القائمة بها المصلحة التامّة حاصلة ، ولا یعتبر فی‏‎ ‎‏استیفاء المصلحة سوی القدرة علی متعلّقها . وإن لم یکن لها دخل فاللازم هو‏‎ ‎‏الحکم بالتخییر بین القصر والإتمام ، غایته أن یکون القصر أفضل فردی التخییر‏‎[2]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّ الخصوصیة الزائدة لازمة الاستیفاء ، إلاّ أنّها لا دخالة لها فی‏‎ ‎‏حصول المصلحة القائمة بالناقص ، فهی ممکنة الاستیفاء ؛ وإن لم ینضمّ إلیه‏‎ ‎‏الخصوصیة الزائدة التی لها دخل فی استیفاء الغرض الأکمل .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 447
‏وأمّا عدم الأمر باستیفائها بعد الإتیان بالفرد الناقص : فللتضادّ بین‏‎ ‎‏المصلحتین وعدم إمکان استیفائها إلاّ فی ضمن المجموع ، ولا یمکن استیفاؤها‏‎ ‎‏بالإتیان بها مستقلّاً أو فی ضمن الناقص الذی لیس فیه مصلحة بعد .‏

‏وهذا هو المراد من قول المحقّق الخراسانی من عدم إمکان استیفاء‏‎ ‎‏المصلحتین ؛ فإنّ للاستیفاء طریقین : إمّا بالإتیان بها مستقلّاً، أو فی ضمن الناقص‏‎ ‎‏غیر القائم به المصلحة ، وکلاهما غیر صحیح .‏

‏فما أفـاده : مـن أنّ القـدرة علی الإتیان بالصلاة المقصورة حاصلـة‏‎ ‎‏غیر صحیحة ؛ فإنّه خلط بین القدرة علی الصلاة القائم بها لمصلحة وصورة الصلاة ،‏‎ ‎‏فهو قادر بعد الإتیان بالناقص علی الثانیة دون الاُولی .‏

الثانی :‏ ما أفاده بعض محقّقی العصر ‏‏قدس سره‏‏ من الالتزام بتعدّد المطلوب ؛ بأن‏‎ ‎‏یکون الجامع بین القصر والتمام والجهر والإخفات مشتملاً علی مرتبة من المصلحة‏‎ ‎‏الملزمة ، ویکون لخصوصیة القصریة وکذا الجهریة مصلحة زائدة ملزمة أیضاً .‏

‏مع کون المأتی به الفاقد لتلک الخصوصیة من جهة وفائه بمصلحة الجامع‏‎ ‎‏المتحقّق فی ضمنه مقوّماً للمصلحـة الزائـدة القائمـة بالخصوصیـة القصریـة أو‏‎ ‎‏الجهریـة ؛ بحیث لایبقی مع استیفائها به مجال لتحصیل الزائدة القائمة‏‎ ‎‏بالخصوصیـة . فیقال أمّا الصحّة : فلوفائه بمرتبة من المصلحة الملزمة القائمة‏‎ ‎‏بالجامع وصیرورته بذلک مأموراً به بمرتبة من الأمر المتعلّق بالجامع ضمناً ، وأمّا‏‎ ‎‏العقاب : فلتفویته المصلحة اللازمة القائمة بالخصوصیة القصریة‏‎[3]‎‏ ، انتهی .‏

‏وحاصلـه : تعلّق أمـر بالجامـع ، وأمـر آخـر بالواجـد للخصوصیـة ، وهـو‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 448
‏مبنی علـی أن یکون المطلق والمقیّـد عنوانین مختلفین ؛ بحیث یـدفعان التضادّ‏‎ ‎‏بیـن الأحکام .‏

‏وقد قلنا فی مبحث الاجتماع ما هو حقیقة الحال ، ورجّحنا خلافه‏‎[4]‎‏ ؛ قائلاً‏‎ ‎‏بأنّ المقیّد عین المطلق مع قید آخر ؛ عینیة اللابشرط مع بشرط شیء ، ومثله غیر‏‎ ‎‏کافٍ فی دفع التضادّ بین الأمر والنهی ، والتضادّ بین الأمرین .‏

‏اللهمّ إلاّ أن یفرّق بین المقامین ؛ بدعوی أنّ امتناع تعلّق الأمر والنهی بهما‏‎ ‎‏لیس لأجل التضادّ بینهما ؛ لعدم التضادّ بین الأحکام ، بل لأمر آخر راجع إلی عدم‏‎ ‎‏الجمع بین الإرادتین .‏

‏وأمّا المقام فلا مانع یمنع عن تعلّق بعثین إلیه ، وکون المطلق محبوباً والمقیّد‏‎ ‎‏محبوباً آخر . فالعطشان المشرف للموت ، الذی یندفع هلاکه بمطلق الماء وبالماء‏‎ ‎‏البارد فهو بنحو الإطلاق محبوب ، وبقید أنّه بارد محبوب مؤکّد .‏

‏فإن قلت : تشخّص الإرادة بالمراد ؛ فلو صحّ ما حُرّر فی مبحث النواهی ـ من‏‎ ‎‏عینیة المطلق مع المقیّد ـ فکیف تتشخّص الإرادتان بشیء ؟ فلو قیل بالمغایرة فهو‏‎ ‎‏کما یصحّح اجتماع البعثین یصحّح اجتماع الأمر والزجر .‏

‏قلت : نعم ، لکن یکفی فی تشخّصهما اختلاف هویة المتعلّقین ، ولایکفی ذلک‏‎ ‎‏فی جواز تعلّق الإرادة المضادّة للاُخری .‏

الثالث :‏ ما أجاب به الشیخ الأکبر کاشف الغطاء من الالتزام بالترتّب ، وأنّ‏‎ ‎‏المأمور به أوّلاً وبالذات هو القصر مثلاً ، فلو عصی وترکه ـ ولو للجهل بالحکم ـ‏‎ ‎‏یجب علیه الإتمام‏‎[5]‎‏ .‏


کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 449
‏وأورد علیه بعض أعاظم العصر ـ مضافاً إلی ما ذکره الشیخ الأعظم من عدم‏‎ ‎‏إمکان الترتّب‏‎[6]‎‏ ـ بأنّه أجنبی عن الترتّب ؛ لأنّه یعتبر فی الخطاب الترتّبی أن یکون‏‎ ‎‏کلّ من المتعلّقین واجداً لتمام ما هو ملاک الحکم ، ویکون المانع من تعلّق الأمر بکلّ‏‎ ‎‏منهما هو عدم القدرة علی الجمع ؛ للتضادّ بینهما ، والمقام لیس کذلک ؛ لعدم ثبوت‏‎ ‎‏الملاک فیهما ، وإلاّ لتعلّق الأمر بکلّ منهما ؛ لإمکان الجمع بینهما ، ولیسا کالضدّین .‏‎ ‎‏فعدم تعلّق الأمر بهما یکشف عن عدم الملاک .‏

‏هذا ، مع أنّه یعتبر فی الخطاب الترتّبی أن یکون خطاب المهمّ مشروطاً‏‎ ‎‏بعصیان الأهمّ ، وفی المقام لایعقل أن یخاطب التارک للقصر بعنوان العاصی ؛ فإنّه‏‎ ‎‏لایلتفت إلیه ، وإلاّ یخرج من عنوان الجاهل ، ولاتصحّ منه حینئذٍ الصلاة التامّة ، فلا‏‎ ‎‏یندرج فی صغری الترتّب‏‎[7]‎‏ ، انتهی .‏

قلت : والکلّ ضعیف :

‏أمّا الأوّل :‏‏ فلأنّ البحث مبنی علی صحّة الترتّب .‏

وربّما یقال‏ بإمکانه فی المقام ؛ وإن لم یکن ممکناً فی غیره ؛ لأنّ الشرط فی‏‎ ‎‏المقام للأمر بالتمام یحتمل أن یکون أمراً انتزاعیاً ؛ وهو کونه ممّن لایأتی بالقصر‏‎ ‎‏جهلاً قبل التمام ، وهو حاصل من أوّل الأمر .‏

‏ومثل هذا الشرط ممّا یمتنع أن یکون شرطاً للأمر بالمهمّ ؛ لاستلزامه وجود‏‎ ‎‏أمرین فعلیین متوجّهین إلیه فی زمان واحد مع عجزه ، بخلاف المقام ؛ فإنّه یصحّ أن‏‎ ‎‏یجعل شرطاً للأمر بالتمام ؛ لأنّه لایکون فی المقام عاجزاً عن الإتیان بالقصر‏

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 450
‏والتمام ، إنّما الکلام فی الملاک ، وهو حاصل عند حصول العنوان الانتزاعی .‏

وفیه :‏ أنّ لازم ما ذکره استحقاق عقابین إذا ترک کلتا الصلاتین ، ولا أظنّ‏‎ ‎‏القائل یلتزم به ؛ وإن التزمنا به فی باب الترتّب علی وجه آخر‏‎[8]‎‏ .‏

‏أضف إلیه : أنّ ما ذکره خلط بین القدرة علی صورة الصلاة ، وحقیقتها بما لها‏‎ ‎‏من الملاک ، والمقدور هو الأوّل لا الثانی ، فهو أیضاً عاجز عن الإتیان بالصلاتین‏‎ ‎‏بالمعنی الذی عرفت ، فتأمّل .‏

وأمّا الثانی :‏ فلأنّه لایشترط أن یکون الضدّ واجداً للملاک من أوّل الأمـر ،‏‎ ‎‏بل یکفی حـدوث الملاک عند الجهل بحکم القصر أو عند العصیان . بل لا إشکال‏‎ ‎‏فی أنّ الصلاتین واجدتان للملاک ؛ أمّا القصر فواضح ، وأمّا التمام فهو أیضاً صحیح‏‎ ‎‏عند عدم الإتیان بالقصر عند الجهل بالحکم ؛ نصّاً وإجماعاً ، وقد وافاک معنی‏‎ ‎‏کونهما متضادّین .‏

وأمّا الثالث :‏ فبأنّه لا یشترط فی الخطاب الترتّبی أن یکون المخاطب متوجّهاً‏‎ ‎‏إلی الشرط المأخوذ موضوعاً للأمر الثانوی ، بل یکفی وجوده الواقعی ؛ وإن لم‏‎ ‎‏یلتفت کما فی المقام ، فتأمّل‏‎[9]‎‏ . وقد تقدّم فی خطاب الناسی ما یفید فی المقام‏‎[10]‎‏ .‏

‏ثمّ إنّ فی المقام أجوبة شتّی ، وفیما ذکرنا غنیً وکفایة .‏

هذا کلّه فی البراءة العقلیة .

‎ ‎

کتابتهذیب الاصول (ج. ۳): ت‍ق‍ری‍ر اب‍ح‍اث الاس‍ت‍ادالاع‍ظم وال‍ع‍لام‍ه الاف‍خ‍م ... الام‍ام ال‍خ‍م‍ی‍ن‍ی (س)صفحه 451

  • )) کفایة الاُصول : 428 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 291 ـ 292 .
  • )) نهایة الأفکار 3 : 484 ـ 485 .
  • )) تقدّم فی الجزء الثانی : 37 .
  • )) کشف الغطاء 1 : 171 .
  • )) فرائد الاُصول ، ضمن تراث الشیخ الأعظم 25 : 439 .
  • )) فوائد الاُصول (تقریرات المحقّق النائینی) الکاظمی 4 : 293 .
  • )) تقدّم فی الجزء الأوّل : 443 ـ 444 .
  • )) إشارة إلی عدم معقولیة الترتّب فی المقام ؛ فإنّ الموضوع للأمر الثانوی إنّما هوالعصیان بترک القصر فی تمام الوقت ؛ سواء کان شرطاً بوجوده الخارجی أو بوجوده اللحاظی ، وهو غیر متحقّق فی المقام ؛ لأنّ المفروض بقاء الوقت ، ولایحصل العصیان إلاّ بانقضائه . [المؤلّف]
  • )) تقدّم فی الصفحة 348 .